شهر البر<font color="#FF0000"><sub>للشيخ الحمد</sub></font>

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن رمضانَ شهرُ البرِّ، وموسمُ الخير ، وميدان التنافس.
وإن من أعظم البرِّ، وأجل القربات، برَّ الوالدين، ذلكم أن حقَّ الوالدين عظيم، ومنزلتهما عالية في الدين؛ فَبِرُّهما قرينُ التوحيد، وهو من أعظم أسباب دخول الجنة، وهو مما أقرته الفطر السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية.
وهو خلق الأنبياء،ودأب الصالحين،وهو سبب في زيادة العمر، وسعة الرزق، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وانشراح الصدر، وطيب الحياة.
وهو _أيضاً_ دليل صدق الإيمان،وعلامة حسن الوفاء،وسبب البر من الأبناء.
وفي مقابل ذلك فإن عقوق الوالدين ذنب عظيم، وكبيرة من الكبائر، فهو قرين للشرك، وموجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لرد العمل ودخول النار في الأخرى.
وهو جحودٌ للفضل، ونكرانٌ للجميل، ودليلٌ على الحمق والجهل، وعنوانٌ على الخسة، والدناءة، وأمارةٌ على حقارة الشأن وصَغرِ النفس.
ولعظم حق الوالدين تظاهرت نصوص الشرع آمرةً ببرهما والإحسان إليهما، ناهيةً عن عقوقهما والتقصير في حقهما، قارنة حقوقهما بحق الله_تعالى_.
قال الله_عز وجل_: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً).
وقال: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً).
وقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله_تعالى_؟قال: ((الصلاة على وقتها))قلت ثمَّ أي؟ قال: ((بر الوالدين)).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص_رضي الله عنهما_عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)) رواه البخاري.
ومع عظم تلك المكانة للوالدين إلا أننا نرى عقوقهما قد تفشى، وأخذ صوراً عديدةً، ومظاهر شتى؛فمن ذلك إبكاؤهما وتحزينُهما،ونهرُهما وزجرُهما، والتأففُ والتضجر من أوامرهما، والعبوسُ وتقطيبُ الجبينِ أمامهما.
ومن صور العقوق احتقارُ الوالدين، والنظر إليهما شزراً، والإشاحةُ بالوجه عنهما إذا تحدثا، وقلةُ الاعتداد برأيهما، وإثارةُ المشكلات أمامهما.
ومن ذلك_عياذاً بالله_شتمُ الوالدين، وذمُّهما عند الناس، والتخلي عنهما وقت الحاجة أو الكبر، والتبرؤُ منهما، والحياءُ من ذكرهما والنسبة إليهما.
ومن صور العقوق الإثقالُ على الوالدين بكثرة الطلبات، والمكثُ طويلاً خارجَ المنزل إلى ساعات متأخرة من الليل، أو النوم خارج المنزل دون علم الوالدين بمكان الولد خصوصاً إذا كان صغيراً.
ومن صور العقوق المتناهية بالقبح لعنُ الوالدين، والتعدي عليهما بالضرب، وإيداعُهما دورَ الملاحظة.
ومن صور العقوق هجرُ الوالدين، والبخلُ عليهما، وتركُ نصحهما، والسرقةُ من أموالهما، والأنينُ وإظهارُ التوجع أمامهما.
ومن أقبح صور العقوق إن لم تكن أقبحها تمني زوالِهما، وقَتْلُهما، والتخلصُ منهما، رغبةً في الميراث، أو رغبة في التحرر من أوامر الوالدين؛ فيا لشؤم هذا، ويا لِسوادِ وجهه، ويا لِسوءِ سوء مصيره إن لم يتداركه الله برحمته.
هذه بعض صور العقوق، وتلك بعض مظاهره؛ فما أبعد الخير عن عاق والديه، وما أقرب العقوبة منه، وما أسرع الشر إليه.
وهذا أمر مشاهد محسوس يعرفه كثير من الناس، ويرون بأم أعينهم، ويسمعون قصصاً متواترة لأناس خذلوا وعوقبوا بسبب عقوقهم لوالديهم.
قال الأصمعي رحمه الله: أخبرني بعض العرب أن رجلاً كان في زمن عبدالملك بن مروان، وكان له أب كبير، وكان الشابُّ عاقاً بأبيه، وكان يقال للشاب =منازل+ فقال الأب الشيخ الكبير:





جَزَتْ رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ  
جزاءاً كما يستنجزُ الدَينَ طالبُه

