الرد على الطعون الواردة في مقالة "وطأة ستة قرون"
7 ربيع الثاني 1439
د. عدنان أمامة

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام مقالة صادرة عن مركز بيروت للدراسات والتوثيق بعنوان "وطأة ستة قرون" للقاضي عبد الرحمن الحلو ينقض فيها ما هو ثابت ومجمع عليه في عقيدة المسلمين من أن المسيح عليه السلام لم يصلب وأن الذي صلب شبيهه، ويكذب فيها صريح  القرآن الكريم القائل: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).
 

وأورد في المقالة شبهات نقل جلها بالحرف من كتب الطاعنين في أصول الإسلام وثوابته من المكذبين بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما تظهره المواقع المختصة على شبكة الإنترنت.
 

وقد بدأ مقالته بجعل مسألة نفي صلب المسيح من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، وأن أصحاب الأفق الضيق فقط هم الذين يحصرون الحق فيها في قول واحد، ثم ادعى أن الأدلة بشأنها غير قاطعة، وأبدى إشفاقه على المسلمين الذين يعدون الإيمان بعدم صلب المسيح أمرا معلوما من الدين بالضرورة، موهما قراءه أن اعتقاد المسلمين بذلك نابع من استعظامهم تعرض الأنبياء للقتل -وكأن المسلمين يؤلهون المسيح- وتبرع بتعليمهم أن القرآن الكريم أخبر بأن بعض النبيين قد قتل، وبأن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يمتنع عليه القتل.
 

وبعد ذلك ادعى أن المسلمين بإصرارهم على أن آية (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) قطعية الدلالة على نفي قتل المسيح وصلبه، يكونون قد عاندوا النقول التاريخية المتواترة والاعتقاد السائد آنذاك مستندين إلى روايات ضعيفة في السنة النبوية والأناجيل المنحولة تقول بأن حادثة الصلب قد وقعت لكن المصلوب هو شبيه المسيح عليه السلام وليس المسيح نفسه.
 

وختم مقالته بطرح التساؤلات التالية: ما الحكمة في أن يترك رب العالمين البشرية جمعاء طيلة ستة قرون مخدوعة بمصير المسيح؟
 

وما الحكمة أن يتعبدهم الله بتكذيب ما رأوه وسمعوه وتوارثوه بثلاث كلمات موجزات موهمات؟
 

وهل المسلمون متعبدون بتكذيب الأمم السابقة حتى في الحوادث التاريخية؟
 

وسأقف مع هذا العدوان الصارخ على عقيدة الإسلام والمسلمين، والجرأة على تكذيب ما جاء في كتاب رب العالمين، وسنة النبي الأمين وإجماع كافة علماء الدين، وما حوته المقالة من التدليس والتلبيس والتزوير للحقائق المعرفية، والوقائع التاريخية الوقفات التالية:
 

الوقفة الأولى: أن الإيمان بعدم صلب المسيح عليه السلام وأن المصلوب شبيهه مسألة مجمع عليها بين المسلمين من فجر التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا، بل هي من المعلوم من الدين بالضرورة بحيث يكفر منكرها، ولا يقبل العذر بالجهل فيها، يقول ابن حزم في المحلى 43/1: "من قال إن المسيح عليه السلام قتل أو صلب فهو كافر مرتد..... لتكذيبه القرآن وخلافه الإجماع."
 

ولم يسجل أن مفسرا أو عالما أو لغويا فهم من الآية غير ما يدل عليه ظاهرها من نفي الصلب عن المسيح ووقوعه على شبيهه، وذلك من خلال مراجعة قرابة مئة مدونة تفسيرية منذ القرون اﻷولى لﻹسلام وإلى يوم الناس هذا، وأكتفي بنقل كلام إمام المفسرين الطبري حيث قال "يعني بذلك جلّ ثناؤه: وبِقَوْلِهمْ أنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ. ثم كذّبهم الله في قِيلهم، فقال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ يعني: وما قتلوا عيسى وما صلبوه، ولكن شبّه لهم." ما يجعل دلالة الآية قطعية، وهذا الأمر وحده كاف لرد كل ما تضمنته المقالة من باطل وإفك وضلال.
 

