شهر الإخلاص (2)<font color="#FF0000"><sub>للشيخ الحمد</sub></font>

الحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، وبعد: ...
معاشر الصائمين: إذا أخلص المسلمُ صيامه لله، وقام به على الوجه الذي يرضي الله كان ذلك داعياً له لأن يخلص لله في شتى أموره، وكافة أحواله، وسائر أيامه، فَرَبُّ رمضانَ هو ربُّ سائرِ الشهور، والذي فرض الصيام هو الذي فرض غيره من سائر الطاعات والقربات، والذي يُتَقَرَّبُ إليه بالصيام هو الذي يُتَقَرَّبُ إليه بسائر الأعمال.
وهكذا يفيد المسلمُ هذا الدرسَ العظيمَ من شهر الصوم.
ولقد وقف الحديث في الدرس الماضي عند أثر الإخلاص على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة؛ فإليكم جملة من تلكم الآثار التي تعود بالخير على الأفراد والجماعات.
أيها الصائمون: الإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، فصغير الأعمال _بالإخلاص_ يكون كبيراً، وقليلها يكون كثيراً.
والإخلاص هو الذي يحمل الإنسانَ على مواصلة عمل الخير؛ فمن يصلي رياءاً، أو حياءاً من الناس لابد أن تمرَّ عليه أوقاتٌ لا ينهض فيها إلى الصلاة، ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاءَ السمعةِ، أو خوفَ العزلِ من المنصب قد تَعْرِضُ له منفعةٌ يراها ألذَّ من السمعة، أو يصادفه أمنُ العزلِ_فلا يبالي أن يدع العدل جانباً.
ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم، فينقلب داعياً إلى الأهواء.
ومن يفعل المعروف لأجل أن تُردِّدَ ذِكْرَهُ الألسنةُ في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلاً من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة؛ فيصرف عنه وجهه وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسدَّ حاجته.
أيها الصائمون: الإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان،ويبلغ أن يكون مبدأً راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة.
وهو الذي يجد له صاحبه حلاوة، فيسهل عليه أن يكون أحد السبعة المشار إليهم بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله” إلى أن قال: “ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”.
حكى أشعبُ بنُ جبير أنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل، وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أجْرِي عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيَّاً، فقلت من أمرك؟، قال: لا أخبرك، قلت: إنَّ هذا معروفٌ يشكر، قال: الذي أمرني لم يرد شكرَك.
قال أشعب بن جبير: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبدالله بن عمر بن عثمان، فحفل له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا
_والله_صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك.
فهذا فاعلُ خيرٍ من وراء حجاب.
أيها الصائم: لعلك لا تجد أحداً يتصدى لعمل إلا وهو يدَّعي الإخلاص فيما يعمل؛ ذلك أن الإخلاصَ موطِنُه القلبُ، والقلوبُ محجوبةٌ عن الأبصار.
وإذا وصفتَ أحداً بالإخلاص أو عدمه فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة.
ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرته دِلالةً قاطعةً، ومنها ما لا يتجاوز بك حدَّ الظن.
وهذا موضع التثبت والاحتراس؛ ففي وصف المخادعِ بالإخلاص ووصفِ المخلص بالمخادع ضررٌ اجتماعيٌّ كبير؛ فإن وثقت بمجردِ الظن لم تأمن أن تقضيَ على فاسد الضمير بالإخلاص؛ فيتخذه الناسُ موضعَ قدوةٍ؛ فيستدرجهم من فساد صغير، حتى إذا ألِفوه نقلهم إلى فساد كبير.
وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرِجٍ تنير لهم السبيل.
أيها الصائمون: الإخلاص فضيلة في نفسه، ولا ينزل في نفس إلا حيث تنزل فضائلُ كثيرةٌ، فالإخلاص يَمُدُّ قلبَ صاحبه بقوة؛ فلا يتباطأُ أن ينهضَ للدفاع عن الحق، ولا يبالي في دفاعه إذا أصابه ما أصابه.
والإخلاصُ يشرحُ صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر؛ فتراه يؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة.
والإخلاص يعلم صاحبَه الزهد في عرض الدنيا؛ فلا يُخشى منه أن يناوئ الحقَّ، أو يُلْبِسَهُ بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهباً.
والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا؛ فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق.
والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذلَ جُهْدَه في إيضاح المسائل، وأن لا يبخل على الطلاب بما تسَعُهُ أفهامُهم من المباحث المفيدة،وأن يسلكَ في التدريس الأساليبَ التي تجددُ نشاطَهم للتلقي عنه.
والإخلاص يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها، ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة.
والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب الحقائق، أو يكسوها لوناً غير لونها؛ إرضاءًا لشخص أو طائفة.
أيها الصائمون: هذه بعض مآثر الإخلاص الذي ينميه الصوم في نفوسنا؛ ويبعثنا إلى أن نخلص لله في جميع أعمالنا، وشتى أحوالنا.
فحقيق علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على فضيلة الإخلاص،وأن نلقن ناشئتنا ماذا يناله المخلص من حمدٍ وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي يَخْرُجَ لنا رجال مخلصون يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.