رسائل تبعثها الأحداث العالمية
5 ذو القعدة 1429
قبل أسابيع قليلة أفاق العالم على كلمات الرئيس الأمريكي وهو يعلن أن بلاده تمر بخطر عظيم وأزمة مالية حادة، ثم توالت الأحداث.. بنوك كانت تملك المليارات تنهار، أرقام فلكية تذهب أدراج الرياح، شركات كبرى تقف على حافة الإفلاس، ثم تنتقل الأزمة سريعاً إلى أوربا وبقية دول العالم وتصل إلى دول الخليج لأن الملايين من أموالها -للأسف- موجودة في بنوك غربية، وقد أعلنت هذه إفلاسها؛ زلزال اقتصادي كبير هز العالم ولا تزال آثاره وتوابعه تترى.
ومنذ ذلك اليوم انتقلت أخبار الأزمة إلى صدارة نشرات الأخبار قبل الأحداث السياسية، وامتلأت الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفزة بالتحليلات والتفسيرات، إلا أن جُل هذه التحليلات يتناول أسباب الأزمة المادية والظاهرة ويتناسى ما وراءها، الأمر الذي يذكرنا بما يقوله كثيرون عند حدوث أنواع الكوارث من فيضانات وزلازل وبراكين حيث ينظرون إلى الأسباب المادية وينسون مسبب الأسباب، وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ  *  يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم/6، 7].
إن الإسلام يوجهنا كي ننظر للأمور بمعيار مختلف؛ لقد أخبرنا ربنا جل وعلا من أنباء الأمم السابقة التي أنزل بها سبحانه وتعالى عقابه، وبين جل وعلا أن كثيراً من هذه الأمم كانت تعاقَب بسبب ما ارتكبته من معصية ظاهرة، إضافة إلى شركها؛ أما قوم لوط فبسبب الفاحشة التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين، وأما ثمود فلعقرهم الناقة، وأما عاد فلعلوهم واستكبارهم في الأرض وقولهم من أشد منا قوة، وأما قوم شعيب فلتطفيفهم في المكيال والميزان، وأما قوم فرعون فلطغيانهم وإفسادهم في الأرض، وقد جمعت أمريكا كل هذه الموبقات وزادت عليها فحق عليها العذاب لأن سنن الله ماضية لا تتبدل ولا تتحول.
إن غالبية الأمريكان لا يدينون دين الحق فهم مشركون أو ملحدون أو علمانيون لا دينيون، وأما الفاحشة فقوانينهم تشرعها وتحمي من يمارسها بدعوى الحرية الشخصية، وأما الاستكبار في الأرض فأمريكا زعيمته وساستها يرددون صباح مساء بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال "من أشد منا قوة"، وأما التطفيف في الميزان فحدث عنه ولا حرج، سواء كان في المعاهدات الدولية التي تتفلت منها إن خالفت هواها، أو في الكيل بمكيالين في التعامل مع الآخرين ومن أوضح صور ذلك ما يتعلق بفلسطين، وأما ظلمها وطغيانها فقد طال كثيراً من شعوب الأرض ولا سيما أهل الإسلام.
وبرغم أن الأسباب السابقة كافية كي تحل العقوبة، إلا أن كون العقوبة حصلت في جانب المال والاقتصاد يجعلنا نقول إن من أعظم أسباب ما حصل هو أن الاقتصاد الأمريكي بل النظام المالي الرأسمالي بصفة عامة يقوم على أسس ربوية، وقد قال ربنا جل وعلا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة/276] فبين سبحانه أنه يذهب بمال الربا أو ينقصه أو يذهب ببركته، أما الأخيرة فمشاهدة معلومة، وأما الأوليان فكان الناس يرونهما هنا وهناك لكنهم رأوهما الآن بأمهات أعينهم يعمان العالم بأسره.
إن آثار هذه الأزمة -بشهادة عقلاء ومفكري الغرب- لن تقف عند حدود عالم المال والاقتصاد، فالمفكر الأمريكي الشهير فوكوياما يقول: "لن تعود أمريكا كما كانت قبل الأزمة"، "النفوذ الأمريكي يتضاءل في العالم"، "على أمريكا أن تسدد فاتورة ظلمها"، ويقول مفكر بريطاني: "مستقبل أمريكا بيد الآخرين ونفوذها ولى"، بل إن رئيس المخابرات الأمريكية يقول: "لم تعد أمريكا هي المهيمنة على العالم".
إننا وإن كنا نفرح بكل مصيبة وكارثة تحل بالكفار جزاء وفاقاً لما قدمته أيديهم من كفر وظلم ومحاربة لأولياء الله عز وجل مصداقاً لقوله سبحانه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد/31] إلا أننا لا نريد أن ننشغل بالآخرين وننسى أنفسنا، بل علينا أن نستخلص الدروس والعبر لها، فمن ذلك:
هذه الأزمة وإن كانت عقوبة لأمريكا ولحلفائها إلا أنها هزة تنذر بقارعة أشد وربك يملي للظالم ويمهل ويبعث بالنذر، فإذا لم يرعووا جاءت البطشة الكبرى، وماهذه الهزة إلاّ إنذار لهم وهي كذلك إنذار لكل من يسير على دربها، سواء الذين يحاربون أولياء الله إرضاء لأمريكا وانصياعاً لأوامرها، أو الذين يريدون نشر نظامها الاقتصادي والمالي والفكري في بلاد المسلمين.
