رمضان شهر الصبر (1)<font color="#FF0000"><sub>للشيخ الحمد</sub></font>

الحمد لله الذي هدانا لأقوم السُّبل، ونسأله أن يمدَّنا بعـزم لا يأخذه فتـور ولا ملل، وأن ينفي عن قلوبِنا اليأس ويقوي منّا الأمل، والصلاة والسلام على نبينا محمد المؤيد بأجلّ آية، وأسطع برهان، الداعي إلى الدين الحق بأقوم حجة وأبلغ بيان، وعلى آله وأصحابه السادة الأمجاد، الذين فتحوا بحكمتهم القلوب، وبأسنتهم الوهاد والنجاد، أما بعد:
فإن رمضان شهرُ الصبر، ومدرسةُ الصبر؛ فالصومُ تعويدٌ على الصبر، وتمرينٌ عليه، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهرَ رمضان شهرَ الصبر.
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم نصف الصبر). أخرجه الترمذي.
ثم إن الصبر ثلاثة أنواع:
صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
وتجتمع هذه الثلاثةُ كلُّها في الصوم؛ فإن فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عمّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم من ألم الجوع، والعطش، وضعف النفس والبدن.
وهذا الألمُ الناشئُ عن أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه؛ كما قال_تعالى_في المجاهدين: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
بل إن الصومَ يضاعَفُ مضاعفةً خاصةً، ذلك أن الله_عز وجل_يتولى جزاء الصائمين، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف).
قال الله_عز وجل_: (إلا الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) الحديث.
قال ابن رجب -رحمه الله- في هذا الحديث: "فعلى هذه الروايةِ؛ يكون استثناءُ الصومِ من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمالُ كلُّها تضاعف بعشر أمثالها إلا الصيام؛ فإنه لا ينحصر تضعيفُه في هذا العدد، بل يضاعفه الله_عز وجل_أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد؛ فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ".ا_هـ.
أيها الصائمون هكذا يتبين لنا عِظمُ الارتباط بين الصوم والصبر، ويتضح لنا أن الصوم سبيلٌ إلى اكتساب خلق الصبر، ذلك الخلقُ العظيم الذي أمر الله به، وأعلى مناره، وأكثر من ذكره في كتابه، وأثنى على أهلِه القائمين به، ووعدهم بالأجر الجزيل عنده.
قال تعالى: (واصبر وما صبرك إلاّ بالله)، وقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، وقال_عزو جل_: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، وقال: (وبشر الصابرين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (ومن يتصبّر يصبّره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً أعظمَ ولا أوسعَ من الصبر).
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا خيرَ عيشِنا بالصبر).
وقال: (أفضلُ عيشٍ أدركناه بالصبر، ولو أن الصبرَ كان من الرجال كان كريماً).
وقال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (الصبرُ مطيةٌ لا تكبو).
وقال الحسن رحمه الله: (الصبرُ كنزٌ من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده).
معاشر المؤمنين: الصائمُ المحتسبُ يُفيد دروساً جمةً في الصبر من جرّاء صيامه، فهو يدعُ الطعامَ والشراب والشهوة حالَ صيامه، فيفيد درساً عظيماً في الصبر؛ حيث يتعوَّد فَطْمَ نفسه عن شهواتها وغيّها.


ومَنْ يطعمُ النفسَ ما تشتهي
كمَن يُطعمُ النارَ جَزْلَ الحطبْ
والصائمُ المحتسبُ إذا أوذي أو شتم لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا تضطرب نفسه، فكأنه بذلك يقول لمن أساء إليه: افعل ما شئت، فقد عاهدت ربي بصومي على أن أحفظ لساني وجوارحي، فكيف أنقض العهد، أو أسيء إليك كما أسأتَ إليّ (لئن بسطت يدك إلى لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين).
والصائم المحتسبُ لا يثور لأتفه الأسباب كحال من لم يتسلحوا بالصبر،ممن يظنون أن الصومَ عقوبةٌ وحرمانٌ، فيخرجون عن طورهم، وتثور نفوسهم، وتضطرب أعصابهم.
أما الصائم المحتسبُ فتراه هادئَ النفس، ساكن الجوارحِ، رضيَّ القلب.
والصائمُ المحتسبُ يطرد روح الملل؛لأن صيامه لله،وصبره بالله،وجزاءه على الله.
والأمةُ الصائمةُ المحتسبةُ تتعلمُ الانضباطَ والصبرَ على النظام، والتحررَ من أسر العادات.
وهكذا يتبين لنا أثرُ الصيام في اكتساب خلق الصبر؛ فإذا تحلى الإنسان به كان جديراً بأن يفلح في حياته، وأن يقدِّمَ الخيرَ العميمَ لأمته، ويتركَ فيها الأثرَ الكبيرَ.