وأحب هنا أن أقلب على الكاتب سؤاله عن الحكمة في أن يترك رب العالمين البشرية جمعاء طيلة ستة قرون مخدوعة بمصير المسيح؟ لأسأله: ما الحكمة في أن يترك رب العالمين الأمة الإسلامية جمعاء وهي خير الأمم والشاهدة عليها تغرق في ضلالها أربعة عشر قرنا وليس ستة قرون فقط وهي تعتقد أن المسيح لم يصلب؟
 

وما الحكمة في أن يؤخر الله ظهور فضيلتكم إلى هذه القرون المتأخرة ليكشف الحقيقة التي أضاعتها الأمة هذه الفترة الطويلة من الزمن، وينقذها بكم من الضلال إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلمات إلى النور؟.
 

الوقفة الثانية: في جعله هذه المسألة من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، وهو بهذا يستغفل القراء ويخلط عليهم بين المسائل التي يسوغ فيها الخلاف من مسائل الاجتهاد الظنية التي تتكافأ أدلتها وتتجاذبها وجهات النظر، وبين ما لا يسوغ فيه الخلاف من ثوابت الدين وقطعياته ومعاقد الإجماع فيه فضلا عما هو معلوم بالضرورة كما هو حال مسألتنا.
 

الوقفة الثالثة: زعمه أن خبر صلب المسيح بذاته ثابت بالتواتر، وهذه مغالطة كبيرة لأن المتواتر هو ما ينقله جمع يستحيل تواطأهم على الكذب عن جمع مثلهم حتى يبلغ الخبر منتهاه ويكون مستندهم الحس، وهذا غير متحقق في خبر صلب المسيح، لأن الثابت تاريخيا أن أتباع المسيح وتلامذته الذين يعرفون المسيح بصورته لم يشهدوا حادثة الصلب سوى بضعة نساء تراءين المشهد من مكان بعيد لا يسمح لهن التحقق من الشخص المطلوب مع تشكيك بعض علماء النصارى في ذلك أيضا، والذين باشروا صلبه من أعدائه لا يعرفون شكله ولا يميزون صورته لذلك استعانوا بالخائن الذي دل عليه كما تقول بعض الروايات، وذكر الصلب في بعض الأناجيل لا يدل على التواتر لأن كتبتها لم يشهدوا العملية إنما نقلت لهم، وقد اختلفت هذه الأناجيل فيما بينها بشأن هذا الخبر اختلافا كبيرا والغريب حقا أن يكون كاتب المقالة ملكيا أكثر من الملك فقد أثبتت الأناجيل المعتمدة عند النصارى مرقص ومتى قول المسيح عليه السلام عشية الحادثة " كلكم تشكون في في هذه الليلة".
 

 وطبعا يقصد تشكون في شخصي وليس في الإيمان بي. فالأناجيل تثبت وقوع الشك في شخص المصلوب والكاتب يجزم بأن المصلوب المسيح عليه السلام ذاته.
 

الوقفة الرابعة: مع قوله: ما الحكمة في أن يترك رب العالمين البشرية جمعاء طيلة ستة قرون مخدوعة بمصير المسيح؟
وما الحكمة أن يتعبدهم الله بتكذيب ما رأوه وسمعوه وتوارثوه بثلاث كلمات موجزات موهمات؟

 

والحقيقة أن هذه التساؤلات ربما يصح طرحها لو أن الإسلام كفر من يعتقد قبل نزول القرآن بأن المسيح قد صلب، وهذا ما لا وجود له في شيء من القرأن أو السنة، ولم يقل به أحد من علماء المسلمين.
 

جاء في موقع الإسلام سؤال وجواب: إن مجرد اعتقاد الإنسان -قبل مجيء القرآن-، أن المسيح صلب لا يعد كفرا، وذلك لأن المسيح عليه السلام بشر، لا يمتنع عليه ـ بما هو بشر من البشر ـ أن يقتله أعداؤه ويصلبوه، كما قتل اليهودُ جماعةً من الأنبياء والرسل قبله، فقضية الصلب ليست هي القضية التي كَفَر بسببها من كَفَر من النصارى، وإنما القضية الأساسية لذلك هي: تأليه المسيح واعتقادهم أنه هو الله أو ابن الله.
 

