الضابط فيما يجري فيه الربا من الأموال
3 محرم 1436
د. سعد الخثلان

الربا من كبائر الذنوب، ومن السبع الموبقات، وقد حرمه الله عزّ وجلّ في جميع الشرائع السماوية.
وقد بيّن الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم أن الذين يأكلون الربا لا يقومون أي من قبورهم عند البعث إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وذلك لتضخم بطونهم بسبب أكلهم الربا في الدنيا فيقول سبحانه: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
كما توعد الله عزّ وجلّ الذي يعود إلى أكل الربا بعد معرفة تحريمه بقوله: (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وأخبر سبحانه بأنه يمحق الربا فقال: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي: يُذهبه، إما بأن يذهب بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة.
وقد أعلن الله تعالى الحرب منه، ومن رسوله على المرابي؛ لأنه عدولهما إن لم يترك الربا ووصفه بأنه ظالم فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين a فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللهِ ورسولهِ وإن تُبْتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون).
ففي هاتين الآيتين جملة من التهديدات عن تعاطي الربا:
أولاً: أنه سبحانه نادى عباده باسم الإيمان (يا أيها الذين آمنوا) ثم ختم الآية بقوم (إن كنتم مؤمنين) فدلَّ على أن تعاطي الربا لا يليق بالمؤمن.
ثانياً: أن الله تعالى قال (اتقوا الله) فدلَّ على أن الذي يتعاطى الربا لا يتقي الله ولا يخافه.
ثالثاً: أن الله تعالى قال (وذروا ما بقي من الربا) أي: اتركوا وهذا أمر بترك الربا، فدلَّ على أن من يتعاطى الربا قد عصى أمر الله.
رابعاً: أن الله سبحانه أعلن الحرب على من لم يترك التعامل بالربا فقال: (فإن لم تفعلوا) أي: لم تتركوا الربا (فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب ثم قرأ الآية.
خامساً: تسمية المرابي ظالماً، وذلك في قوله سبحانه (فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون).
وقد ورد في السنة نصوص كثيرة فيها التحذير من الربا، وبيان عظيم إثمه عند الله عزّ وجلّ فمن ذلك: ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكلَه وكاتبه وشاهديه)، واللعن يقتضي الطردَ والإبعادَ عن رحمة الله.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمة) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الربا سبعون باباً أدناها كالذي يقع على أمِّه) قال الحافظ المنذري: رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح لا بأس به. اهـ.
وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (درهمُ ربا يأكله الرجلُ وهو يعلم أشدُّ من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.
الربا في اللغة معناه: الزيادة، ومنه: قول الله تعالى: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) أي: زادت وعلت، ومنه قوله الله تعالى: (أن تكون أمة هي أربى من أمة) أي: أكثر عدداً.
ومعناه في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة.
وينقسم إلى: ربا الفضل وربا النسيئة، وأضاف بعض العلماء قسماً ثالثاً وهو ربا القرض.
والأشياء التي يجري فيها الربا بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيدٍ) فمن الفقهاء من قصر الربا على هذه الأشياء الستة وقالوا: لا يجري الربا فيما سواها. وهذا القول مروي عن قتادة وطاووس وهو مذهب أهل الظاهر، وذهب إليه أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي، ولكن هذا القول قول مرجوح، والصواب هو ما عليه جمهور الأمة من أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة، وما وافقها في العلة، لأن هذه الشريعة الكاملة المحكمة لا يمكن أن تفرق بين متماثلين، ولأنه قد وردت عدة آثار تدل على جريان الربا فيما عدا هذه الستة المنصوص عليها، ومنها: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن المزابنة والمحاقلة، والمزابنة هي: أن يبيع ثمر حائطِه بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيبٍ كيلاً، وإن كان طعاماً أن يبيعه بكيل طعام)، ففي هذا الحديث أدخل نوعاً جديداً غير الستة المنصوص عليها وهو: الزبيب والعنب، فدلّ ذلك على أن الربا لا يقتصر على تلك الأشياء الستة المنصوص عليها، ثم اختلف الجمهور في علة الربا فقال بعضهم إن العلة هي الكيل أو الوزن، فيجري الربا عندهم في كل مكيل أو موزون، ولا يجري فيما عدا المكيل والموزون، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة والحنفية، وقال آخرون: العلة في الذهب والفضة: غلبة الثمنية وفيما عداهما: الطعم وهو المشهور من مذهب الشافعية، وقال آخرون: العلة في الذهب والفضة: غلبة الثمنية وفيما عداهما، الاقتيات والادخار، وإليه ذهب المالكية، والصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم في علة الربا أنها في النقدين: الثمنية فيقاس عليهما كل ما جُعِل أثماناً كالأوراق النقدية في وقتناالحاضر، وفيما عدا النقدين العلة هي: الكيل أو الوزن مع الطعم. وقد اختار هذا القول الموفق ابن قدامة رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد، ووجه هذا القول: أن الذهب والفضة ــ وما يقوم مقامهما في التعامل بين الناس وفي تقويم الأشياء كالأوراق النقدية ــ بها قِوام الأموال، والمقصود منها أن تكون معياراً يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا يُقصد الانتفاع بعينها، فكان التعليل بالثمنية تعليلاً بوصفٍ مناسبٍ، وأما ما عدا النقديين وما في معناهما، فالعلة فيه الطعم مع الكيل أو الوزن، أما الطعم فلحديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطعام بالطعام مثلاً بمثلٍ) رواه مسلم.
