كلية القانون بين الواقع والمظنون 2/ 2
9 جمادى الثانية 1438
معاذ بن مَذْكَر القحطاني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
فبعد أن ذكرت في المقال السابق
(كلية القانون بين الواقع والمظنون 1/ 2) ملاحظتين أذكر الآن الملاحظة الثالثة والأخيرة مع خاتمة هامة.. فأقول:

 

الملاحظة الثالثة:

نرى في كثير من أساتذتنا انبهارا بالغرب في تقدمه وتطوره، وفي نفس الوقت يكثر منهم التنقص للعرب والمسلمين ويكون ذلك بشكل مطلق دون تقييد في جانب معين دون آخر، وقليلا ما أسمع من أحدهم انتقادا للغرب في دينهم أو معتقدهم أو فطرهم أو انحلالهم الأسري أو الأخلاقي أو غير ذلك بل قد يرى بعضهم أن السفر والدراسة في تلك البلدان كرامة!

كما قد سمعت من أحد الأساتذة: "إذا ربنا أكرمك وذهبت تدرس في الخارج...."

 

وربما لا نسمع من بعضهم شيئا له علاقة بالعروبة أو بالإسلام أو بالدين عموما طيلة مدة دراستنا عنده، حتى لقد سمعت أحد الزملاء ـ و قد أخطأ ـ يقول: أظن د.فلان نصراني الملة!

 

- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان في عام 1945 ميلادية حاضر بشدة في أذهان كثير من الأساتذة، ولا ينكر أحدٌ بعض ما فيه إلا أني أظن أنه ينبغي لنا كمسلمين أن يكون المنطلق من الأدلة الشرعية لا من وثائق أجنبية منطلقة من أسس علمانية بحتة.

 

نتج عن هذا الانبهار نتائج أذكر أربعا منها:

أولا: حماس شديد ورغبة جامحة لاندماج الدولة وانغماسها في المجتمع الدولي بكل ما فيه، ولو أدى ذلك إلى التخلي عن بعض مسلمات الشريعة.

 

ثانيا: تطويع ما لا يتلاءم من الشريعة الإسلامية مع الثقافة الغربية ليكون متوافقا معها.

 

أوضّح في هذا الصدد أنك ربما تجد كثيرا من أساتذتنا الكرام يدافع عن الشريعة الإسلامية ويهتم برفعة شأنها، إلا أنه يقوم بذلك عن طريق ليّ أي نص يسبب له حرجا عند الغرب؛ ذلك أن كثيرا منهم يستحضر وبشدة رأي الغرب في الشريعة الإسلامية -بحكم دراسة أغلبهم هناك- فكثيرا ما أسمع "ماذا يقول الغرب عن هذا؟" وكأن هذا هو المعيار في أخذ الأحكام وردها ولو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض المسلمات أو رد بعض النصوص.

 

- أذكر أستاذا يقول: المعارضة الغربية هي نفس المناصحة عندنا في الإسلام والديمقراطية عندهم هي نفس الشورى عندنا، بل الإسلام سبقهم إلى هذه الأفكار! (كثيرا ما أسمع هذه الجملة الأخيرة بعد عرضهم لبعض الأفكار الغربية)

 

- وآخر يقول: نظام الخلافة هو أول نظام رئاسي في العالم!

 

- ولازلت أسمع كثيرا "لا فرق بين الشريعة والقانون وأنهما صنوان!" وهي دعوى قديمة ظهرت عند إدخال القانون الفرنسي لمصر.

 

ولهم في تطويع النصوص طرقٌ وحججٌ أسمعها منهم كثيرا.. أذكر منها:

أ) المصالح المرسلة، وكثيرا ما يستدلون بـ"إسقاط"-على حد لفظهم- عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدَ السرقة عام المجاعة.

 

ب)- بعض القواعد الفقهية كالأصل في الأشياء الإباحة والأمور بمقاصدها.

 

ج)- قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم مني بأمر دنياكم".