برغم عظم المصيبة التي حلت بأمريكا إلا أنها لم تنته من الوجود، ولم تمح من الخارطة كما يتخيل بعض الأخيار، ذلك أنها رغم مساوئها توفر شيئاً من العدل والحرية لمواطنيها ولديها احتياطي كبير من الأموال، وهذه المقومات تجعل زوالها تدريجياً، وربما تلا هذا النذير نذير آخر قبل أخذ تلك البلاد إذا هي لم ترجع.
هذه الأزمة وإن لم تصل آثارها إلى عمق ديارنا إلا أنها مستنا شيئاً ما، وقد أظهرت الأحداث أن كثيراً من التجار ورجال الأعمال تأثروا لأنهم أودعوا أموالهم في بنوك الغرب، وهؤلاء جنوا على أنفسهم وعلى بلادهم ومواطنيهم، لأن هذه الأموال كان من حقها أن تشغل في بلاد المسلمين وتعود بالنفع على أصحابها وعلى إخوانهم.
أظهرت الأحداث الحالية وما قبلها أن بعض الأخيار وكثيراً من الطيبين وقعوا ضحايا لنظام السوق الرأسمالي والبورصات العالمية، فكبل كثيرون منهم بديون تبلغ عشرات ومئات الملايين ودخل بعضهم السجن بسبب ذلك، وهو الأمر الذي كثيرا ما حذرنا وحذر الدعاة إلى الله منه، فلا بد أن يتوخى الناس الحذر ولا تجرهم أماني الإثراء السريع لمثل هذه المعاملات.
رغم ما تمثله الأزمة من ضربة للنموذج الغربي الذي يبشر به الليبراليون، إلا أن منهم من خلع برقع الحياء ولم يتوان عن استغلال هذه الأزمة استغلالاً معكوساً، فزعم أن سبب الأزمة أن أمريكا منذ ثمان سنوات دولة عقيدية، وكل دولة عقيدية مآلها إلى الفشل والزوال وضرب مثالاً بطالبان! ودعا إلى انتهاج نموذج إسرائيل التي أبعدت الحاخامات عن الحياة العامة والسياسة والاقتصاد بزعمه! وهذا إما جهل منه أو قلب للحقائق دعاه إليه ما يراه من انهيار النموذج الذي كان يبشر به هو وأمثاله، وهو في الوقت نفسه تأكيد على العداء الذي يكنه هؤلاء لهذه الأمة وثوابتها وذلك بالدعوة المبطنة للتخلي عن هذه الثوابت.
إن ثقة هؤلاء العلمانيين والليبراليين بأمريكا واقتصادها ليست مستغربة، لكن المستغرب أن بعض الأخيار كانت لديهم مثل هذه الثقة، حتى إن بعضهم كان ينكر على الدعاة الذين كانوا يبشرون من زمن بقرب انهيار أمريكا وتراجع قوتها، ويقول بحكم تخصصه في الدراسات الاقتصادية ودراسته في أمريكا أن أمريكا قوية واقتصادها قوي وكلام هؤلاء الدعاة عاطفي وبعيد عن الصواب، يدل على عدم إدراك سنن الله الكونية، ولا التفكر في الأدلة الشرعية، فهذه فرصة لمراجعة النفس وتذكيرها بأن المقاييس ليست مادية فحسب.
بعض الناس والمسؤولين ممن لا يعادون هذا الدين ولا يحاربون ثوابت هذه الأمة لم يكونوا يرون نموذجاً صالحاً للتطبيق وكفيلاً بتحقيق الرفاهية والازدهار إلا النموذج الغربي، حتى إن أحدهم ليقول: الربا والنظام الرأسمالي كالدم بالنسبة للجسم، فلا تحاولوا! فجاءت هذه الأحداث لتجبر الجميع على إعادة حساباته ومراجعة تصوراته.
وأخيراً ... فإن من أعظم الدروس والعبر أن المسلم المتمسك بشرع الله عز وجل لا ينبغي بحال أن يكون بحاجة إلى شواهد من الواقع ليعلم أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن المسلم من يكفيه أن يسمع قول الله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة/275] ليوقن أن هذه حال المرابين عند خروجهم من قبورهم، وإن لم ير أمثال هذا التخبط الذي نراه اليوم على شاشات التلفزة لمن فقدوا الملايين في لحظات.
هذا المسلم يكفيه أن يسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة/278، 279]، (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)، ليوقن أن ذلك واقع لا محالة وأنه لا قِبَل لأحد بحرب الله ورسوله فيترك كل صورة من صور الربا، ولا ينتظر أن يرى أثر حرب الله على المرابين ليقلع ويتوب.
وهذه من أهم الرسائل التي ينبغي أن ننشرها بين الناس هذه الأيام، والله من وراء القصد.