الصيام والرجاء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن الرجاء ركنٌ من أركان العبادة، وعمل عظيم من أعمال القلوب؛ فالعبادة تقوم على الحب والخوف والرجاء، والنصوص الشرعية تظافرت في بيان فضل الرجاء والحث عليه، والثناء على أهله.
قال الله _تعالى_: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه".
وقال النبي _عليه الصلاة والسلام_ : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله_عز وجل_" رواه مسلم.
معاشر الصائمين: الرجاء حادٍ يحدو القلوبَ إلى الله والدارِ الآخرةِ، ويطيِّبُ لها السيرَ؛ فهو استبشارٌ بفضل الرب، وثقةٌ بجوده، وارتياحٌ لمطالعةِ كرمه، ونظرٌ إلى سعة رحمته_عز وجل_.
هذا وإن النصوص الواردة في فضل صيام رمضان لمن أعظم ما يبعث الرجاء في قلب المؤمن.
ولو ذُكِرَتْ تلك النصوصُ مفصلةً لطال بنا المقام، فمن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَله ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه،ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه".
قال ابن حجر _رحمه الله_ في شرح الحديث: "قوله: "غُفِر له" ظاهُرهُ يتناول الصغائرَ والكبائرَ، وبه جزم ابنُ المنذر، وقال النوويُّ: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة".
قال بعضهم:" ويجوز أنه يخفف من الكبائر إن لم يصادف صغيرة" انتهى كلامه.
وجاء في الصحيحين _أيضاً_ عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "كل عملِ ابن آدمَ له،الحسنةُ بعشرِ أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله_عز وجل_ :إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به" الحديث.
فهذه النصوصُ وأمثالها تملأ قلبَ المؤمنِ رجاءً لله ، وانتظاراً لفضله_عز وجل_.
معاشر الصائمين هناك مسائل يحسن التنبه عليها في باب الرجاء، ومن ذلك ما يلي:
أولاً: أنه لابد للعبد في سيره إلى الله من الجمع بين أركان العبادة الثلاثة: الحب، والخوف، والرجاء؛ فالحب بمنزلة الرأس للطائر، والخوف والرجاء جناحاه.
ثانياً: أن أنواع الرجاء ثلاثة، نوعان محمودان، ونوع مذموم، فالأولان: رجاءُ رجلٍ عمل بطاعة الله على نورٍ من الله، فهو راجٍ لثواب الله، ورجاءُ رجلٍ أذنبَ ذنوباً ثم تاب منها، فهو راجٍ لمغفرة اللهِ وعفوهِ، وجودهِ، وإحسانهِ؛ فهذانِ النوعان محمودان، والثالث: رجاءُ رجلٍ متمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الرجاءُ المذموم، إذ هو غرور، ورجاءٌ كاذبٌ، وأمانيُّ باطلةٌ.
ثالثاً: أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل، فقد أجمع العلماء على ذلك.
رابعاً: أن هناك فرقاً بين الرجاء والتمني؛ فالتمني يكون مع الكسل، ولا يسلك صاحبه طريق الجد والاجتهاد، كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها، ويأخذ زرعها.
والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل كحالِ من يَشُقُ أرضَهُ، ويفلحُها، ويبذرها، ويرجو طلوع الزرع.
معاشر الصائمين: وإذا كان الرجاء في محله، وعلى وجهه الصحيح أثمر لصاحبه ثمراتٍ عظيمةً، وكان له فضائلُ جمةٌّ، منها ما يلي:
أولاً: إظهار العبودية والفاقة، والحاجة إلى ما يرجوه العبد من ربه، وأنه لا يستغني عنه طرفة عين.
ثانياً: أن الرجاء محبوب لله ؛ فالله_عز وجل_ يحب من عباده أن يرجوه، ويؤملوه ؛ فهو أجودُ مَنْ سُئِلَ، وأوسعُ مَنْ أَعْطَى.
ولا ريب أن أحبَّ ما إلى الجواد أن يرجى ويُؤْمَلَ ويُسْأَلَ.
ثالثاً: التخلص من غضب الله ؛ فمن لم يسأل الله يغضب الله عليه، والسائلُ راجٍ وطالبٌ.
رابعاً: أن الرجاء حادٍ يحدو بالعبد في سيره إلى الله، ويطيِّب له المسير، ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته، فلولا الر جاء لما سار أحد؛ فإن الخوف وحده لا يحرك العبد؛ وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء.
خامساً: أن الرجاء يطرح العبد على عتبه المحبة؛ فإنه كلما استمر رجاؤه، وحصل له ما يرجوه ازداد حباً لله_تعالى_ وشكراً له، ورضاً به وعنه.
سادساً: أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه، ومعانيها، والتعلق بها؛ فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى، متعبدٌ داعٍ بها.
سابعاً: أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه، فأعطاه ما رجاه كان ذلك ألطف موقعاً، وأحلى عند العبد من حصول ما لم يَرْجُه.
ثامناً: أن في الرجاء من الانتظار، والترقب، والتوقع لفضل الله ما يوجب تعلق القلب بذكره، ودوام الالتفات إليه.
هذه بعض فضائل الرجاء، وإن أردت مزيداً من ذلك فارجع إلى منزلة الرجاء في كتاب (مدارج السالكين) لابن القيم _رحمه الله_.
اللهم إنا نسالك حبك، وخوفك، ورجاءك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.