أبو حذيفة لم يمت!! كلمة وفاء في حق فارس من فرسان الدعوة

في ليلة اكتمل فيها بدر السماء هوى بدرٌ من بدور الأرض، وغيّب الموت داعيةً من خيرة الدعاة الصامتين، الصادقين، الأخفياء، الأولياء ـ أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله ـ: إنه رفيق الدرب، وزميلي في حلقة القرآن، وشريك من شركاء الدعوة والمنهج، الشيخ المسدد، والمربي الفاضل: إبراهيم بن صالح بن علي الدحيم، وذلك ليلة الخامس عشر من شهر رمضان من عام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين.

 

كنتُ قرأت عن بعض السلف أنه بلغه موتُ أحد إخوانه، فقال: والله لكأن ركناً من أركاني قد انهدّ!

ولعمر الله! ما كنت إلا ذلك الرجل حين جاءني الخبر:

طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ *** فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ

حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً *** شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي

وما كنتُ أظن أنني سأرثيه، خاصة في هذه السن، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها.

 

إنني أكتب هذه الأحرف وأنا أتجرع مرارة المصيبة، وأكابد لوعة الفراق، وألوذ بالصبر، وأتعزى بعزاء الله:{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، وأرجو موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ "يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة".

وليست هذه الأحرف ترجمة للشيخ، ولا حديثاً عن سيرته، فهذا له وقته ـ إن شاء الله ـ بعد اكتمال ما يتعلق بتلك السيرة الطيبة، ولكنها كلمات وفاء عاجلة، لعل أحداً يقرأ هذه الأحرف فيرفع كفيه ليدعو لهذا الشيخ الذي نذر نفسه للدعوة، ومات وهو يعيش همها، بل مات وهو يمارسها!

 

لقد كانت وفاته ـ وهو متجه إلى بيت الله الحرام ومعه مجموعة من الطلاب الناشئين في طريق الخير والهداية ـ ترجمةً عملية لهمّ الدعوة الذي يملأ جوانح قلبه، إنها تطبيق عملي لكلمات سطرها ـ رحمه الله ـ بحبره، حين صدر رسالته (فارس الدعوة) ـ وهو يصف هذا الفارس ـ بقوله: "هو فارس لا يترجل، أَلِفَ صهوة الخيل فلا غير، عشق القمم فما عاد يعرف للأودية سبيلاً ولا إليها طريقاً.. سارت هموم الناس في أفلاك شهواتهم، وسار نجم همه في أفلاك دعوته, فهو آخذ بزمام فرسه، طائر على جناح السرعة، قد نصب خيمته في صحراء التائهين، وأوقد ناره عندها كي يراه المنقطعون فيقصدونه, فيستنقذ منهم غافلاً ويعلم فيهم جاهلاً ويرشد فيهم حائرًا" انتهى كلامه رحمه الله.

إذن هي ومضات سريعة فحسب، وإطلالة خاطفة على حياة هذا الداعية المبارك، والمربي الفاضل، وإلا فسيرته تحتمل مجلداً لطيفاً، خصوصاً أن تجربته في الدعوة وخبرته فيها تقترب من العشرين عاماً.

 

لقد عرفتُ الشيخ ـ رحمه الله ـ قبل أكثر من عشرين عاماً، بحكم ما بيننا من مصاهرة، وعرفته زميلاً في المرحلة المتوسطة، في حلقة القرآن عند شيخنا محمد أويس الهزاوري ـ حفظه الله ـ ثم زميلاً في جمعية التوعية الإسلامية بصحبة شيخنا المربي القدير فضيلة الشيخ عبدالكريم الجارالله ـ متعنا الله بحياته على حسن عمل ـ ثم جمعتنا بعض المحاضن التربوية، وكثيرٌ من الرحلات التربوية مع بعض المربين الكرام ـ جزاهم الله عنا أحسن الجزاء ـ ثم جمعنا طريق الطلب في كلية الشريعة وأصول الدين(فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم سابقاً)، ثم افترقت الأبدان ـ مع اتصال القلوب والأرواح ـ فتعين في عدة قرى ومدن، ولم يترك مكاناً تعيّن فيه إلا وترك فيه بصمةً واضحة، فاسأل ـ إن شئتَ ـ أهل البجادية، وبعض قرى عقلة الصقور، وغيرها إلى أن حطّ رحاله في بلده ومسقط رأسه (محافظة المذنب) فكان هذا تحولاً نوعياً في برامجه العلمية والدعوية، وانطلاقة متميزة في طريق الدعوة، علماً أنه استمر في تواصله مع طلابه ومحبيه في تلك المدن والقرى التي غرس فيها غرسه.

