ابن جرير الطبري وتفسيره (جامع البيان) 2/2

مكانة تفسيره وثناء العلماء عليه: وقد اتفق العلماء على عظم مكانة جامع البيان عن تأويل آي القرآن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التفاسير التي بأيدي الناس؛ فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف الأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي" فتاوى ابن تيمية 2 / 192. وقال النووي: "أجمعت الأمة على انه لم يصنف في التفسير مثل تفسير الطبري" قال السيوطي: "وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين". وقال الإسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على تفسير ابن جرير لم يكن كثيراً" طبقات المفسرين للسيوطي، ص 31. وذكر ابن السبكي أن التفسير الذي بين أيدينا للطبري، ليس إلا مختصراً لتفسير كبير كان الطبري قد وضعه. انظر: ابن السبكي، الطبقات الكبرى، ج 2، ص 137. ويقع تفسير الطبري في ثلاثين جزءاًً من الحجم الكبير، وكان هذا الكتاب منذ عهد قريب يكاد لا يوجد، ثم قدر الله تعالى له الظهور والتداول، فكان مفاجأة سارة للأوساط العلمية حين وجدت نسخة مخطوطة له في نجد لدى بعض الأمراء، وقد طبع عليها نسخة في مطبعة بولاق بالقاهرة، ثم طبع بعد ذلك طبعات كثيرة، من اشهرها طبعة دار المعارف بتحقيق العلامة أحمد شاكر وأخيه محمود شاكر، ولكنها توقفت بعد الجزء السادس عشر. انظر علوم التفسير للدكتور عبد الله شحاتة، ص 38. منهج ابن جرير في التفسير: الكشف عن منهج الطبري في التفسير أمر ليس سهلاً، فهو إن أوضح معالم منهجه في مقدمة تفسيره، فإن متابعة تفصيلات هذا المنهج في طيات تفسيره والكشف عنها تعد مهمة عظيمة، لا سيما حينما يقف الباحث أمام عظيم كالإمام الطبري، ومع ذلك فقد حاول عدد من الباحثين تقديم معالم هذا المنهج، وقدم كل رؤيته الخاصة في توصيفه، ولا يسمح المقام هنا بعرض هذه الرؤى ومناقشتها، ولذا فسنكتفي بتقديم الملامح العامة لمنهج الإمام الطبري في تفسيره. 1- العنوان: يعطي العنوان الذي وضعه الطبري لتفسيره بعضاً من ملامح منهجه، فقد سماه (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، فكلمة الجامع تشير إلى أنه قد سار في تأليف كتابه على منهج الشمول، حيث يأتي بحشد كبير من الروايات في تفسير كل كلمة يقف عند تفسيرها. أما كلمة البيان فتبين أنه لا يكتفي بإيراد الروايات وذكر معاني الكلمات فحسب، بل تشير إلى أنه يرجح بين ما يورده من معاني الألفاظ والتراكيب والروايات والقراءات، ليبين منها ما هو أولى بالصواب. 2- أسلوبه اللغوي: أسلوب ابن جرير الطبري في التفسير سهل جزل، رقيق الحواشي، يخلو من اللحن والتكلف، قال ابن كامل: "وما سمعته قط لاحناً" انظر الفهرست ص 28، والتيسير ص 4، 8، وفيات الأعيان ج 1 ص 314. 3- أوجه التأويل: يرى الإمام الطبري أن تأويل القرآن على أوجه ثلاثة: - ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الوجه لا يجوز لأحد القول فيه غلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، بنص عليه أو بدلالة قد نصبها للأمة تدل على تأويله. - ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. - ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، كآجال حادثة، وأوقات آتية، ووقت الساعة. 3- طريقته في التصنيف: يستطيع من يقرأ تفسير الطبري أن يتبين طريقته في التفسير، فهو عندما يفسر آية ما يقول: "القول في تأويل قوله تعالى: (...) ثم يفسر الآية، ويورد ما جاء فيها من التفسير بالمأثور، وإذا كان ثمة أقوال متعددة فإنه لا يدع قولاً منها، وإنما يأتي عليها جميعاً، ذاكراً في كل رأي ما ورد فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة، أو التابعين، ملتزماً السند في كل ما يرويه، ثم يرجح ما يراه أولى بالصواب. 