أخذ الأجرة على الأذان
18 محرم 1436
د. أحمد الخليل

الحمد الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد:
فإن من المسائل الفقهية التي يكثر السؤال عنها وتمس الحاجة لبيانها مسألة " حكم أخذ الأجرة على الأذان " وهذه المسألة فيها قوة في الخلاف.

أولا : تحرير محل النزاع :
* اتفق أهل العلم على استحباب أن يؤذن بلا أجرة.[1]
* اتفق أهل العلم على جواز أخذ الرزق من بيت المال .[2]
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" وأما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضا وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة فمن عمل منه لله أثيب وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة ") [3]
لكن بعض هؤلاء الذين اتفقوا اشترط ألا يوجد متبرع بالأذان فإن وجد فلا يجوز أن يأخذ رَزقاً من بيت المال ، (وهو قول الشافعي فقال : " وليس للإمام أن يرزقهم ولا واحدا منهم وهو يجد من يؤذن له متطوعا ممن له أمانة ... فإن لم يجده فلا بأس أن يرزق مؤذنا " [4] ورجحه ابن قدامة )[5].
 ثالثاً: اختلفوا في أخذ الأجرة هل يجوز أو لا يجوز؟

الأقوال في حكم أخذ الأجرة على الأذان
القول الأول : عدم جواز أخذ الأجرة على الأذان، وهو مذهب أبي حنيفة ومتقدمي الأحناف [6]، والصحيح من مذهب الحنابلة[7] ، ومذهب الظاهرية [8].
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبي الْعَاصِ، قَالَ:قُلْتُ: يَارَسُولَ اللهِ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، فَقَالَ: أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا.[9]
ونوقش : بأن هذا النهي على سبيل الكراهة والأولوية، لا على سبيل التحريم (لما سيأتي من أدلة الجواز).[10]
2- ما رواه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان قال: سمعت يحيى البكاء يقول: رأيت ابن عمر يسعى بين الصفا والمروة ومعه ناس فجاءه رجل طويل اللحية فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني لأحبك في الله، فقال ابن عمر: «لكني أبغضك في الله» ، فكأن أصحاب ابن عمر لاموه وكلموه، فقال: «إنه يبغي في أذانه، ويأخذ عنه أجرا»11
(قال ابن حزم " لا يعرف لابن عمر في هذا مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم – " [12] ).
3- أن الأذان عبادة ، ولا يجوز للإنسان أن يأخذ أجرة على العبادة ، كما لا يجوز أن يأخذ أجرة على الصلاة والصيام والزكاة.
القول الثاني: جواز أخذ الأجرة، وهو مذهب المالكية [13]، والأصح من مذهب الشافعية [14] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- ما أخرجه النسائي في حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأذان لأبي محذورة وفيه " ..... ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة " [15]
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علّم أبا محذورة الأذان ، وجعله مؤذناً أعطاه صرةً من فضة .
وأجاب الأولون عن حديث أبي محذورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه صرة من فضة تأليفاً لقلبه وليس أجرةً على أذانه.
2- أن المؤذن يحبس نفسه على منفعة تتعدى، وهي بهذا تشبه تعليم القرآن، فيجوز أن يأخذ أجراً عليها.
3- أنه عمل معلوم، يجوز أخذ الرزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه .[16]
القول الثالث: جواز أخذ الأجرة لمن كان محتاجاً إليها وبه قال متأخرو الحنفية [17]
، وحكي رواية عن أحمد [18] ، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية [19] .
واستدلوا بما يلي :
1- أننا جوزنا الأخذ في هذه الحالة؛ لئلا تتعطل مصلحة الناس للقيام بهذه الشعيرة ، وكأن أصحاب هذا القول يقولون: إذا دار الأمر بين ألا يؤذن لانشغاله بطلب رزقه أو يؤذن ويفرض له من بيت المال؛ إذا دار الأمر بين هذين الأمرين يجوز أن يأخذ أجراً ، وفيما عدا هذه الصورة لا يجوز.
2- أن " المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة؛ فإن الكسب على العيال واجب أيضا فيؤدي الواجبات بهذا؛ بخلاف الغني لأنه لا يحتاج إلى الكسب فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله؛ بل إذا كان الله قد أغناه وهذا فرض على الكفاية: كان هو مخاطبا به وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا " [20].
3- القياس على جواز أخذ ولي اليتيم في حالة احتياجه كما قال تعالى في ولي اليتيم: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف}[21].

الترجيح:
قد يكون الأقرب هو اختيار شيخ الإسلام:
أولاً: لأن فيه جمعاً بين الأدلة.
ثانيا: لأن الأذان فيه نفع متعدي وهو شبيه إلى حد كبير جداً بتعليم القرآن وتعليم العلم ... إلى آخره.

________________________________________
(*)وقد تكلمت عن هذه المسألة في شرحي لبلوغ المرام ورأيت أن أفردها بالنشر على موقعي، وقد أسندت تنسيقها للمشرف العلمي على الموقع ، فقام بتوثيق النقولات وتخريج الأحاديث ، كما أنه وقف على بعض النقولات المفيدة فوضعها بين قوسين إتماما للفائدة .
[1] المغني لابن قدامة (1 / 301) .
[2] المغني لابن قدامة (1 / 301)، أنوار البروق في أنواء الفروق للقرافي (3 / 4).
[3] الاختيارات الفقهية (ص: 492).
[4] الأم للشافعي (1 / 103).
[5] المغني لابن قدامة (1 / 301).
[6] الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (1 / 392).
[7] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (6 / 45).
[8] المحلى بالآثار (2 / 182).
[9] أخرجه أحمد 4/21 (16379)، و"أبو داود"531، و"النَّسائي"2/23 وهو حديث صحيح على شرط الإمام مسلم.
[10] المجموع شرح المهذب (3 / 128) .
[11] مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1 / 481) مصنف ابن أبي شيبة (1 / 207)، وفي إسناده يحيى البكاء ضعفه أحمد وأبو حاتم والنسائي وغيرهم .
[12] المحلى بالآثار (2 / 183).
[13] مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1 / 455).
[14] المجموع شرح المهذب (3 / 127)، روضة الطالبين وعمدة المفتين (1 / 205).
[15] سنن النسائي (632) وهو حديث صحيح.
[16] المغني لابن قدامة (1 / 301)، المجموع شرح المهذب (3 / 125).
[17] الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (1 / 392).
[18] المغني لابن قدامة (1 / 301).
[19] مجموع الفتاوى (30 / 207).
[20] مجموع الفتاوى (30 / 207).
[21] مجموع الفتاوى (30 / 205 ، 206).