تَرَبَّت حتى صار جعداً شمردلاً
 
إذا قام ساوى غاربَ الفحلِ غاربُه

تظلَّمني مالي كذا ولوى يدي
 
لوى يدَه اللهُ الذي لا يغالبُه

وإني لداعٍ دعوةً لو دعوتُها
 
على جبل الريان لانْهَدَّّ جانِبُه

فبلغ ذلك أميراً كان عليهم، فأرسل إلى الفتى؛ ليأخذه، فقال له أبوه الشيخ: اُخْرُجْ من خلف البيت، فسبق رُسَلَ الأمير، ثم ابتلي الفتى بابن عقَّه في آخر حياته، واسم الولد "خليج" فقال منازل فيه:



تظلمني مالي خليجٌ وعقني  
على حين كانت كالحَنيِّ عظامي

تخيَّرتُه وازددته ليزيدني
 
وما بعضُ ما يزدادُ غيرُ عرامِ

لعمري لقد ربَّيته فرحاً به
 
فلا يفرحنْ بعدي امرؤٌ بغلام

فأراد الوالي ضرب الابن، فقال للوالي: لا تعجل هذا أبي منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه:

جزت رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ  
جزاءاً كما يستنجز الدَّينَ طالبُه

فقال الوالي: ((يا هذا عَقَقْتَ وعُقِقْتَ)).
وقال الأصمعي رحمه الله: حدثني رجلُ من الأعراب، وقال: خرجت أطلب أعقَّ الناس؛ فكنت أطوف بالأحياء،حتى انتهيت إلى شيخٍ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبلُ في الهاجرة، والحرِّ الشديد، وخلفه شابٌّ في يده رُشاءٌ_أي حبل_من قِدٍّ ملوي_والقِدُّ هو السوط_وهو يضرب الشيخ الكبير بالقدِّ، وقد شّقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله بهذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه مِنْ مَدِّ هذا الحبل حتى تضربه؟
قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً.
قال: اسكت؛ فهكذا كان يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعقُّ الناس.
ثم جُلت حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيلٌ فيه شيخٌ كأنه فَرْخٌ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة،فيطعمه كما يُطعَمُ الفرخ، فقلت من هذا؟ قال: أبي وقد خرف وأنا أكفله، قلت: هذا أبر الناس....