ففي هذه الحديث إشارة إلى علة الطعم، وأما الكيل والوزن فقد قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثلٍ يتقيد بما فيه معيار شرعي، وهو الكيل والوزن. إذ أن الطعم بمجرده لا تتحقق به المماثلة لعدم المعيار الشرعي فوجب تقييده بالمعيار الشرعي وهو الكيل والوزن.
وبناء على ما تقدم فإن ما اجتمع فيه الكيل أو الوزن مع الطعم فيجري فيه الربا، كالأرز والذرة واللحم والخل واللبن والدهن، ونحو ذلك، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم، فلا ربا فيه، كالآلات والسيارات وجميع الأجهزة الكهربائية والإلكترونية ونحو ذلك، وأما ما وجد في الطعم وحده لكنه لا يكال ولا يوزن كالبيض والجوز فلا يجري فيه الربا، وكذلك ما كان مكيلاً لكنه غير مطعوم كالأشنان لا يجري فيه الربا بناء على القول الراجح في علة الربا.
وإذا اختلف علة الربا بين شيئين فيجوز فيهما التفاضل والتأجيل، كبيع التمر بالأوراق النقدية مثلاً فلا يشترط فيه التقابض؛ لأن العلة في التمر هي الكيل مع الطعم، والعلة في الأوراق النقدية هي مطلق الثمنية ومع اختلاف العلة يجوز التفاضل والتأجيل، وكذلك يجوز بيع الذهب بالبر والفضة بالشعير من غير اشتراط التماثل أو التقابض لاختلاف العلة.
إما إذا اتحدت علة الربا في شيئين فلا يخلو من أن يكونا من جنس واحد أو من جنسين، فإن كانا من جنس واحد كتمر بتمر، فيشترط لصحة بيع أحدهما بالآخر شرطان:
الشرط الأول: التماثل في القدر.
الشرط الثاني: التقابض قبل التفرق، أما إن اختلف الجنس كتمرٍ ببر فيشترط شرط واحد فقط، وهو التقابض قبل التفرق، ويجوز التفاضل في هذه الحال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ).
والجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها، فالتمر مثلاً جنس، والبر جنس وهكذا، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها فمثلاً: التمر جنس وله أنواع فالتمر السكري نوع، والتمر الخلاص نوع، والتمر الصفري نوع، وهكذا، والذي يؤثر في الحكم هو اختلاف الجنس، أما اختلاف النوع فلا أثر له فثملاً: لا يجوز بيع كيلو تمر سكري بكيلوي تمر خلاص، ولو كانت قيمتها متساوية، كما أنه لا أثر للجودة والرداءة، والقدم والحداثة في باب الربا.
يدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءهم بتمر جنيب (وهو نوع من التمر الجيد) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلَّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا. إنا لنأخذ الصاعَ من هذا بالصاعين (يعني: من التمر الرديء وجاء تسميته في بعض الروايات بالجمع) والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)، ففي هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم (عن بيع الصاعين من التمر الرديء بالصاع من التمر الجيد)، وجاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوَّه هذا عين الربا) مع أن الظاهر هو تساوي الصاعين من التمر الرديء بالصاع من التمر الجيد في القيمة، ومع ذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بل جعله عين الربا، ومثل ذلك
يقال أيضاً في الذهب، فلا يجوز للمرأة أن تبيع ذهباً قديماً بذهب جديد مع التفاضل في الوزن ولو تساويا في القيمة والمخرج الشرعي في هذا هو أن تبيع الذهب القديم بدراهم ثم تشتري بالدراهم ذهباً جديداً، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً).