الصيام والخوف من الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن الخوف من أعظم منازل العبودية وأنفعها، ومن أجلِّ أعمال القلوب وأرفعها.
والخوف ثالثُ أركانِ العبادة؛ إذ هي تقوم على الحب، والخوف، والرجاء.
ولقد جاءت نصوص الشرع في بيان فضل الخوف، والحث عليه، والثناء على أهله، ووجوب إفراد الله به.
قال الله _تعالى_: "فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين".
وقال _عز وجل_: "ولمن خاف مقام ربه جنتان".
وقال _ تبارك وتعالى_: "ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد".
والخوف _معاشر الصائمين_ غمٌّ يلحق بالنفس؛ لتوقع مكروه.
وإذا قام الخوف من الله في قلب العبد فلا تَسْل عما يُعقبه من الخير، وما يورثه من الصلاح، والاستقامة والأمن والهدى والنور.
وإذا عَرِيَ القلب من الخوف من الله فلا تسل عما يورثه ذلك من الغم، والشر، والفساد، والقلق، والاضطراب، والضنك، والظلمة،
ولهذا فإن المنافقين يحسبون كل صيحة عليهم و "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
قال أبو حفصٍ عمرُ بنُ مسلمةَ النيسابوري _رحمه الله_ : "الخوف سِرَاجٌ في القلب به يُبْصَرُ ما فيه من الخير والشر، وكلُّ أحدٍ إذا خفته هَرَبْتَ مِنْهُ، إلا الله_عز وجل_ فإنك إذا خِفْتَهُ هَرَبْتَ إليه؛ فالخائفُ مِنْ رَبه هاربٌ إليه.
وقال إبراهيم بنُ سفيان _رحمه الله_: "إذا سكن الخوفُ القلوبَ أحرق مواضعَ الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها".
وقال ذو النون المصري _رحمه الله_: "الناس على الطريق ما لم يَزُلْ عنهم الخوف؛ فإذا زال الخوف ضلوا الطريق".
معاشر الصائمين: الخوف المحمود ما حجز عن محارم الله _كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله_.
والواجب من ذلك ما حمل على فعل الواجبات وترك المحرمات،
والمستحب منه ما حمل على فعل المستحبات وترك المكروهات،
فإذا تجاوز ذلك خِيْفَ على صاحبه من اليأس والقنوط.
معاشر الصائمين: لابد للعبد في سَيْرِهِ إلى الله أن يجمع بين الحب والخوف والرجاء؛ لأن عبادة الله بالخوف وحده طريقةُ الخوارج، ولذلك لا يجدون للعبادة لذَّةً، ولا إليه رغبة، فيجعلون الخالق بمنزلة سلطان جائر.
وهذا يورث اليأس والقنوط من رحمة الله، وغايتُه إساءةُ الظن بالله، والكفر به _عز وجل_.
وعبادة الله بالرجاء وحده طريقة المرجئة الذين وقعوا في الغرور والأماني الباطلة، وترك العمل الصالح، وغاية ذلك الخروج من الملة.
وعبادة الله بالحب وحده طريقة الزنادقة الذين يقولون: نعبد الله لا خوفاً من ناره، ولا طَمَعاً في جنته، إنما نعبده حباً لذاته.
وهذه طريقة فاسدة، ولها آثار وخيمة منها الأمن من مكر الله، وغايته الخروج من الدين.
ولهذا قال السلف كلمتهم المشهورة: "من عبدالله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري _أي: خارجي_ ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف، والرجاء فهو مؤمن موحد".
معاشر الصائمين: هناك أمور تبعث على الخوف من الله _عز وجل_ وإن الصيام لمن أعظم ذلك؛ فهو دليلٌ على الخوف من الله، وسبيلٌ إلى امتثاله وقيامِهِ بالقلب؛ ذلكم أن الصائم يصوم عن إيمان بالله، والخوفُ شعبةٌ عظمى من شعب الإيمان.
والصائم كذلك يدعُ طعامَه، وشرابه، وشهوته من أجل الله، ويجتنب كلَّ ما يفسد صومَهُ أو ينقص أجره من قول أو عمل.
وما من شك أن الخوف من الله من أعظم ما يحمله على ذلك،
وهكذا يتبين لنا أثر الصيام في اكتساب الخوف من الله، وقيامِهِ في قلب المؤمن الصائم.
وهكذا يستفيد العبد هذا الدرس العظيم من جرَّاءِ صومه، فيبعثه ذلك إلى لزوم الخوف من الله في شتى أحواله وسائر أيامه،
وإذا لزم هذه الطريقة عاش في أمان ويقظة وبصيرة.
فالصائم بحق يفرد الله بالخوف فلا يتقرب إلى أحد كائناً من كان بخوف التأله والتقرب، ولا يخشى من أحد أن يصيبه بفقر، أو غضب، أو سلب نعمه؛ لعلمه أن ذلك إنما يُصْرَفُ لله، ومن صَرَفَهُ لغير الله فقد أشرك.
والصائم بحق يخاف من وعيد الله للعصاة، فينزجر عن المعاصي لعلمه بعظمة الله، وشديد عقابه.
والصائم بحق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجاهد في سبيل الله حسب استطاعته وقدرته، ولا يخاف في الله لومة لائم.
والصائم بحق لا يبالي بالأوهام التي ليس لها سبب أصلاً، أو لها سبب ضعيف جداً؛ إذ إن هذا وصف الجبناء، ولقد تعوذ النبي _صلى الله عليه وسلم_ من الجبن؛ فهو من الأخلاق المرذولة،
ولهذا كان الإيمانُ التامُّ، والتوكلُ الصحيحُ أعظمَ ما يدفع هذا الخوف، ويملأ القلب شجاعة؛ فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه الخوف من غير الله، وكلما ضعف إيمانه وقل خوفه من الله زاد وقوي خوفه من غير الله.
ولهذا فإن خواص المؤمنين وأقوياء الإيمان تنقلب المخاوف في حقهم طمأنينة وأمناً ولو كانوا في جفن الردى؛ لقوة إيمانهم، وسلامة يقينهم، وكمال توكلهم.
"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".
اللهم اجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.