 

د)- بعض المبادئ العامة كالعدل والمساواة وغيرها فالدين الإسلامي عند كثير من الأساتذة إنما هو مبادئ عامة وقواعد كلية والفروع تتغير حسب الأزمنة والأمكنة. فلقد صادفت كثيرا في مذكرات الأساتذة وكتبهم قولَهم "أن يكون موافقا لمبادئ الشريعة الإسلامية"

 

هـ) وجود خلاف في المسألة ولو شاذًا أو غير معتبر. (و الخلاف عند الأكثر منهم هو وجود رأي آخر ولو كان من واحد أو كان المخالف متأخرا أو كان من الشيعة أو المعتزلة أو من الفلاسفة المنتسبين للإسلام، فالإجماع عندهم هو اتفاق كل علماء الإسلام أو المنتسبين له من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اللحظة الراهنة) ثم لا يكون الاختيار والترجيح في المسألة المختلف فيها إلا بناءً على الأقرب للواقع المعاصر والأنسب للذائقة العصرية (أو الغربية) فقط وبلا أي نظر للأدلة الشرعية.

 

و) الإدعاء بأن الزمن المعاصر مختلف اختلافا كليا عن الأزمنة الماضية وزمن الرسول صلى الله عليه وسلم منها بالذات وأن ما صلح في ذاك الزمن فلن يصلح في هذا الزمن!

فكثيرا ما يقررون أحكاما مخالفة للشرع -مع علمهم بذلك- محتجين بهذه الحجة وحسب!

 

ثالثا من الآثار:

لا تُصوّر لنا أنظمة المملكة التي تتوافق مع الشريعة على أنها مثال يجب أن تنافس بقيةُ الدول الإسلامية في تحقيقه

بل كثيرا ما نشعر ـ من خلال شرحهم ـ أنها استثناء أو ربما شذوذ من القواعد والأحكام التي يسعون لتقريرها!

 

فلذا تجد حرجا شديدا عند بعضهم مما تقرره الشريعة وتسير عليه المملكة كقصر القضاء على أهل العلم الشرعي أو تحفظ المملكة على بعض المعاهدات المخالفة للشريعة أو غيرها.
يجد ذلك بينا من ذهب إلى مركز التصوير ونظر في مذكرات الأساتذة.

 

رابعا:

الحياة الكريمة عند أكثر أساتذتنا والتي يسعون لوجودها -من خلال القانون- إنما هي توفر المأكل والمشرب والحرية الفكرية وضمان الحقوق المادية للأفراد، هذه فقط هو ما يسعى لها القانوني، فلو كانت هذه الحياة في مجتمع منحط أخلاقيا أو مجتمع ملحد لما غير هذا عندهم شيئا.
أما المال عند أغلب من رأيت من الأساتذة فهو الشيء الذي لا يمكن التسامح فيه أو التغاضي عنه.
فكثيرا ما يُصور لنا أن المحامي لا يعمل إلا لأجل جمع المال ولجمعه فقط!

 

- وأذكر في هذا أستاذا كرر علينا في مناسبات مختلفة قوله "المحامي يجب عليه أن يتقن شيئين اثنين: الكتابة والكذب"
- وقليلا ما تجد منهم من ينكر على محام يحاول تبرئة موكله المجرم.

 

وفي المقابل يصعب عليك أن تجد من الأساتذة من يذكر أهمية استشعار رقابة الله أو حسابه يوم القيامة أو يشير إلى قِيم العفو والمسامحة إلا نادرا من قليل منهم رغم أنها قيم ضرورية في التعامل مع الغير.

 

ـ بل ربما تجد من يعلن ـ وعلى مسامع الطلاب ـ بعضَ أفعاله التي تخالف صريح الشريعة الإسلامية وتعاقب عليها الأنظمة الرسمية، واسمح لي أن أتحفظ بما قد سمعت وشاهدت مما لا أجد مصلحة راجحة من تسطيره.

 

أما ما يتعلق بالمناهج فإن الحديث حولها يحتاج لدراسة مقارنة من متخصص في الشريعة والقانون.

 

ومن الإنصاف أن أوضح أننا ندرس مواد شرعية إلزامية وهي خمس مواد (مدخل لدراسة الشريعة، أصول الفقه، أحكام الأسرة، المواريث، القواعد الفقهية) بواقع ثلاث ساعات لكل مادة وتُدرس مرةً واحدةً فقط، وفي الغالب يُدرِّسها أساتذة شرعيون، إلا أنها لا تفي ولا تغطي مطلقا المهم من العلوم الشرعية للقانوني، وليست أهمية العلوم الشرعية تتعلق بموضوع الديانة وحسب بل وبحاجة القانوني الماسة لتلك العلوم أثناء عمله لا سيما في محاكم المملكة التي تسير على الشريعة الإسلامية، فقد أجمع من أعرف من الزملاء أن الدراسة القانونية بعيدة أشد البعد عن سوق العمل ومتطلباته، وهذا الموضوع يؤرق مسؤولي الكلية كثيرا كما حدثني بعضهم.