 

عذراً، فلستُ أترجم لشقيق روحي ـ فهذا له أوانه لاحقاً إن شاء الله ـ ولكن أردتُ بهذا الإجمال الشديد، أن ألج إلى الحديث عن أبرز معالم التميز في حياته ـ رحمه الله ـ إذ هي بيتُ القصيد في هذه العجالة، وذلك فيما يلي:

 ـ سلامة صدره لإخوانه، فهو لا يحمل إلا الحب والمودة، بل لو أردته أن يحمل غير ذلك ما قدر، ولا يجد في نفسه خصاصة، ولا حسداً، بل ـ والله ـ إنه لأعظم الناس فرحاً بما يكتبه الله على يد أحد إخوانه من خير في العلم والدعوة.

 

ـ حدبه على الدعوة، ونشاطه الكبير فيها، وحرقته على هداية الناس ـ والشباب خصوصاً ـ وأكثر ما تراه ضائق الصدر إذا علم بانتكاسةِ شابٍ أو انحرافِ مهتدٍ، وكان كثيراً ما يردد: نسأل الله الثبات، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، خصوصاً إذا جاء الحديث عن بعض الشباب الذين أصابتهم لوثة من شبهة أو شهوة.

وهذا الموضوع ـ أعني بذله لنفسه في الدعوة ـ يحتاج إلى بسط يليق بسيرته الحافلة ـ ليس هذا مقامه ـ، ولكني أشهد الله أنني لا أعرف أحداً من أصحابنا وفي بلدنا ـ على مرّ ثلاثين سنة ماضية ـ من يجتهدُ جهدَه، ولو شئتَ لقلتَ فصدقتَ: إن العين لم تخطئ هذا الرجل في أي ميدان من ميادين الدعوة المتاحة له: خطيباً، أو معلماً في درس العلم، أو مواسياً للمحتاج، أو مشاركاً في لجنة خيرية، أو منشطٍ دعوي.

 

ـ احتسابه على المنكرات بالحكمة والموعظة الحسنة، ووقوفه مع الإخوة الذين يتواصلون معه بهذا الخصوص.

 

ـ حرصهُ على الإخلاص، وإخفاء ما يستطيع من أعماله، لذا عرف بين إخوانه بأنه داعية خفيٌّ ـ ولا أزكيه على الله ـ ولعل جنازته كشفت عن شيء من ذلك، والأيام حبلى وستظهر بعض سيرته وخفايا أعماله، من خلال ما يجتمع لديّ من أخبار طلابه ومحبيه المقربين منه، خصوصاً في سنواته الأخيرة.

 

ـ صبره على تربية الشباب وتحمله مشاق هذا النوع من التربية، ولا يدرك هذا إلا من جرّبه وعاناه.

لقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ طيلة العقدين الماضيين حريصاً ـ مع بعض إخوانه ـ على الحج بالشباب الذين لم يسبق لهم أداء الفريضة، ولم تكن تلك الرحلة مجرد رحلة لأداء الفريضة فحسب، بل كانت رحلةً إيمانية، تربوية، تتجلى فيها معاشرة الشيخ الطيبة، وطيب أرومته، ولين عريكته، رحمه الله.

وأعرف عنه يقيناً لا أشك فيه، أنه كان ـ حتى آخر لحظة من حياته ـ يصرف من ماله كثيراً في سبيل الدعوة منذ أن وضع قدمه على هذا الطريق منذ عشرين عاماً تقريباً، مع قلة ذات يده في أوائل أمره، وبالذات قبل أن يستقر في سلك التعليم، بل كتب إليّ بعض المقربين أن سياراته التي كان يملكها إلى وقت قريب (هايلكس م 99) كانت تذهب إلى مكة والمدينة وغيرها من المناطق بدونه أكثر من ذهابها وهو يقودها بنفسه، فأي بذلٍ هذا؟! فضلاً عن صور أخرى لعلها تذكر في الترجمة المطولة.

 

ـ تواضعه الجم، وهضمه لنفسه في ذات الله تعالى، ظهر هذا لي بيقين في مواقف شتى، لعل الترجمة المطولة تتسع لذكر شيءٍ من ذلك ـ إن شاء الله ـ.

 

ـ زهده، ومعرفته بحقيقة الدنيا، فالشهرة لم تكن تعني له شيئاً أبداً، ولم يكن يبالي بكثير من المظاهر التي تستهوي الكثيرين من لداته وأترابه.

هذه الصفات والمعالم ـ وغيرها مما قد يخفى عليّ ـ أكسبته حبّ عشيرته، وزملائه في العمل وشركائه في الدعوة، وأهل بلده وغيرهم ممن عرفوه داعيةً، ناصحاً، باذلاً.

ووالله إني لا أحصي كم هي رسائل التعازي، والبريد الالكتروني، والمكالمات التي وصلتني تعزيني فيه ـ رحمة الله عليه ـ من أناس أعرفهم، وأكثرهم لا أعرفهم.

