محنة غزة ودور العلماء
23 محرم 1430

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .. وبعد.
فمما لا شك فيه أن للعلماء دوراً كبيراً في مسيرة الأمة الإسلامية في الماضي والحاضر والمستقبل، فهم ورثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذين ورثوا عنه العلم الذي جاءه من رب العالمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر"(1)، وعليهم يقع العبء الأكبر في تبليغ هذا الإرث النبوي للعالمين، فهم أولى الناس بقوله عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عني ولو آية"(2).

 

لقد كان المسلمون منذ عهد الصحابة يرجعون إلى أهل العلم امتثالاً لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وكثيراً ما كانت تحصل الفتن والمحن في الأمة بسبب البعد عنهم وتنكب طريقهم، ومن تأمل في كثير من حوادث التاريخ مثل فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وأول ظهور الخوارج والقدرية وغيرها علم صدق ما نقول.

 

وفي زمن الأزمات والمحن تشتد حاجة الناس لأهل العلم، ليبينوا لهم ما التبس من الحق بالباطل، ويأخذوا بأيديهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما النجاة من كل فتنة وضلالة، وبهما يُرفع كل خلاف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمر سبحانه بطاعة الله وطاعة رسوله استقلالاً، ثم أمر بطاعة أولي الأمر -وهم الأمراء والعلماء- تبعاً لطاعتهم لله ورسوله، وإلا فإنهم لا يطاعون في معصية الله ولا في معصية رسوله، ثم دلنا عز وجل عند حصول التنازع في أمر من الأمور إلى الرجوع للكتاب والسنة، ولا يدل على أحكامهما إلا العلماء، فعاد الأمر لهم عند الاختلاف، لكن هل يصدر الناس في واقعهم عن رأيهم؟ فإذا لم يكن لم يبق إلاّ الدعوة والبيان والتثبيت.

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فزع الناس من أمر أمَّنَهم، وهدَّأ من روعهم، وبصرهم بحقائق الأمور، والأحاديث في ذلك كثيرة، وما زال علماء الأمة يقومون بهذا الأمر من بعده إلى اليوم، يؤمِّنون الناس عند الفزع، ويبصِّرونهم بحقائق الأمور وبواطنها، ويربطون أمر الأرض بأمر السماء، لكننا نسمع هذه الأيام كثيراً من الأصوات ترتفع من هنا وهناك قائلة: ماذا فعل العلماء في هذه المحنة؟ أين دور العلماء؟ دور العلماء ضعيف! إلى غير ذلك من هذه العبارات.

 

وبعض هذا الكلام يأتي من أناس مردوا على التنقص من العلماء والحط من قدرهم ومحاربتهم، فوجدوا في الأحداث الجارية فرصة لينالوا منهم، وكلامنا هنا ليس موجهاً إليهم، لكنه موجه لفريق آخر يقول مثل هذا الكلام، فريق من الصالحين والطيبين، الذين نحسبهم من المخلصين الذين حسنت نواياهم، ونحسب أنهم ما قالوا ما قالوا إلا لما أصاب قلوبهم من ألم وحرقة لما يجري على أرض العزة في غزة من قتل، وتنكيل، لا يصدر إلا من وحوش ونفوس شيطانية. ولنا مع هؤلاء الإخوة الكرام وقفات، لأننا وإن كنا نلتمس لهم أسباباً دفعتهم لقول ما قالوا، إلا أننا لا نجعل هذه الأسباب مسوغة لهم اتهام العلماء، والتقليل من شأن ما قاموا به.

 

وقبل كل شيء لا بد أن نقرر أمراً ينبغي أن يستحضره الجميع في أذهانهم بوضوح وجلاء، وهو أن لكل فرد من أفراد الأمة دوراً يقوم به إزاء هذه المحنة وغيرها من المحن، وهذا الدور منوط بوسعه وطاقته، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فيلحقه من اللوم أو الذم أو الإثم، بقدر ما فرط في فعل ما هو بوسعه وطاقته، فمن كان قادراً على الدعم المادي بأي صورة من صوره وأشكاله فلم يدعم، فقد قصر وفرط وقد يأثم، ومن كان قادراً على الدعم المعنوي بأي صورة فلم يدعم، فقد قصر وفرط وقد يأثم، ومن عجز عن أي صورة من صور الدعم، فلن يعجز عن رفع يديه أو التوجه بقلبه إلى مالك الملك قائلاً: اللهم إنا مغلوبون فانتصر، وفي الحديث الصحيح: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم!"(3).