هنا تنتهي الملحوظات.

 

وفي الخاتمة أنبه على بعض النقاط:

ربما يستطيع القارئ الكريم تأكيد هذه الملاحظات أو إضافة غيرها -إذا كان لديه يسير إلمام واهتمام بعلوم الشريعة الإسلامية- بتصفح المذكرات والكتب الدراسية أو بحضور بعض المحاضرات والدورات المقامة بالكلية.

 

الكاتب ليس أول من طرق هذا الموضوع بل سبقه سادة أجلاء في التحذير من بعض ما يجري في كليات الحقوق عموما كالشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية والشيخين ابن باز وابن عثيمين ود.عمر الأشقر في كتابه "الشريعة الإلهية" والشيخ أبو الأعلى المودودي في كتيبه "القانون الإسلامي وطرق تنفيذه" ود.وهبة الزحيلي و د.عبدالعزيز البداح في كتابه "القضاء في العالم الإسلامي" ود.سعد مطر العتيبي في كتيبه "مقالات في السياسة الشرعية" وغيرهم..

 

واسمح لي أن أقتبس نصا من مقال كتبه الأستاذ الكريم / عبدالعزيز بن عبدالله المبرد، وقد تخرج من نفس الكلية التي تخرجت منها، وهو الآن (وقت الكتابة) طالب قانون في مرحلة الدكتوراه في جامعة إنديانا ـ بلومنقتون ـ في الولايات المتحدة الأمريكية.. يقول:

"فأقول ـ وبكل صراحة ـ بأن بعض تلك المقررات التي درسناها لا تمت لواقعنا بصلة باعتبارنا دولة تجعل من القرآن والسنة دستوراً لها"

 

وقال ـ في نفس المقال ـ "قد أحسن المؤلف [معاذ المبرد في كتابه كليات القانون] في كشف بعض الأخطاء المنهجية التي تشوب تلك المقررات ولابد أن نعترف ـ كقانونيين ـ بوجودها حتى نبدأ في إصلاح هذا الخلل؛ فدراسة القوانين التي تعارض شريعة الله وتضاهيها ـ سواءً بشكل جزئي أو كلي ـ على وجه التسليم أمر خطير، ويتطلب إجراء عملية جراحية عاجلة لتصحيح تلك المقررات في كلياتنا. وبما أن الطالب القانوني يتخرَّج ليعمل في بيئة تحكم بالشريعة الإسلامية، فمهم أن ينعكس ذلك بشكل واضح وجلي على جميع مقرراتنا القانونية؛ فالمقررات التي تُقرب ما بين الفقه الإسلامي والنظريات القانونية الغربية يجب أن تنطلق من الفقه أولاً، ثم تقارن بعين الناقد لا المقلد. فكثير من تلك المؤلفات إنما وجدت لسد الثغرة التي خلقها المستعمر حينما جلب القوانين الوضعية الغربية بنظرياتها لكثير من البلاد الإسلامية، فتهافتَ أهل القانون وأصحاب العلم الشرعي على تأليف الكتب التي تقدم الفقه الإسلامي على طريقة تلك النظريات الغربية بهدف إقناع بلادهم بالتمسك بالشريعة الإسلامية. فاستمرار نقل تلك المؤلفات مع انتفاء السبب الذي أُلفت من أجله؛ دليل ضعف وقصور في المقررات"

 

ويكمل ويقول "أعلمُ بأن فقر المكتبة القانونية السعودية، وندرة أعضاء هيئة التدريس المتمكنين من الناحتين الشرعية والقانونية، وراء لجوء كثير من الكليات لاستقطاب مقررات وأعضاء هيئة تدريس من خارج المملكة. وكثيراً ما تكون تلك المقررات لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية. وهذا ـ بالطبع ـ لا يبرر تدريس أي مقرر يخالف الشريعة بدون أن يُبيّن للطالب وجه المخالفة وفضل الشريعة".