فإذا كان الأمر كذلك فما أحرى بذي اللب أن يبر والديه،وأن يتجنب عقوقهما؛لينال الخيرَ والبركةَ في العاجل،وليحظى بالثواب الجزيل والعطاءِ غيرِ المجذوذ في الآجل.
أيها الصائمون: هناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا مع الوالدين سلوكها؛ لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما؛ لنرضيَ بذلك ربنا، وتنشرحَ صدورنا، وتطيبَ حياتنا، وَتُيَسَّرَ أمورُنا، ويبارك لنا في أعمارنا، ويبسَط لنا في أرزاقنا.
فمما يجدر بنا سلوكه مع الوالدين طاعتُهما، واجتنابُ معصيتهما في غير مخالفة لأمر الله.
ومن ذلك الإحسانُ إليهما،وخفضُ الجناح لهما،والبعدُ عن زجرهما.
ومن صور البرِّ الإصغَاءُ إلى الوالدين، وذلك بالإقبال عليهما إذا تحدثا وتركِ مقاطعتهما أو منازعتهما الحديث أوتكذيبهما.
ومن الآداب مع الوالدين التلطلفُ بهما، والفرحُ بأوامرهما، والحذر من التأفف والتضجر منهما.
ومن ذلك_أيضاً_التوددُ لهما، والتحبب إليهما، والجلوس أمامهما بأدب واحترام، وتجنبُ المنَّة في الخدمة أو العطية.
ومن صور البر مساعدةُ الوالدين في الأعمال، والبعدُ عن إزعاجهما وقتَ راحتهما، أو تكديرِ صفوهما بالجلبة، ورفعِ الصوت، أو بالأخبارِ المحزنة.
ومن ذلك تجنُّبُ الشجارِ، وإثارةِ الجدل أمامهما، وذلك بالحرص على حل جميع المشكلات مع الإخوة أو الزوجةِ أو أهل البيت عموماً بعيداً عن أعين الوالدين إلا إذا اقتضت الحكمةُ والمصلحةُ إشراكَهما في الأمر.
ومن صور البر تلبيةُ نداءِ الوالدين بسرعة، والاستئذان عليهما حال الدخول عليهما وإصلاحُ ذات البين إذا فسدت بين الوالدين، والحرصُ على التوفيق بينهما وبين الزوجة، وتعويد الأولاد على برهما.
ومن صور البر تذكيرُ الوالدين بالله، ونصحُهما بالتي هي أحسن.
ومن برهما _أيضاً_ الاستئذانُ منهما، والاستنارةُ برأيهما، والمحافظةُ على سمعتهما، والبعدُ عن لومهما وتقريعهما.
ومن ذلك فهمُ طبيعة الوالدين، ومعاملتهما بمقتضى ذلك.
ومن البر بهما كثرةُ الدعاءِ والاستغفار لهما، وصلةُ الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإنفاذ عهدهما، والتصدق عنهما.
ومما يعين على بر الوالدين أن يستعينَ الإنسانُ بالله،وأن يستحضر فضائلَ البر، وعواقبَ العقوق، وأن يستحضر فضل الوالدين، وأن يضع نفسه موضعهما، وأن يقرأ سير البارين بوالديهم.
أيها الصائمون: هاهو بر الوالدين، وهذه هي الآداب التي يجدر بنا مراعاتها معهما،وتلك أسباب تعين على البر،فما أحرانا بمراعاة تلك الأمور، وما أجدرنا، بالأخذ بها، وإليكم معاشر الصائمين بعضَ النماذجِ من قصص البر:
هذا إسماعيل بن إبراهيم_عليهما السلام_يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية، وذلك عندما قال له أبوه: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك).
فما كان من ذلك الولد الصالح إلا أن قال: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
وقد ورد أن إبراهيم _عليه السلام_لما تيقن مما رأى في منامه قال لابنه: يا بني خُذِ الحبلَ والمُديةَ، وانطلق بنا إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا بهِ في شعب ثبير أخبره بما أمره الله به،فلما أراد ذبحه قال له: يا أبت اشدد رباطي؛ حتى لا أضطرب، واكْفُفْ ثيابك؛ حتى لا يصيبَها الدَّمُ فتراه أمي، واشحذ شفرتك، وأسرع في السكينِ على حلقي؛ ليكون أهونَ علي، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني.
قال إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني، ثم أقبل عليه، وهما يبكيان، ثم وضع السكينَ على حلقه، فلم تحزَّ، فشحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر فلم تقطع.
فقال الابن عند ذلك: يا أبت كُبَّني على وجهي؛ فإنك إن نظرت إلى وجهي رحمتني، وأدركتك رِقَّةٌ تحول بينك وبين أمر الله_تعالى_وأنا لا أنظر إلى الشفرة؛ فأجزع.
ففعل إبراهيم ذلك، ووضع السكين على قفاه،فانقلب السكين، وسلبت منها خاصيتها، ونودي (أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا).
وإليكم أيها الصائمون صوراً مشرقة في البر من سير السلف الصالح تدل على شدة اهتمامهم ببر الوالدين.
فهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحليفة، فكانت أمه في بيت وهو في بيت آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها وقال: ((السلام عليك ورحمة الله وبركاته)) فتقول: ((وعليك السلام ورحمة الله وبركاته))، فيقول: ((رحمكِ الله كما ربيتني صغيراً))، وتقول: ((ورحمك الله كما بررتني كبيراً)).
وهذا ابنُ عمرَ _رضي الله عنهما_ لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.
قال ابنُ دينارٍ: فقلنا له أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير.
فقال عبدُاللهِ بنُ عمرَ: إن أبا هذا كان وُدَّاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولدٍ أهلَ ودِّ أبيه)) رواه مسلم وأبو داود.
وهذا أبو الحسن عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب وهو المسمى بزين العابدين وكان من سادات التابعين_كان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أُمَّك؛ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها.
وقال هشام بنُ حسان حدثتني حفصةُ بنتُ سيرين قالت، كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيدٌ صَبَغَ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، وكان إذا كلمها كالمصغي.
وعن بعض آل سيرين قال: ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع.
وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئاً قالوا: لا، ولكن هكذا يكون عند أمه.
وروى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر أنه كان يضع خدَّه على الأرض ثم يقول لأمه: قومي ضعي قَدَمَكِ على خدي.
وعن ابن عون المزني أن أمه نادته،فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛فأعتق رقبتين.
وقيل لعمرَ بن ذرٍّ: كيف كان بر ابنك بك؟ قالت ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته.
وهذا بُندارُ المحدثُ قال عنه الذهبي: ((جمع حديث البصرة، ولم يرحل؛ براً بأمه)).
وقال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: سمعت بنداراً يقول: أردت الخروج _يعني الرحلة لطلب العلم_ فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه.
وكان طلق بن حبيب من العلماء العباد، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها.
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: مات أبي، فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه.
اللهم اجعلنا من الأتقياء الأبرار، ومن المصطفين الأخيار إنك أنت الرحيم الكريم الغفار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.