وإن عَطُل من الصبر فما أسرعَ خورَه، وما أقل أثرَه.
ثم إن الإنسان_أيَّ إنسان_لا بد له من الصبر، إما اختياراً وإما اضطراراً؛ ذلك أنه عُرضةٌ لكثير من البلاء في نفسه بالمرض، وفي ماله بالضياع، وفي أولاده وأحبته بالموت، وفي حياتِه العامةِ بالحروبِ وتوابِعها من فقدان كثير من حاجاته التي تعوَّدها في حياته؛ فإذا لم يتعوَّدِ الصبرَ على المشاقِّ وعلى تركِ ما يألف _وقع صريع تلك الأحداث.
وكذلك حال الإنسان مع الشهوات؛ فهي تتـزين له، وتغريه، وتتمثل له بكل سبيل، فإذا لم يكن معه رادعٌ من الصبر، ووازعٌ من الإيمان أوشك أن يتردى في الحضيض.
ومَنْ كان متصدياً للدعوة إلى الإصلاح، منبرياً للدفاع عن الحق _فما أشد حاجتَه إلى الصبرِ، وتوطينِ نفسِه على المكاره؛ فإن في ذلك السبيل عقبة كؤوداً لا يقتحمها إلا ذو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية، وأحلاماً طائشة، وألسنةً مقذعةً، وربما كان فيهم أيدٍ باطشةٌ، وأرجلٌ إلى غير الحق ساعية.
وإنما تعظم همةُ الداعي إلى الحق والإصلاح بقدر صبره، وبقدر ما يتوقعه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه؛ فلا بد لأهل الحق من الصبر على دعوة الناس، ولا بدّ لهم من الصبر في انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائجَ معاكسةٍ تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمةً للداعية من الانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيعُ العزم والثبات.
إنه الصبر المُتْرَعُ بأنواع الأمل العريضِ،والثقةِ بمن بيده ملكوت كل شيء، ليس صبرَ اليائسِ الذي لم يجد بُدَّاً من الصبر فصبر، ولا صبر الخانع الذليل لغير ربه_جل وعلا_.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق، وأجلّ العبادات، وإن أعظمَ الصبرِ وأحمده عاقبةً الصبرُ على امتثال أمر الله،والانتهاء عمّا نهى الله عنه؛ لأنه به تَخْلُص الطاعة،ويصِحُّ الدين،ُ ويُسْتَحَقُ الثوابُ؛ فليس لمن قل صبرُه على الطاعةُ حظٌ من بِرٍّ، ولا نصيبٌ من صلاح.
ومن الصبر المحمود: الصبر على ما فات إدراكه من رغبةٍ مرجوَّة، وأعوزَ نيلُه من مسرةٍ مأمولةٍ، فإن الصبر عنها يُعقِب السلوَّ منها، والأسفُ بعد اليأسِ خَرَقُ.
ومن جميل الصبر: الصبرُ فيما يُخْشَى حدوثُه من رهبة يخافها، أو يحذرُ حلولَه من نكبةٍ يخشاها، فلا يتعجلْ همَّ ما لم يأتِِ؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبرِ الصبرُ على ما نـزل من مكروه، أو حلّ من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتحُ وجوهُ الآراءِ، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداءِ؛ فإن من قلّ صبره عَزُب رأيه، واشتد جزعُه، فصار صريعَ همومه، وفريسةَ غمومه.
وكما أن الأفرادَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم؛ لا تخرج عن سنن الله الكونية، فهي عرضةٌ للكوارث، والمحن.
وهي_في الوقت نفسه_مكلفةٌ بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّلِ جميعِ ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوةِ ثباتٍ، ويقينٍ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي _كذلك_ مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلا بد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى.
وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهِّل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تُرِكوا وطباعَهم وما أُوْدِعَ فيها من حبِّ للراحة، وإيثارٍ للدَّعة، ولم يُشَدَّ أَزْرُهُمْ بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه_ عجزت كواهِلُهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالُهم إزاء ملذاتها وشهواتها؛ فَيَفْقِدُون كلَّ استعدادٍ لتحصيل السمو، والعزة، والمنـزلة اللائقة.
فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقُل أرواحهم، ويزكّي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم.
ومن أعظم الشرائع التي يتحقق بها ذلك المقصود شريعةُ الصيام في شهر رمضان.
فيا أيها المسلمون!
هذا رمضان يعلمنا الصبر، ويربينا على خلق الصبر؛ فليكن لنا منه أوفرُ الحظِّ والنصيب، وليكن زاداً لنا فيما نستقبله من أعمارنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.