 

قد يأتي من يقول - وحق له-: لم تذكر إلا الخطأ والسلبيات وأغفلت الصواب والإيجابيات، فثمّ مواد شرعية يدرسها شرعيون وهناك بعض المذكرات والكتب تثبت خلاف ما ذكرت ثم إنه قد تخرج من الكلية فلان وعلان إلخ.. فأقول: إن من سلك طريقا خاف من بعض منعطفاته لن يحدّث الناس عن الطبيعة البديعة أو الهواء العليل الذي صادفه! بل لن يفتأ مناديا أهل الشأن بالعناية في الأمر ومحذرا صحبه من سلوكه دون معرفة أو حذر!

 

ولقد جاء وقت ما وعدتك به في أول المقال من ذكر مرادي من هذه الأسطر، ولا أخفي عنك رغبتي في أن أدع هذا الأمر لك قارئ المقال إلا أنه قد أشار لي من وجبت مشورته علي أن أكتبها فأقول - و على الله التكلان -:

إني إنما أردت أن نجعل لأحكام الشريعة الغراء أعظم عناية في دراستنا لصلتها المباشرة بموضوع الدراسة كما قد ذكرت لك آنفا، فلا يتخرج الطالب إلا وقد فَقِه الحلال والحرام في المعاملات وعَلِم طرق استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وأن يتضح له جليا فضل الشريعة الربانية على القوانين الوضعية ويُبيٌن له خطر التحاكم إلى غيرها مع العناية بالجوانب الإيمانية التي -كما قد ذكرت- لها أثر في المعاملات لا ينكره إلا مكابر، ويكون ذلك على يد أساتذة فضلاء من أهل المعرفة بالعِلمَين على السواء.

 

ثم إني لست أقف داعيا كليات القانون في الدول الإسلامية إلى ذلك فقط بل وأدعو كل فقهاء القانون من الشرق إلى الغرب والذين قد تخبطوا في أودية الضلال ومهالك الردى أن يعودوا إلى الشريعة الربانية التي لم ولن يتطرق إليها خلل!

 

فالشريعة الإسلامية يا سادة -و كما هو قطعي عند كل مسلم- ليست خاصة بصنف أو عرق أو قطر بل هي واجبة التطبيق على كل من له عين تطرف.

 

أما على المستوى الفردي -و هو الذي أعول عليه كثيرا- فإني أرى أن دراسة الشريعة أولا في مرحلة البكالوريس ثم إكمال دراسة القانون بعدها هو الطريق الصحيح للجمع بين العلمين إذ ليس بمقدور القانوني -أكاديميا- إكمال الدراسة في الشريعة لمتانة علوم الأخيرة وعمقها مقارنة بعلوم القانون التي يمكن لمرحلة الماجستير أن تغطي كثيرا من مباحثها ولا سيما لخريجي الشريعة فقد أثبتوا -كما أرى ويرى كثير من غيرهم- تمكنا أكبر في مهارات الصياغة والتسبيب والتحليل وغيرها التي يقوم عليها علم القانون.

 

وهنا.. أقف وأعتذر أشد الاعتذار من الأساتذة الأجلاء ومن الزملاء الأكارم، فلكم ترددت في نشر ما قد كتبت حبا وإجلالا لهم إلا أني على أمل أن يكون اختلاف وجهة النظر لا يفسد للود قضية، ثم إن الذي حصل ويحصل في كلية الحقوق لا يتعلق بي شخصيا حتى أضعه دبر أذني بل الأمر أكبر من هذا.

 

وأخيرا أقول إنه لن يستشعر أحد عظيم النعمة التي فضلنا الله بها على سائر البلدان من التحاكم لشرعه والعمل بسنة نبيه، ويرى أليم عقاب الله على من أعرض ونأى بجنبه عن شرع الله إلا وكان أشد الناس خوفا من تغيّرها عنا وأكثرهم حرصا على بقائها ودوامها وأحنقهم على من يدعو لزوالها وذهابها.

 

واللهَ أسأل أن يوفقني وإياك لكل خير وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

* يمكن الاطلاع على النسخة الإلكترونية:

كلية القانون بين الواقع والمظنون