رأس التأويل والتحريف يطل من جديد
25 صفر 1432
خالد بن صالح الغيص

يطلق التأويل في اللغة على عدة معان، منها التفسير والمصير والعاقبة، وتلك المعاني موجودة في القرآن والسنة: قال الله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) الأعراف: 53. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعائه لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) أخرجه البخارى. وهو كذلك عند السلف.

 

ويطلق التأويل عند الخلف من علماء الكلام والأصول والفقه بأنه صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، وهذا التأويل مرفوض عند السلف واعتبروه تحريفاً باطلاً لنصوص الكتاب والسنة، وقد ظهر هذا المعنى للتأويل متأخراً عن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة، بل ظهر مع ظهور الفرق ودخلوا منه إلى تحريف النصوص، وكانت له نتائج خطيرة، إذ كلما توغلوا في تأويل المعانى وتحريفها بعدوا عن المعنى الحق الذى تهدف إليه النصوص (نقلاً بتصرف من أصول وتاريخ الفرق الإسلامية لمصطفى بن محمد) وتسلطوا به على نصوص القرآن والسنة التي تثبت صفات الله عز وجل وحرفوها وسموا تحريفهم تأويلاً وزعموا بذلك أنهم نزهوا الرب عن مشابهة المخلوقين، ونسوا أنهم بذلك قد حرفوا نصوص القرآن والسنة وحملوها على معان فاسدة. 

 

وقد أطلت برأسها – في الآونة الأخيرة - صورة جديدة من صور التأويل المرفوض - بمعناه عند المتأخريين - وهذه الصورة الجديدة كسابقتها تسلطت على نصوص القرآن والسنة ولكن ليست نصوص صفات الله عز وجل – كماهوعند الأولين منهم - بل النصوص الكونية التي تتحدث عن خلق المخلوقات والنصوص التشريعية وغيرها، فبدؤوا يؤولونها ويحرفونها ويحملونها على معان فاسدة متبعين بذلك للمتشابه من النصوص ولحوادث جزئية حدثت في التاريخ الاسلامي الطويل، فعلوا ذلك لأجل التوفيق – زعموا - بينها وبين النظريات العلمية الحديثة والأفكار والمذاهب المعاصرة كالديمقراطية والشيوعية والرأسمالية والوطنية والحرية وحقوق المرأة وغيرها وسموا تحريفهم هذا تأويلاً أو توفيقاً بين النصوص وبين الواقع وهم في حقيقة الأمر قد دلسوا على عوام الناس، فبدؤوا يلوون أعناق الآيات والأحاديث لتوافق ما ذهبوا إليه، فهذا يؤول ويحرف قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام عندما حاج النمرود في ربه وقال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب كما في قوله تعالى في سورة البقرة آية 258، فقالوا ليست الآية دليلاً على دوران الشمس حول الأرض والذي به يتعاقب الليل والنهار، وأولوها بما يوافق النظرية الحديثة والتي تقول بدوران الأرض حول الشمس وقالوا: إن إتيان الشمس من المشرق هو فيما يبدوا للناس حتى لا يصطدم القرآن مع أهل القرون الماضية، فجاؤا بتفسير لم يسبقهم إليه أحد من السلف بل هو تأويل وتحريف لكتاب الله تعالى، ويظنون أنهم بفعلهم هذا أعلم وأحكم من السلف، فطعنوا بسلفنا الصالح كما طعن قدماؤهم بقولهم: إِنَّ طريقة السّلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا تنقّص للسّلف، وطعن في علمهم وإيمانهم، وتناقض ظاهر، إذ مقتضى السّلامة العلم والحكمة!! كل ذلك ليوفقوا بين الآيات والنظريات الحديثة في ظنهم، جاء في فتوى رقم ]9247[ من فتاوى اللجنة الدائمة بتوقيع الشيخ ابن باز وغيره من العلماء رحمهم الله:-

 

س: ما حكم الشرع في التفاسير التي تسمى بـ (التفاسير العلمية)؟ وما مدى مشروعية ربط آيات القرآن ببعض الأمور العلمية التجريبية؟ فقد كثر الجدل حول هذه المسائل.

ج: إذا كانت من جنس التفاسير التي تفسر قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء الآية 30، بأن الأرض كانت متصلة بالشمس وجزءاً منها، ومن شدة دوران الشمس انفصلت عنها الأرض ثم برد سطحها وبقي جوفها حاراً، وصارت من الكواكب التي تدور حول الشمس، إذا كانت التفاسير من هذا النوع فلا ينبغي التعويل ولا الاعتماد عليها، وكذلك التفاسير التي يستدل مؤلفوها بقوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) النمل الآية 88، على دوران الأرض، وذلك أن هذه التفاسير تحرف الكلم عن مواضعه، وتخضع القرآن الكريم لما يسمونه نظريات علمية، وإنما هي ظنيات أو وهميات وخيالات، وهكذا جميع التفاسير التي تعتمد على آراء جديدة ليس لها أصل في الكتاب والسنة ولا في كلام سلف الأمة، لما فيها من القول على الله بغير علم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. انتهى. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مسألة دوران الأرض: وأما رأينا حول دوران الشمس على الأرض الذي يحصل به تعاقب الليل والنهار، فإننا مستمسكون بظاهر الكتاب والسنة من أن الشمس تدور على الأرض دوراناً يحصل به تعاقب الليل والنهار، حتى يقوم دليل قطعي يكون لنا حجة بصرف ظاهر الكتاب والسنة إليه - وأنى ذلك - فالواجب على المؤمن أن يستمسك بظاهر القرآن الكريم والسنة في هذه الأمور وغيرها. انتهى من مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين.

