ضوابط الفتوى عبر الفضائيات
3 رجب 1438
أ. د. عبد الناصر بن موسى أبو البصل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،  ومن اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:

 

فقد أضحت القنوات الفضائية حقيقة واقعة، دخلت البيوت دون استئذان، وتجاوزت حدود الأقاليم والبلدان، وشملت في برامجها الصغير والكبير، والذكر والأنثى من بني الإنسان، وربما  تجاوزته إلى الجماد والجان والحيوان(1).

 

هذه الحقيقة بذاتها وواقعها تعد من أكبر النوازل المعاصرة التي تشكل تحديا إعلاميا كبيرا لا يمكن تجاهله ولا التغافل عن أثره وتأثيراته على الجيل الحاضر والأجيال القادمة على حد سواء؛ وذلك لأن هذه القنوات التي زادت على الألف قناة، تحتوي على عالم بل عوالم من المادة المبثوثة التي تصطاد المشاهد وتشده للمتابعة بشتى الوسائل، ولسنا بصدد البحث في هذه النازلة بكل جوانبها في هذه الورقة، ولكننا سنتناول جانبا واحدا من الجوانب التي عنيت بها الكثير من القنوات الفضائية بدافع خدمة الإسلام من قبل بعض هذه القنوات، ولخدمة الجمهور وتلبية لطلباتهم من قبل قنوات أخرى... إلى غير ذلك من مقاصد، هذا الجانب هو إفراد برنامج خاص للفتوى يوجه للمشاهدين والمستمعين الذين يتلقون البث من أي مكان من العالم، فإذا كان المستفتي في السابق يحتاج إلى الذهاب للمفتي في مكانه المخصص له في المسجد أو المكتب المخصص لدوائر الإفتاء؛ ففي عصر الفضائيات لا يحتاج إلا إلى الجلوس أمام التلفاز وإدارة قرص (أو الضغط على أزرار جهاز الهاتف) ليتصل بالمستضاف للفتوى مباشرة وإلقاء الاستفسار أمامه ليسمع الجواب.

 

وهذه المسألة في ظاهر أمرها - ولا شك في ذلك- فيها خير كثير، وفائدة، بل فوائد كثيرة، ولكنها مع ذلك قد أفرزت بعض السلبيات والمشكلات التي تستدعي التدخل للتنظيم والضبط لئلا نسيء من حيث لا ندري، ولئلا تستغل هذه البرامج لمقاصد غير مشروعة. وعلى أقل تقدير للتبصر بأحكام وضوابط هذا العمل الإعلامي الشرعي الذي أصبحت له خصوصية تستدعي التوقف لتقييم مسيرته ووزنها بميزان الشرع من خلال نتائج التطبيق.

 

أقول هذا بعد أن جربت بنفسي وعاينت - بل وعانيت- الفتوى عبر القنوات الفضائية، لدى أكثر من قناة، كان آخرها قناة الشارقة الفضائية(2)، ومن هنا أعدت كتابة هذه الورقة من واقع التجربة، وقد ظهر لي صدق المقولة بحق "ليس الخبر كالمعاينة" ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، وأستبق القول بهذه المناسبة لأقول بأن كل حلقة مباشرة من حلقات الفتوى إنما تشكل "حملا" ثقيلا أشبه بالامتحان الشامل الذي يدخله الإنسان وهو خائف يترقب الأسئلة غير المتوقعة، والأسئلة المحرجة، أو الخطرة إن  سياسية أو اجتماعية أو غيرها، فالمسألة كما شبهها بعضهم بأنها "حقل ألغام" إن لم تتداركنا رحمة الله وعونه.

 

ومن هنا كان علماؤنا يهابون منصب الفتوى تقوى منهم، وخشية لله من عواقب وتبعات هذا المنصب الخطير، نسأل الله السلامة.

 

تمهيد: في التعريف بالإفتاء وشروطه وآدابه

لقد تحدثت كتب أصول الفقه الإسلامي عن الفتوى والمفتي وشروطه وآدابه والمستفتي - وغير ذلك من أمور- بالتفصيل، وقد أفردت مصنفات متخصصة في البحث في الفتوى وآدابها وأحكامها وضوابطها وما يعتريها من أحوال ومن ذلك:

- ما سطره الإمام ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين".

- والإمام القرافي في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام".

- والإمام أحمد بن حمدان الحنبلي في كتابه "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي".

- وقبل ذلك الإمام النووي في مقدمة كتابه "المجموع"، وفي رسالة له مستقلة.

- والعلامة جمال الدين القاسمي في كتابه "الفتوى".

- والإمام ابن الصلاح الشهرزوري في كتابه "أدب المفتي والمستفتي".

- والإمام الشاطبي في "الموافقات" وغيرهم كثير.