إذا تقرر ذلك، فلا بد أن يعي الجميع أن تسيير الجيوش، أو مقارعة الأعداء بالسنان، أو فتح المعابر، أو قطع العلاقات، وما أشبه ذلك، كل هذا ليست في يد العلماء اليوم، إذ لا يملكون إلا الكلمة الموجهة والمرشدة، والناصحة والمنكِرة، يقولونها للراعي والرعية، فهل قصر العلماء في ذلك؟

 

لقد قام العلماء -في كثير من بلاد المسلمين- بإصدار البيانات والفتاوى؛ عقدوا لقاءات ومؤتمرات، اتصلوا بالمسؤولين، كتبوا المقالات، ألقوا الدروس والخطب، هزت كلماتهم المنابر لكنها لم تؤثر في كثير من الناس! ظهروا على شاشات الفضائيات، بينوا للناس حقيقة الصراع، وأنه صراع عقيدة بالدرجة الأولى، وليس صراعاً على أرض أو مكاسب سياسية كما يُراد له أن يكون، وكما سُوِّقَ بين الناس لسنين عدداً، طالبوا الجميع ببذل ما يملكون على التفصيل السابق، وبينوا حكم من قصر، فماذا يُطلب منهم أكثر من ذلك، وماذا بوسعهم فوق ذلك؟
بعض الطيبين يقول: نعم، تكلم العلماء وظهرت البيانات، لكن العبارات ضعيفة!

 

وهنا لا بد من توضيح: فالعلماء عندما يصدرون البيانات يراعون المصالح والمفاسد، هناك بيانات لا يعرف الناس كيف خرجت، ولماذا خرجت، وكم مرة قرئت وعدلت وحررت، لكن من قام بإخراجها على ما خرجت عليه راعى أموراً قد تكون خفيت على بعض القراء فيقول ضعيفة، وعلى الجانب الآخر هناك بيانات خرجت بلغة قوية وحماسية، مراعاة لأمور أخرى، وقد نجد بعض العلماء وقع على هذه وتلك، فهذا من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد. وليس واجباً بل قد لا تقتضي الحكمة أن تكون كل البيانات بأسلوب واحد، أو على نفس الدرجة من القوة والحماسة، أو تخاطب طرفاً دون آخر، وليس المطلوب مجرد إطلاق عبارات ترضي الناس لقوتها وحماستها دون النظر إلى المآلات والمصالح والمفاسد.
فليتق الله من يطلق لسانه بثلب العلماء، وليحسن طلاب العلم الظن بمشايخهم وإخوانهم وليرفقوا بهم، وليراعوا ما على العلماء من ضغوط واتهامات وطعنات من الليبراليين والعلمانيين وغيرهم، فلا يكونوا عوناً لهم عليهم!

 

ولا يحسبن أحد أننا بذلك ننزه العلماء من كل خطأ وتقصير، لا والله فليسوا بالمعصومين، وما دام الواحد منهم لم يقل الباطل واجتهد في قول الحق فلنعذره ولنرفق به وإن كنا نتمنى منه المزيد، إذ الأمر يرجع لاجتهاده، وتقديره للمصالح والمفاسد، وقد يظهر له ما خفي على غيره.
فإن كان المرء لا بد فاعلاً، فليتصل قبل أن ينكر بهذا العالم وليسأله ويستفسر منه، فعسى أن يسمع منه ما يعذره من أجله، بل ما قد يجعله يغير رأيه بالكلية، ويرى الصواب فيما فعله العالم، والله أعلم.

______________
(1) سنن الترمذي 5/48 (2682)، وصححه الألباني.
(2) صحيح البخاري 3/1275 (3274).
(3) صحيح البخاري 3/1061 (2739).