 

وآخر يستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد عندما أخذ برأي الأغلبية على أن ذلك ديمقراطية الإسلام وبدأ ينتقي من النصوص ما يوافق هواه ويلوي أعناقها لتوافق مذهب الديمقراطية ونسي أن الديمقراطية وهي حكم الشعب للشعب أو حكم الأغلبية تخالف أصلاً عظيماً من أصول الإسلام وهو الانقياد والاستسلام والحكم لله وحده. ولكنه التأويل والتحريف برأسه القبيح يطل من جديد ليوافق المذاهب المعاصرة ولو خالف أصل الإسلام، قال الشيخ عبدالعزيز الفوزان: وأخطر مسالكهم في تبرير فسادهم، والسعي لإفساد الخلق وإضلالهم، هو اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسُّنة وأقوال الأئمة، حيث يكون لديهم مقررات سابقة، وأحكام مبيَّتة، يريدون تبريرها وإقناع الناس بها، فيأتون إلى نصوص الكتاب والسُّنة، وإلـى أقوال الأئمة، لا ليتعرفوا على حكم الله - تعالى - من خلالها، ولكن ليحرِّفوها ويلووا أعناقها ويؤولوها على غير المراد بها، لتتفق مع ما في نفوسهم من أحكام وقناعات سابقة، فتجدهم يأخذون بالمتشابه من نصوص الوحيين، ومن أقوال الأئمة المعتبَرين، ويتركون النصوص الصريحة المحكَمة، التي تدحض باطلهم، وتبطل فهمهم، وهذا هو منهج أهل الزيغ والضلال الذي حذرنا الله - تعالى - منه في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧]، فبيَّن أن آيات الكتاب منها المحكَم الواضح الدلالة، وهي أمُّ الكتاب، أي: أكثره، وأساسه الذي يجب أن يُرَد المتشابه إليه ليُعرَف مراد الله منه، ومنها المتشابه الذي يحتمل أكثر من معنى، فيجب رد هذه المعاني المحتمَلة إلى المعاني الصحيحة التي دلَّت عليها الآيات المحكَمة، وألا يُضرَب كتاب الله - تعالى - بعضه ببعض، أو أن يؤول كلامه إلى معنى فاسد وإن كان اللفظ يحتمله، فليس في القرآن تناقض ولا اختلاف، ولا حجة فيه لضال ولا مبتدع، لأنه كما قال الله - تعالى -: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. انتهى نقلاً من موقع مجلة البيان.

 

وهكذا بدأت رحى التأويل والتحريف تدور مقعقعة من جديد بنصوص القرآن والسنة لتوافق المذاهب المعاصرة والنظريات الحديثة، فإذا كان السابقون من أهل التأويل كالمعتزلة وغيرهم لجؤا إلى التأويل تنزيهاً للرب وتعظيماً له سبحانه فيما يظنون فكان أصل تأويلهم تعظيم الله تعالى، فإن أهل التأويل الجدد يؤولون النصوص تعظيماً للمذاهب المعاصرة والنظريات الحديثة وخوفاً أن يطعن أهل الإلحاد فيهم فيقال عنهم رجعيون أو أنهم لا يواكبون التطور والتقدم العلمي، فبدلاً من أن يؤولوا النصوص ويحرفوها كان عليهم أن يقفوا وقفة سلفنا الصالح في ذبهم لطعنات أهل التأويل عن نصوص القرآن والسنة، فيدحضون الشبه التي تُلقى على النصوص ويزيلون ما ينقدح في الأذهان من شكوك ويبينون الحق ويوضحون مدلولات النصوص وما أراده الله ورسوله للناس من غير تحريف ولا تأويل فاسد ولا اتباع للمتشابه من النصوص ولا يخافون بعد ذلك في الله لومة لائم، فكما كان لوقفة علماء سلفنا الصالح الفضل بعد الله في تبيان الحق ونشره بين الناس في عصور كاد الباطل أن ينتفش، كوقفة الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن، وكوقفات شيخ الإسلام ابن تيمية الكثيرة في زمانه وكوقفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله جمعياً حتى ظهرالحق واستبان وزهق الباطل ولم يمنعهم انتشار الباطل في زمانهم من محاربته ودحض شبهه وتبيان الحق، كذلك علينا أن نكون في هذا الزمان الذي استطال فيه أعداء الإسلام من الغرب والشرق وأعوانهم من داخل الأمة فنبين الحق للناس وندحض شبه الباطل ولا نخاف في الله لومة لائم، ولا يخيفنا طعنهم في ديننا فهم لا يزالون يطعنون ويقدحون ويلمزون وهذا دأبهم دائماً وأبداً، والتأويل والتحريف داءٌ لا يُشفى بإذن الله إلا بتحقيق كمال التوحيد لله تعالى والانقياد والتسليم، قال الطحاوي رحمه الله: ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان. (العقيدة الطحاوية).

والله تعالى أعلى وأعلم، واستغفر الله وأتوب إليه.