4- نقده للروايات: غلب على الطبري عدم التعرض للأسانيد، إلا أنه كان يفعل ذلك أحياناً حين يبدو له عدم الوثوق بالرواية، كما في نقده لما روي عن عكرمة : "ما كان من صنعة بني آدم فهو السد – يعني بالفتح- ، وما كان من صنع الله فهو السد – بضم السين- "، حيث عقب الطبري على ذلك بقوله: "وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك فإن الذي نقل ذلك عن أيوب هارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه" انظر جامع البيان، ج 16، ص 13. المطبعة الأميرية. ولم يقف الطبري عند نقد السند، وإنما اتجه كذلك إلى النقد الموضوعي، حيث ينظر في المتن بأصول في النقد وضعها واتبعها، ومن ذلك الاحتكام إلى ظاهر التنزيل، كما في معارضته لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما- وهو قوله : "إنما قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً )[البقرة : 234]، ولم يقل فتعتد حيث شاءت.."، حيث يعقب فيقول: "وأما ما روي عن ابن عباس فإنه لا معنى له بخروجه عن ظاهر التأويل" انظر جامع البيان، ج 2، ص 316- 319، المطبعة الأميرية. 5- ذكره للقراءات: وقد عني الطبري بذكر القراءات، ورد قراءة غير الأئمة الذين يعدهم حجة، وله في ذلك رأيه المتميز، وعنده أدلته التي يصدرها عن دراسة أصيلة وتدقيق، إلا أن ذكره للقراءات لم يكن بقصد حصرها وجمعها مع التفسير، وإنما اضطر لذكرها، لأن اختلاف وجوه التفسير يكون أحياناً بسبب اختلاف القراءات في الآية الواحدة. ويقبل الطبري كل القراءات المشهورة التي قرأ بها القراء، وأجمعت عليها الأمة، وأقرها معنى الآية، وقد قال في موضع: "والصواب عندنا في ذلك من القول أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة، وقرأت بهما القراء، وليس في القراءة بأحدهما إبطال معنى الأخرى، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة التلاوة، أما من جهة المفهوم بهما فهما متفقان" انظر جامع البيان، ج 1، ص 221. 6- مسائل اللغة: يعطي ابن جرير الطبري الدلالات اللغوية للألفاظ أهمية في تفسيره، فيفهم النص القرآني في ضوء هذه الدلالات على عصر النبوة، وعلى ما هو معروف من كلام العرب، وهو يقرر "أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائماً" انظر: جامع البيان، ج 1، ص 6. والمرجع المعتمد عند الطبري للاستعمال اللغوي الصحيح هو الشعر القديم، ولذلك يستشهد به كثيراً، لكنه يرفض اعتبار المعنى الظاهري للفظ على ما هو معروف من كلام العرب إذا وجدت أسباب تحول دون ذلك كما في ج 12، ص 25، وهذه الأسباب هي قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة والتابعين، قال الطبري: "...وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلاف قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين" ج12، ص 128. 7- مسائل الفقه: عندما يعرض الطبري لآية تتعلق بالأحكام؛ فإنه يفصل الكلام فيها، ويورد الأقوال التي تتصل بها، ثم يصدر عن ذات نفسه مؤيداً رأيه بالأدلة والبراهين. ويميل الطبري إلى ترجيح ظاهر التنزيل ويأخذ بالمذهب الذي يحتمله، كما قال في عدد مرات الطلاق الذي يقع به التحريم: "والذي هو أولى بظاهر التنزيل أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم،.." انظر: ج 1، ص 277. ولكنه مع ميله للأخذ بظاهر النص لا يقدمه على الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين إن وجدت في المسألة. 8- مسائل العقيدة: يأخذ الطبري بمذهب السلف في تفسير آيات الصفات، ومثال ذلك رفضه لتأويل اليد بالنعمة أو الملك، في قوله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة : 64]، وقال: "إن يد الله هي له صفة، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال به العلماء وأهل التأويل" انظر: ج 6، ص 193. المراجع: - الدكتور محمد بكر إسماعيل، ابن جرير الطبري ومنهجه في التفسير. - الدكتور الشحات السيد زغلول، الاتجاهات الفكرية في التفسير. - الدكتور عبد الله شحاتة، علوم التفسير. تنبيه: أكثر الإحالات المذكورة في المقال منقولة من المراجع السابقة.