ولولا مجيء القرآن بنفي الصلب قطعا، لكان لا حرج على من اعتقده إلى اليوم، أما بعد مجيء القرآن الكريم ونفيه القاطع لصلب المسيح صار المثبت لصلبه كافرا، لأنه مكذب لخبر الله تعالى.
 

فقبل مجيء القرآن: من آمن بالمسيح عليه السلام على أنه بشر، ورسول من رسل الله الكرام، ثم اتبعه على توحيده لله وطاعته له فهو ناج فائز عند الله تعالى، سواء اعتقد أن المسيح صلب أم لم يصلب.
 

وعلى العكس من ذلك: من اعتقد أن المسيح إله وليس بشرا، ويقول: هو الله، أو: ابن الله فهو كافر خاسر يوم القيامة الخسران المبين، سواء اعتقد مع ذلك أن المسيح صلب أم لم يصلب.
 

ولذلك لم يتطرق القرآن الكريم لمسألة الصلب إلا في بضع كلمات، قال الله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء/157- 158.
 

في حين أن قضية وحدانية الله عز وجل الواحد الأحد، الفرد الصمد، كانت حاضرة في القرآن الكريم كله، إذ هي مدار الإسلام، ومقصد بعثة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام.
 

ويتفرع على قضية التوحيد: إبطال تأليه المسيح عليه السلام، حيث جاءت آيات كثيرة في عدة سور في القرآن الكريم تَرُدُّ ذلك وتبين بطلانه.
 

قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) المائدة/72-75.
 

وقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) النساء/171.
وقال عز وجل: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة/30-31، وآيات أخرى كثيرة في تقرير التوحيد وبطلان تأليه المسيح.

 

وبهذا يتبين أن القرآن الكريم لم يكفر من اعتقد صلب المسيح، والآية الوحيدة في القرآن الكريم التي تحدثت عن الصلب ليس فيها التصريح بتكفير من اعتقد ذلك، ولا انشغال به، وإن كان ذلك مقتضاها، بداهة.
 

بخلاف من اعتقد ألوهية المسيح فإن آيات القرآن الكريم تدل دلالة صريحة قطعية على تكفيره، وهذه القضية، مع الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم: هما القضيتان الجوهريتان بيننا نحن المسلمين، وبين النصارى.
 

وقد قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
 

وليست الكلمة السواء التي دعا القرآن إليها النصارى هي الإقرار بعدم صلب المسيح، بل هذه القضية (قضية الصلب) هي قضية جزئية فرعية، إذا ما قورنت بالقضية الأساسية التي هي توحيد الله تعالى، وعدم الشرك به، والإيمان برسله كافة، ولا سيما خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم.
 

قال الإمام ابن حزم رحمه الله (ت456هـ): "لم يلزمِ الناسَ قط قبل ورود القرآن فرضٌ بشيء من ذلك [يعني فيما يتعلق بقضية الصلب]، لا بإقرار ولا بإنكار، وإنما كان خبرا لا يقطع العذر، ولا يوجب العلم الضروري، ممكن صدق قائله، فقد قتل أنبياء كثيرة، وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك...
 

ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن يفرض إقرارا بصلب المسيح صلى الله عليه وسلم، ولا بإنكاره، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه". انتهى من "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (1/57).
 

وأختم بالرد على تساؤل الكاتب الأخير: وهل المسلمون متعبدون بتكذيب الأمم السابقة حتى في الحوادث التاريخية؟
فأقول: ثبت أولا بطريق التواتر أن المسيح بذاته قد صلب ثم اطرح أسئلتك واعلم أن المسلمين متعبدون بعدم تكذيب ما أورده القرآن الكريم بلفظ قطعي، من نفي أن يكونوا قد قتلوا المسيح وأن يكون قد صلبوه، وتأكيده أنهم ما قتلوه يقينا؛ وليسوا متعبدين بتغيير دينهم وعقيدتهم وتكذيب كتاب ربهم لسفسطات وشقشقات وهلوسات ما أنزل الله بها من سلطان، والله تعالى يقول عن كتابه: (ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).