شهر الإخلاص(1)<font color="#FF0000"><sub>للشيخ الحمد</sub></font>

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، أما بعد:
فإن حديث هذه الليلة سيدور حول فضيلة الإخلاص، وأثرِ الصوم في اكتسابها.
وقبل الدخول في أثر الصوم في اكتساب الإخلاص يحسن الوقوفُ عند الإخلاص من حيث مفهومُه، وأهميتُه.
معاشر الصائمين: أصل الإخلاص في اللغة مادة خَلُصَ، والخالص: هو مازال عنه شوبُه بعد أن كان فيه.
والإخلاصُ في الشرع: هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه.
ومدارُ الإخلاصِ على أن يكون الباعثُ على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه
_عز وجل_ فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم،أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم،وقضائهم حوائجه، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها: إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص.
ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها.
بل لا يذهب بالإخلاص_بعد ابتغاء وجه الله_أن يخطر في بالِ العامل أن للعمل الصالح آثاراً طيبةً في هذه الحياة الدنيا كطمأنينة النفس،وأَمْنِها من المخاوف، وصيانتها عن مواقف الذل والهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة.
هذا هو مفهوم الإخلاص.
أما أهميته فيكفي أنه شرط لقبول العبادة؛ فالعبادة تقوم على شرطين هما: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم قال الله_تعالى_: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله_تعالى_: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملاً، فأشرك فيه غيري _فأنا منه بريء، وهُوَ للذي أشرك) ))رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله متحدثاً عن الإخلاص وفضله وأهميته: “بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان،وهو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب رحى القرآن الذي تدور عليه رحاه”.
إلى أن قال رحمه الله: “قال _تعالى_ في حق يوسف: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين).
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور المحرمة، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها.
فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي قلبه_انقهر بلا علاج”ا_هـ.
معاشر الصائمين هذا هو مفهوم الإخلاص، وذلك شيء من أهميته وفضله.
هذا وإن للصيام أثراً عظيماً في تربية النفوس على فضيلة الإخلاص، وألا يراعى في الأعمال غيرُ وجه الله_جل وعلا_.
ذلكم أن الصائم يصوم إيماناً واحتساباً، ويدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله _تعالى_ وأيُّ درسٍ في الإخلاص أعظمُ من هذا الدرس؟
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.
قال ابن حجر رحمه الله قوله: “إيماناً”: أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، و(احتساباً): أي طلباً للأجر، لا لقصد آخر من رياء ونحوه” ا_هـ.
وفي البخاري_أيضاً_من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليعه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لخُلوف فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المسك؛يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها”.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: “قوله: (يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي) هكذا وقع هنا، ووقع في الموطأ (وإنما يذر شهوته) الخ... ولم يصرح بنسبته إلى الله، للعلم به، وعدم الإشكال فيه”.
وقال رحمه الله: “وقد يفهم من صيغة الحصر في قوله: (إنما يذر)الخ... التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصُّ به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُخمة لا يحصل للصائم الفضلُ المذكور” ا_هـ
معاشر الصائمين: هكذا يربينا الصوم على فضيلة الإخلاص؛ فالصومُ عبادةٌ خفيةٌ، وسِرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قال بعض العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه.
بخلاف بقية الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها.
ولا ريب أن الإخلاص من أعظم الخصال، وأحمد الخلال إن لم يكن أعظمها وأحمدها.
ثم إن للإخلاص آثارَهُ العظيمةَ على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعكست عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصدُه _فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب.
والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانةً، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية.
وكثيرٌ من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص.
ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في نفوس زاكيات لَحُرِمَ الناسُ من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات.
أيها الصائمون: قد يُخِلُّ الرجلُ في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعضها؛ فيأتي بالعمل صورةً خاليةً من الإخلاص.
والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسانُ حليفَ سيرته؛ فلا يُقْدِم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى.
ولا تبالغُ إذا قلت: إن النفسَ التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على وفْق ما يمليه عليها الإخلاص هي النفسُ المطمئنةُ بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين، ومواعظه الحسنة.
قال ابن تيمية رحمه الله: “وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه؛ فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،ويخاف ضد ذلك.
بخلاف القلب الذي لم يُخْلِص لله؛فإن فيه طلباً،وإرادةً،وحباً مطلقاً؛ فيهوى كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أيُّ نسيمٍ مرَّبِهِ عطفه وأماله” ا_هـ.