 

وسبحان الله! منذ أن جاءني خبر نعيه، وهذه الآية تلوح أمام ناظري: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب/23]، وليس هذا بعجيب، بل الأعجب أن كثيراً من الزملاء من طلاب العلم ذكروا لي هذا الشعور، فتعجبت من هذا التوارد!

ولعل جنازته المهيبة ـ التي لا أذكر أنني رأيت مثلها في بلدنا ـ كشفتْ لكل الحاضرين شيئاً من حب الناس له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه ـ: "أنتم شهداء الله في الأرض"، حتى إن كثيراً ـ الذين جاءوا من خارج المحافظة ـ، تعجبوا من ظهور التفجع على أوجه الجميع ـ كما حدثني بذلك بعضهم ـ، وما هذا إلا قرينة على ما وضعه الله لهذا الشيخ المبارك من القبول والمحبة، وإنا لنرجو ـ إن شاء الله ـ أن تكون علامة قبول في السماء!

الله أكبر.. إنها المحبة والمودة التي لا يمكن أن تشترى، ولا أن يجامل الناس فيها، ولذا اشتهرت كلمة الإمام أحمد: قولوا لأهل البدع، بيننا وبينكم يوم الجنائز!

 

ومن أراد أن يطلع على شيء من مكانة الشيخ عند محبيه والذين عرفوه، فليقرأ التعليقات التي كتبت على آخر مقالٍ له، والذي نشر في موقع المسلم بعنوان: "صوم مودع" والذي نشر في 3/9/1429هـ.

بكيتك يا أُخَيَّ بدمع عيني *** فلم يغن البكاء عليك شيئاً

وكانت في حياتك لي عظات *** فأنت اليومَ أوعظَ منك حياً

ومما يسلي النفس ـ وهي تودع حبيبها ـ أن الشيخ أبا حذيفة ـ رحمه الله ـ مات جسده، وبقي بدعوته، وآثاره الحسنة، وبصماته المتميزة.

 

ومن جميل صنع الله له، أن بادر ـ رحمه الله ـ إلى طبعِ جملةٍ من المقالات في كتاب أسماه: [أبواب في العلم والدعوة والتربية] وقد نشرته مكتبة طيبة، فضلاً عن عدد مبارك من المقالات التي نشرت في مجلة البيان ـ كان آخرها الذي نشر في مجلة البيان بعنوان:(معالم في طريق التوبة) في عدد رمضان الحالي ـ، ومقالاتٍ في موقع المسلم، وغيرها ذلك كثير.

كما أن للشيخ ـ رحمه الله ـ عدداً من الطلاب الذين أفادوا من علمه، وزرع فيهم مع العلم: الأدب والخلق، يرجى أن يخرج الله منهم عشرات يحملون همّ الدعوة إلى الله كما حمّلهم شيخهم هذا الهم قولاً وعملاً.

 

وإني لأرجو الله ـ وهو أهلُ الجود والكرم، وأنه عند حسن ظن عبده به ـ أن يكون لأبي حذيفة ـ رحمه الله ـ نصيبٌ مما تمناه وعبّر عنه في رسالته "أوراق دعوية" حيث قال: "فلله! كم للدعاة من أجر يتتابع عليهم في حياتهم وبعد مماتهم؟! يأتون يوم القيامة، فإذا حسنات كالجبال لايذكرون أنهم فعلوها، لكنهم كانوا السبب فيها" اهـ.

نعم أبا حذيفة.. لن تنساك عقلة الصقور.. ولا البجادية.. ولا بلدك التي كنت باراً بها تمام البر، فوالله لو نطقت جميعة تحفيظ القرآن، أو معهد معلمات القرآن، والمراكز الصيفية لشهدت لك بأنك كنت عضواً فاعلاً فيها.

وأهمس ـ في ختام هذه الأسطر ـ في آذان إخوتي من محبي الشيخ من زملاء وطلاب، وأذكرهم بأن من عظمة هذا الدين أنه لم يربط أتباعه، ولم يعلق انتصاره بأشخاص مهما عظمت مكانتهم، حتى لو كان ذلك الشخص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران/144].

 

يقول العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ معلقاً على هذه الآية: (وفي هذه الآية الكريمة إرشادٌ من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم)انتهى كلامه رحمه الله.

 

أرجو أن يكون في هذه الأسطر ما يكشف شيئاً من سيرة صديقنا وحبيبنا وأخينا الداعية الصادق، والمربي الفاضل أبي حذيفة: إبراهيم بن صالح الدحيم رحمه الله، ولعل الله تعالى أن ينسأ في الأجل لكتابة مطولة كما وعدت بذلك في أول المقال.

اللهم اغفر لأبي حذيفة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه.

 

سلام عليك أبا حذيفة يوم ولدت، وسلام عليك يوم مت، وسلام عليك يوم تبعث حياً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الدعاة والمصلحين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.