 

وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الموضوع (الإفتاء) في دورته السابعة عشرة وأصدر القرار رقم 153 (2/17) بشأن الإفتاء: شروطه وآدابه ونظرا لتكامل عمل المجمعين في تناول المشكلات والنوازل التي تنزل بالأمة وتتصدى المجامع لحلها فأورد فيما يلي نص قرار المجمع ليكون مقدمة لموضوع ضوابط الفتوى عبر الفضائيات:

 

قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 153 (2/17) بشأن الإفتاء - شروطه وآدابه:

"إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السابعة عشرة بعمان (المملكة الأردنية الهاشمية) من 28 جمادى الأولى إلى 2 جمادى الآخرة 1427هـ، الموافق 24 - 28 حزيران (يونيو) 2006م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الإفتاء: شروطه وآدابه، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:

 

أولاً: تعريف الإفتاء والمفتي وأهمية الإفتاء:

الإفتاء بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه، وقد يكون بغير سؤال ببيان حكم النازلة لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم.

والمُفتي هو العالِم بالأحكام الشرعية وبالقضايا والحوادث، والذي رزق من العلم والقدرة ما يستطيع به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وتنزيلها على الوقائع والقضايا الحادثة.

والفتوى أمر عظيم لأنها بيان لشرع رب العالمين، والمُفتي يوقّع عن الله تعالى في حُكمه، ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الشريعة.

 

ثانياً: شروط المُفتي:

لا يجوز أن يلي أمر الإفتاء إلا من تتحقق فيه الشروط المقررة في مواطنها، وأهمها:

‌أ. العلم بكتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بهما من علوم.

‌ب. العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية.

‌ج. المعرفة التامة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده ومقاصد الشريعة، والعلوم المساعدة مثل: النحو والصرف والبلاغة واللغة والمنطق وغيرها.

‌د. المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم، وأوضاع العصر ومستجداته، ومراعاة تغيرها فيما بني على العرف المعتبر الذي لا يصادم النص.

‌هـ. القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص.

‌و. الرجوع إلى أهل الخبرة في التخصصات المختلفة لتصور المسألة المسؤول عنها، كالمسائل الطبية والاقتصادية ونحوها.

 

ثالثاً: الفتوى الجماعية:

بما أنّ كثيراً من القضايا المعاصرة هي معقدة ومركبة فإنّ الوصول إلى معرفتها وإدراك حكمها يقتضي أن تكون الفتوى جماعية، ولا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى هيئات الفتوى ومجالسها والمجامع الفقهية.

 

رابعاً: الالتزام، والإلزام بالفتوى:

الأصل في الفتوى أنها غير ملزمة قضاء، إلا أنها ملزمة ديانة فلا يسع المسلم مخالفتها إذا قامت الأدلة الواضحة على صحتها، ويجب على المؤسسات المالية الإسلامية التقيّد بفتاوى هيئاتها الشرعية في إطار قرارات المجامع الفقهية.

 

خامساً: مَن لا تؤخذ عنه الفتوى:

1. لا تؤخذ الفتوى من غير المتخصصين المستوفين للشروط المذكورة آنفاً.

2. الفتوى التي تُنشر في وسائل الإعلام المختلفة كثيراً ما لا تصلح لغير السائل عنها، إلا إذا كان حال المطلّع عليها كحال المستفتي، وظرفه كظرفه.

3. لا عبرة بالفتاوى الشاذة المخالفة للنصوص القطعية، وما وقع الإجماع عليه من الفتاوى.

 

سادساً: مِن آداب الإفتاء:

على المفتي أن يكون مخلصاً لله تعالى في فتواه، ذا وقار، وسكينة، عارفاً بما حوله من أوضاع، متعففاً ورعاً في نفسه، ملتزماً بما يفتي به من فعل وترك، بعيداً عن مواطن الريب، متأنيا في جوابه عند المتشابهات والمسائل المشكلة، مشاوراً غيره من أهل العلم، مداوماً على القراءة والاطلاع، أميناً على أسرار الناس، داعياً الله سبحانه أن يوفقه في فتواه، متوقفاً فيما لا يعلم، أو فيما يحتاج للمراجعة والتثبت.

 

التوصيات:

1. يوصي المجمع بدوام التواصل والتنسيق بين هيئات الفتوى في العالم الإسلامي للاطلاع على مستجدات المسائل، وحادثات النوازل.

2. أن يكون الإفتاء علماً قائماً بنفسه، يُدرس في الكليات والمعاهد الشرعية، ومعاهد إعداد القضاة والأئمة والخطباء.

3. أن تقام ندوات بين الحين والآخر للتعريف بأهمية الفتوى وحاجة الناس إليها، لمعالجة مستجداتها.

4. يوصي المجمع بالاستفادة من قرار المجمع رقم 104 (7/ 11) الخاص بسُبل الاستفادة من الفتاوى، وبخاصة ما اشتمل عليه من التوصيات التالية:

‌أ. الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتبرة شرعا، وإنما تستند إلى مصلحة موهومة ملغاة شرعا نابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف  المخالفة  لمبادئ وأحكام  الشريعة ومقاصدها.

‌ب. دعوة القائمين بالإفتاء من علماء وهيئات ولجان إلى أخذ قرارات وتوصيات المجامع الفقهية بعين الاعتبار، سعيا إلى ضبط الفتاوى وتنسيقها وتوحيدها في العالم الإسلامي.

والله أعلم".

 

المطلب الأول: مفهوم "الفتوى الفضائية"

من المعلوم بداهة لدى علماء أصول الفقه أن الفتوى تتمثل بتبيين الحكم الشرعي في المسائل والواقعات الحادثة.

ولقد سبق القول بأن مجمع الفقه الإسلامي قد عرف الإفتاء بأنه " بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه...".

 

ولا شك أن المتبادر إلى الذهن أن الفتوى عبر الفضائيات لا تختلف عن الفتوى التي يصدرها المفتي من مكتبه أو في السوق حينما يسأل عن مسألة ما، أو عبر الهاتف، أو في البيت، أو في المسجد...، وفي هذا المفهوم جانب كبير من الحق والصواب، غير أن هناك عدة فوارق بين النوعين من الفتوى (الفضائية والعادية المباشرة) أهمها:

 

1. أن المطلع على الفتوى المباشرة في السوق أو المسجد أو المكتب... إنما هو المستفتي فقط، أو العدد القليل جدا ممن يكونون موجودين إبان إصدار الفتوى، أما الفتوى الفضائية فلسوف يسمعها آلاف بل ملايين من البشر، الصغار والكبار، المسلم وغير المسلم، الجاهل والمتعلم، الرجل والمرأة...

 

2. أن الحديث المباشر الحقيقي يختلف من حيث الأثر والتفاعل عن الحديث الذي يبث عبر الأثير، فالمحاورة وإن كانت موجودة نوعا ما إلا أنها مختلفة، والمواجهة (وجها لوجه) لها تأثير على القبول والشعور بصدق الواقعة وهيبة الفتوى والعلم الشرعي، أكثر من (الاتصال) مع القناة الفضائية.

 

3. أن أمد الحديث العادي الواقعي غير مرتبط بشي من حيث الوقت إلا بمدى ما للمتقابلين من وقت، أما الاتصال الهاتفي مع القناة فله تكاليف مالية محسوبة بالثانية، إلا إذا كان الاتصال دون مقابل، ولم نسمع بمثل ذلك لحد الآن.

 

المطلب الثاني: إيجابيات الفتوى عبر الفضائيات

قبل أن نتحدث عن سلبيات الفتوى عبر الفضائيات يحسن بنا أن لا نغفل الفوائد والمصالح التي حققتها الفضائيات ببثها وتشجيعها على برامج الفتوى ومن ذلك:

أولا: تبيين الحكم الشرعي في الواقعات والنوازل التي تواجه الناس، وهذه هي وظيفة الفتوى ابتداء، فالمتصل بالبرنامج التلفزيوني المباشر يقصد في الغالب الأعم الحصول على الفتوى ليتعرف على الحكم الشرعي ليلتزم به.

 

ثانيا: إشاعة الثقافة الفقهية الشرعية  عن طريق بث السؤال والجواب.فالمستمع والمشاهد وإن لم يكن صاحب السؤال، أو أنه لا ينطبق عليه - الاستفتاء- إلا أنه قد استمع إلى الفتوى وعرف فحواها، وهذا ضرب من التعليم الشرعي.

 

والأمر الأكثر أهمية في هذه الناحية أن الفتوى تصل إلى المرأة في بيتها والمقيم في الشرق أو الغرب في مكان إقامته؛ دون الانتقال إلى البلد أو الموقع الذي يكون فيه المفتي، فقد يثق إنسان بعالم ما ولا يستطيع الوصول إليه فيستمع للحلقة الفضائية ويتصل به مباشرة ويستفتيه.

 

ثالثا: تعريف الناس بعلم الخلاف ومقارنة المذاهب بوجه عام(3)، وذلك أن كثيرا من الناس بحكم عدم اتصالهم بمذاهب وتيارات مغايرة لما ألفوه، وعدم انتشار مثل تلك المذاهب في مجتمعاتهم؛ تنقصهم معرفة المذاهب المنتشرة في بقاع العالم الإسلامي، فعلى سبيل المثال: المسلم الذي يعيش في مجتمع يتمذهب بالمذهب الحنفي وليس في بلده من يدرس أو يفتي بالمذهب المالكي  أو الشافعي ولم يسمع بالمذاهب الأخرى أيضا يستغرب قيام المصلي المالكي - مثلاً- بعدم وضع اليدين على الصدر في الصلاة، أو القنوت بعد الركوع، أو غير ذلك من خلافات فرعية يسيرة مقررة في المذاهب الإسلامية؛ وفي نشر ثقافة المذاهب تعريف للناس بالمذاهب الأخرى.

 

رابعا: تعريف الأمة - جمهور الناس المشاهد والمستمع- بالعلماء والدعاة من مختلف البقاع؛ وذلك أن العالم أو المفتي الذي يقبع في بقعة من بقاع العالم الإسلامي ولا يعرفه إلا أهل تلك البقعة يسمع به ويشاهده وينتفع به كثير من الناس، وتعم فائدته العالم الذي يشاهده  ويطلع على القناة الفضائية، فكم من عالم أو طالب علم تنبه الناس إلى علمه وانتفعوا به عن طريق حلقة من حلقات القنوات الفضائية.

 

المطلب الثالث: الآثار السلبية للفتوى عبر الفضائيات

يلحظ المتتبع لمسيرة الفتوى عبر الفضائيات أنها أدت إلى جملة من النتائج السلبية التي لم تكن معروفة قبل نزول نازلة "الفضاء الإعلامي المفتوح" دون ضوابط وقيود، ومن أهم هذه الآثار السلبية:

أولاً: نشر الآراء الفقهية الشاذة والمهجورة، وذلك لكثرة الفضائيات وكثرة ما تبثه من مادة إعلامية؛ وتبعا لذلك كثرة المتصدرين للفتوى على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومناهجهم في التعامل مع الوقائع والأسئلة الواردة إليهم.

 

وإذا كان الرأي الشاذ مثيرا للجدل إذا صدر من معتقد له فكيف به إذا كان ممن يتصيد الآراء الشاذة الغريبة حبا بالغرائب من الآراء ومحبة للشهرة في ضوء "التنافس المحموم" الذي ينشأ بين الفضائيات أحيانا ولعا "بالإثارة" وتحقيق النجومية ولفت أنظار الناس إلى تلك القناة وبرامجها.

قد لوحظ أحيانا أن بعض الفضائيات تبحث عمن يصرح برأي معارض للرأي السائد أو رأي جمهور العلماء(4).

 

ثانيا: هدم أو إضعاف الوحدة المذهبية المنتشرة أو السائدة لدى بعض المجتمعات، ذلك أن المجتمع المحلي في بلد من البلاد إما أن يكون أحادي المذهب أو ثنائيه،  كأن ينتشر فيه مذهب ما، كالحنفية مثلا في بلد مثل تركيا، أو الشافعية في بلد كإندونيسيا وماليزيا، والمالكية كالمغرب العربي، والحنبلي كالسعودية والجزيرة عموما وفي مناطق كثيرة، أو الحنفية والمالكية في بلد كتونس.

 

وكذلك الأمر بالنسبة للمذاهب الأخرى كالإباضية والجعفرية والزيدية...! فالفتوى وفق إحدى المدارس المذهبية حينما تصل إلى مستقبل من المذاهب الأخرى دون دراية بأصول الخلاف، ودون دراية بماهية المذهب المفتى به، أو أدلته أو أصول الاستدلال فيه؛ سيؤدي هذا إلى خلخلة "الوحدة المذهبية" وما تشكله من عامل استقرار لتلك البلدة أو ذلك المجتمع، ومن هنا ندرك لماذا كان القضاة في التاريخ الإسلامي في العصر العثماني والمملوكي والعباسي أيضا يولون قضاة أو نوابا للقضاة من مذهب المجتمع الذي ينتشر به ذلك المذهب(5)، أو يجعلون لهم نائبا عن القاضي ومفتيا على وفق مذهبهم، فكنت تسمع بالقاضي الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وتسمع كذلك بشيخ الإسلام الحنفي والمالكي وغيرهم.

لقد حول عصر الفضائيات المجتمع الإسلامي في العالم إلى مجتمع متعدد المذاهب، متعدد الفتاوى، متعدد الآراء والاتجاهات.

 

ثالثا: وتفريعا على النقطة السابقة أدت "الفتوى الفضائية" إلى إثارة الشكوك وخلخلة الثقة بفتاوى المفتي المحلي؛ وذلك أن المستفتي والمستقبل للفتوى يسمع فتاوى مخالفة لما عهد وسمع من مفتيه أو مفتي بلدته وهذا الأمر لا غرابة في حدوثه لأن المذهب المختلف سيؤدي إلى فتوى مختلفة.

وحتى تزول آثار هذه الظاهرة تحتاج المسألة إلى وقت ومنهج ليستطيع الناس قبول الاختلاف والتعامل الإيجابي معه.

 

رابعا: أدت عملية تعدد الفتاوى بتعدد قنوات البث واختلافها إلى نشر فكرة "التخير" بين الفتاوى لعوام الناس من حيث المعرفة الفقهية، فالمستقبل للفتوى صغيرا كان أو كبيرا،  رجلا أو امرأة يسمع فتاوى مختلفة، وسينظر - بنفسه- وبحسب ما يرتاح إليه، دون منهج أو استدلال، ولسوف يرجح ويختار الفتوى التي تناسبه.

وأكثر من ذلك أيضا أصبح الناس ينظرون إلى الفتوى نظرة استهتار، وإذا لم تعجبك فتوى  فلان فهناك غيره.

 

خامسا: أدت الفتوى الفضائية غير المنضبطة إلى وضع علماء الشرع والدعاة عموما موضع (التندر والسخرية أحيانا) بسبب الفتاوى الصادرة عنهم، وأصبحت الفتاوى أحيانا حديث المجالس لا لإشاعة الحكم الشرعي بل لشغل الوقت وتناول العلماء والطعن فيهم.

 

المطلب الرابع: الأسباب التي أدت إلى الخلل في "الفتاوى الفضائية"

هناك عدة أسباب أدت إلى النتائج السلبية التي يذكر للفتوى عبر الفضائيات نجملها فيما يأتي:

أولا: عدم اختيار المفتي المناسب للظهور على الفضائية لتولي عملية الإفتاء.

ويعود هذا السبب إلى ثلاثة عوامل رئيسة:

العامل الأول: إحجام العلماء المعتبرين والفقهاء الأثبات عن التعامل مع الفضائيات إما مطلقا أو لبعض الفضائيات العامة التي تبث الغناء والمجون وغيرها.

وبطبيعة الحال سيلجأ أصحاب القرار في تلك القنوات إلى اختيار أي شخص ليقوم بالمهمة.

 

العامل الثاني: سياسة القناة الفضائية نفسها في اختيار أشخاص ليسوا من العلماء لأسباب شخصية أو مذهبية أو لمقاصد أخرى أو لعدم العناية كثيرا بمثل هذه البرامج.

 

العامل الثالث: تدخل بعض العلماء والدعاة في غير اختصاصهم؛ فالمتخصص في فقه العبادات على وفق مذهب معين أو على جميع المذاهب مثلا، إذا عرضت عليه مسألة في المعاملات المعاصرة وأجاب بما يجول في خاطره سيقع في الخطأ بنسبة كبيرة، فكيف بالمتخصص في العقيدة وأصول الدين... أو في غير العلوم الشرعية مجال الفتوى، وليس المقصود أن يكون المفتي من تخصص معين بل المقصود التنظيم لا أكثر والحرص ما أمكن على الفتوى الجماعية واستشارة أهل الاختصاص؛ ولا أريد أن يفهم من  كلامي أنني أحجر على العلماء والدعاة الفتوى، ولا أقصد أحدا بعينه، وإنما هي ملحوظات موضوعية قد نقع فيها من حيث لا نشعر أحيانا.

 

ثانيا: عدم مراعاة المفتي بالظروف المحيطة "بالاستفتاء" "والمستفتي" وذلك من مثل:

أ‌. الأعراف والعادات المنتشرة في مجتمع المستفتي.

ب‌. اللغة أو اللهجة الخاصة بالمستفتي، واختلاف معاني المصطلحات أحيانا من بلدة لآخر.

ج. مذهب المستفتي أو المذهب المنتشر في المجتمع الذي يعيش فيه.

فكم رأينا من عدم حصول البيان الشرعي في مسألة سأل عنها مستفت من شمال إفريقيا بلهجة مغاربية وذكر للمصطلحات لا يستعملها أحيانا أهل المشرق أو تكون لها دلالات مختلفة.

 

ثالثا: السرعة في إصدار الفتوى نظرا لكونها "على الهواء مباشرة" فالمفتي لا يدري من حيث المبدأ ما هي طبيعة الأسئلة التي سترد إليه - ولو كان عنوان الحلقة معلوما- ولا نستطيع أن نشبه حالة المفتي إلا بحالة الطالب الذي سيدخل قاعة الامتحان في العلوم كلها..." وعليه الإجابة على كل الأسئلة وهذه معاناة كبيرة؛ ولهذا ينتشر اليوم اتجاه لدى بعض العلماء بأن لا يشتركوا في برنامج مباشر للفتوى خشية التسرع في الفتوى.

 

وهذه المسألة تجعل مهمة المفتي عسيرة، بخلاف ما لو جاءته الأسئلة أو الاستفتاءات قبل الحلقة وقام بالبحث فيها أو أعد الإجابات الخاصة بها بعد دراسة متأنية فهذا ولا شك أنه سيؤدي إلى نتائج أفضل.

 

إن التسرع في الفتوى وعدم التثبت منها يوقع المفتي في المزالق ويؤدي به إلى محذورات نبه عليها العلماء السابقون، قال الإمام النووي رحمه الله: "يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه، فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة". فالتسرع في منهج الماضين يجعل المفتي متساهلا ترد فتواه بسببه.

 

رابعا: الاختصار والتجزئة والعمومية في الفتوى، وذلك مرده إلى ظروف البرنامج من حيث عدم السماح بوقت كبير بسبب كثرة الاتصالات وتعدد الأسئلة، كما أن المفتي بسبب ما يعتور عملية "الاتصال المباشر" "هاتفيا" مع البرنامج قد لا يتمكن من التثبت والتمكن من فهم مراد السائل بشكل واضح فيقوم بالإجابة حسب ما فهم من السؤال، وقد تخرج الفتوى "قاصرة" "وناقصة" ومؤدية إلى نتائج غير محمودة بسبب هذا الأمر.

 

المطلب الخامس: ضوابط الفتوى عبر الفضائيات

أولا: الضوابط التي تتعلق بالمفتي:

1. أن يكون من العلماء المتخصصين في علوم الشريعة المحققين لرتبة متقدمة تؤهلهم للفتوى "العالمي" وليس "المحلي" وذلك بالتمكن من:

أ‌. معرفة المذاهب الفقهية المختلفة المنتشرة في العالم الإسلامي أو في الأقل في المنطقة الموجه إليها البث.

ب‌. المعرفة بأحكام النوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها.

ج. الاطلاع على قرارات المجامع الفقهية؛ نظرا لما تمثله تلك القرارات موجهات دقيقة في قضايا ذات أهمية كبيرة تعيد المفتي إذا التزم بها.

د. التزود بالمعرفة الثقافية المعاصرة مما يتعلق ويحل بالمجتمعات الإسلامية من قضايا يغلب على الظن التعرض لها من قبل المشاهدين.

2. أن لا يكون من المعروفين "بالتشدد" أو "التساهل" في الفتوى، أو ممن عرف عنهم الفتاوى الشاذة.

3. أن يكون من الموصوفين بالعدالة والمقبولين لدى "الناس" فلا يسمح لمن عرف عنه ضعف الالتزام الشرعي أو التلاعب بدين الله، بحيث يسقط اعتبار الناس له، ولم تعد الثقة في فتواه موجودة.

4. أن يتمتع بأسلوب فصيح، ولغة واضحة مقبولة، بحيث يتمكن من إيصال مراده إلى الناس.

5. أن يتسم بالوقار والسمت الحسن ومن ذلك:

أ. أن يكون ذا هيئة حسنة بحيث يعلم المستمع والمشاهد له بأنه من أهل العلم وعليه سيما العلماء، فاللباس والهيبة وحسن الهيئة كل ذلك له دور كبير في استمالة المشاهد إلى الاستماع إلى فتاواه وقبول قوله وتوجيهه.

ومعلوم أن هذه المسائل ترتبط بالذوق والعرف مع أننا موقنون بأن العبرة بما يحمله الشخص من علم لا بما يلبسه من زي العلماء أو المشتغلين بالفتوى والقضاء.

وفي موضوع اللباس لا يخفى أن لكل منطقه أو بلد ومجتمع عاداته وعرفه الخاص به، ولا مانع من الظهور باللباس المعاصر شريطة عدم الانسياق خلف ما يسمى "بالموضة"(6) و"الصرعات" الحديثة التي لا تليق بأهل العلم ولا يليق بالمسلم المنتمي لأمته الظهور بها.

ب. أن يبتعد عن المزاح المعيب والمبتذل والهزل المذهب للهيبة، ولا مانع من ذكر الطرف والدعابات الهادفة الموافقة للحق.

فالمفتي صاحب دعوة ومنتسب للعلم الشرعي وموقع عن رب العالمين كما قال علماء الأمة، وليس المطلوب منه أن يكون عبوسا مقطبا وجهه، بل منبسط الوجه مشرق الطلعة مقبلا على الناس مخاطبا بنبرة جادة ,

ج. أن يبتعد عما يخدش الحياء في الفتوى والحديث بوجه عام وإذا عرض له سؤال في هذا المجال فليكن لبقا غير مبتذل في اختيار العبارات وخاصة في مسائل حساسة يكون السؤال عنها من قبل بعض الجمهور مقصودا به الهبوط بمستوى الحديث، وأكبر مثال على هذا الحديث في المسائل الجنسية التفصيلية ومما لا يخطر على بال أحد السؤال عنه، فيعمد المفتي إلى الحديث والإسهاب والتفصيل...!!! ثم يحتج بعض العلماء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الزاني عن الفعل حتى سأله صراحة وبالعبارة المتداولة، وهذا حق وثابت في الصحيح؛ ولكنه في مقام القضاء الخاص الذي يترتب عليه عقوبة هي أشد العقوبات ولم تكن على بث مباشر يسمعه الطفل والمراهق والكبير والصغير... ولنا أن نتساءل عن الأثر التربوي لسماع الأطفال في مرحلة من أعمارهم ما لا يناسب تلك المرحلة؟

 

ثانياً: الضوابط التي تتعلق بالبرنامج وإدارته:

1. أن يعطى البرنامج الوقت الكافي للاستماع والإجابة لئلا تزدحم الأسئلة على المفتي فيعمد إلى الاختصار المخل أحيانا.

2. تقديم بعض الأسئلة والإجابة عنها مسبقا خاصة في المسائل ذات الأهمية والتي تحتاج إلى تأن ودراسة.

3. عدم التدخل من قبل مقدم البرنامج  بما يؤثر على فتوى المفتي وبما يؤدي إلى فهمها فهما خاصا خلاف مراد المفتي.

4. عدم ربط الاتصال بتكاليف إضافية (لئلا تدخل عملية الفتوى في المسألة التجارية والتسويقية...).

5. أن لا يكون برنامج الفتوى محلا للمهاترات والمناقشات والردود التي يبتغى من ورائها إثارة حماس المشاهدين ولفت انتباههم، مع ما يصاحب ذلك من إطلاق عبارات لا تليق "بمجلس الفتوى الشرعي".

6. أن يحرص المفتي على عدم الوقوع في المخالفة الشرعية أثناء البرنامج؛ فمثلا: لا يجلس مع امرأة غير محتشمة، كما لا يجلس جلسة تظهر الإهانة وعدم الاكتراث بأهل العلم، كمن يجلس في الأدنى أو يجلس في مكان وكأنه في قفص الاتهام أو المحاكمة.

 

ثالثاً: الضوابط التي تتعلق بأصول الفتوى وإصدارها:

1. الإجابة على قدر السؤال والتفصيل في الحالات المحتملة مع التوضيح.

2. الإجابة بالعموم بما يتوافق مع مقاصد الشريعة.

3. الالتزام بمنهج الوسطية في الفتوى، فلا ميل للتشدد ولا للتساهل، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطا وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وأن  الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه"(7).

4. إرشاد المستفتي إلى ضرورة مراجعة مفتي بلده في قضايا الطلاق والجهاد وغيرها مما يرتبط بالمكان والزمان، ومفتي البلد أعرف من غيره فيها.

5. التركيز على الجوامع وما لا يؤدي للخلاف ويوحد الصف.

6. ضرورة سؤال المستفتي عن "بلده" وإقامته وهل هو ملتزم بمذهب معين أو ينتشر في بلده مذهب ما.

7. أن لا يمتنع المفتي عن تأجيل البت في الفتوى إذا لم تكتمل "الصورة" لديه وكان بحاجة إلى مزيد بحث أو مشاورة لأهل العلم، ولا يغفل عن قول "لا أدري" أو "سأبحث الأمر" أو "سأوافيكم بالجواب"، ولا مانع من أخذ عنوان المستفتي أو نشر الفتوى على صفحة الإنترنت الخاصة بالبرنامج أو بأية وسيلة متاحة أو في حلقة قادمة بعد استكمال البحث.

8. أن لا يغفل المفتي "التوجيه التربوي" وأن يجعل برنامج الفتوى منبرا للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فهذه مناسبة وفرصة للتحدث لجمهور عظيم فلا أقل من التوجيه والتذكير.

كما لا ينسى التوجيه التربوي في فتواه، فالمتلقي للفتوى ليس جنديا يتلقى الأوامر وينفذها فحسب بل هو إنسان يعيش في بيئة ولديه معوقات كثيرة ويحتاج إلى أسلوب ينبه فيه ويحيي جذوة  "الإيمان" و"الفتوى" ويسهل عليه الالتزام الذاتي بالحكم الشرعي.

9. مراعاة حال المخاطبين والذين يستمعون إلى الفتوى من حيث صياغة الفتوى ولغتها، فهناك الأمي والمتعلم والمفكر والطالب والصغير والكبير والذكر والأنثى.

10. التنبه في أسلوب عرض وبث الفتاوى المتعلقة ببعض المسائل ذات الحساسية أو "الخصوصية" من مثل:

أ. مسائل الحياة الزوجية والمسائل الجنسية(8)، ولقد رأينا وسمعنا بعض المفتين سئلوا عن مثل هذه المسائل وأجابوا بالتفصيل مما أثار فضول المراهقين والمراهقات والأطفال أيضا وأخذوا يسألون عما يستحيا من ذكره لهم ومناقشته معهم خاصة في مرحلة عمرهم.

ولقد أصبحت بعض الفتاوى مثارا للتندر والتهكم بحق العلماء والفتاوى نفسها بسبب بعض التجاوزات في التفصيل في مسائل من هذا النوع، وحبذا لو كانت هناك برامج فتاوى نسائية تتولى النساء إعدادها والإجابة عنها وتعرض في أوقات خاصة بالنساء.

ب. المسائل السياسية والأوضاع الراهنة، حيث تكون الفتوى غير المنضبطة أو التي لم تنل القسط الوافي الكافي من الدراسة وفق علم أصول الفتوى في السياسة الشرعية مسببة "لفتنة" أو "مشكلة" بين دول وحكومات ومجتمعات مما نحن في غنى عنه اليوم ومآله مفاسد لا تحصى في هذا الزمان.

ولا شك أن "المفتي" في عمله إنما يبتغي إظهار الحكم الشرعي في المسائل التي تعرض عليه، بما لا يؤدي إلى الضرر والمفسدة، وميزان مقاصد الشريعة نصب عينيه، ولا يعني هذا التقاعس عن البيان والقيام بالمسؤولية، ففرق كبير بين مجانبة الحكمة والتهور وإطلاق الأحكام دون تثبت وبين محاولة توحيد صفوف الأمة، وتقليل خلافاتها، وعدم الانسياق وراء إرضاء الجمهور أو الناس أو حزب أو حكومة أو طائفة ما.

والمفتي في هذا الباب يجب عليه أن يكون "يقظا" واعيا، حكيما مطلعا على خفايا المسائل السياسية وملابساتها لئلا يكون داعيا إلى فتنة أو مستخدما للدعوة إلى فتنة أو إلى وجهة ما(9).

11. أن يتجنب أسلوب الرد على المفتين والعلماء، وذكر الأشخاص مهما كانت صفتهم خاصة في معرض النقد والرد والتخطئة.

 

رابعاً: ضوابط تتعلق بالمستفتي:

قد يكون من الغريب أن نقحم المستفتي في الالتزام بالضوابط، خاصة في عصرنا الحاضر، ولكن علماء الإسلام في تنظيمهم لمسائل الفتوى قد أوجبوا بعض الالتزامات والآداب يراعيها المستفتي من أهمها:

1. إخلاص النية في طلب الفتوى ومن تطبيقاتها أن لا يبادر بالاتصال إلا لغاية مشروعة تخصه أو تخص غيره، وأن لا يقصد تحريك فتنة، أو إحداث تضارب في الفتاوى وإثارة الشحناء بين الناس أو بين العلماء... وغير ذلك من مقاصد يحاسب عليها المرء.

2. عدم تحري المتساهلين جريا خلف هوى النفس وميلها للراحة والتفلت من الواجبات الشرعية، خاصة:

أ‌.  عند عدم معرفة المستفتي للمفتي ومدى التوثق من علمه.

ب‌. عند اختلاف المفتين وتعدد الفتاوى، حتى لا يقع في التشهي والتلاعب بالدين.

3. البحث عن العلماء الثقات الذين تؤمن فتاواهم بالرخصة أو العزيمة، قال الإمام الشاطبي: "إن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه لأنه إسناد أمر إلى غير أهله والإجماع على عدم صحة مثل هذا بل لا يمكن في الواقع لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه أخبرني عما لا تدري وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء... إذا تعين عليه السؤال فحق عليه أن لا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه فلا يخلو أن يتحد في ذلك القطر أو يتعدد فإن اتحد فلا إشكال وإن تعدد فالنظر في التخيير وفي الترجيح قد تكفل به أهل الأصول وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال أما إذا كان اطلع على فتاويهم قبل ذلك وأراد أن يأخذ بأحدها فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى فلا سبيل إليه ألبتة"(10).

 

_______________________________

(1) فقد رأينا قنوات خاصة بالحيوان وبالسحر والشعوذة والفضاء وعلم الأرض والجيولوجيا والجغرافيا وغير ذلك مما يصعب حصره، فقد ذكر أن القنوات الفضائية تصل إلى الآلاف بجمع ما تعرضه الأقمار الاصطناعية وتبثه في الفضاء.
(2) وهي قناة منضبطة وهادفة.
(3) مع أن هذه المسألة إيجابية إلا أنها تكون سلبية من ناحية أخرى سنعرض لها عند الحديث عن السلبيات.
(4) لا حظنا الضجة الإعلامية لتي صاحبت انتشار بعض الفتاوى المثيرة للجدل بعد تحويرها والتلاعب بها من مثل رضاع الكبير، وبعض مسائل الزوجية وغيرها.
(5) راجع  تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 18- 19).
(6) يقصد بالموضة اليوم اتباع ما تقدمه دور الأزياء العالمية من تصاميم الملابس حسب أفكار وأهواء المصممين عادة ويقوم بعض المشاهير بارتدائها وتعلن في وسائل الإعلام وتتلقفها المعارض التجارية ويستحسنها قطاع من الناس بسبب تلك الدعاية، ومما يؤسف له أن اتباع ما يخالف  تلك "الموضة" يكون مستهجنا أو مثار تهكم لدى المفتونين بها، ولا يخفى ما في هذه المسألة من ارتباط بالانتماء للأمة وحضارتها وقيمها وخصوصيتها وهويتها، والله المستعان.
(7) الموافقات (4/ 259- 260).
(8) تعمد القنوات الفضائية في "الغرب" بل والتلفاز المحلي أيضا إلى تقسيم الموضوعات التي تعرض سواء أكانت برنامج حوارية أو علمية أو تمثيليات و"أفلام" إلى فئات بحسب العمر بحيث لا يسمح لمن كان دون فئة العمر المحدد بحضور ذلك "العرض" والإشارة للعمر المقصود منها التوجيه لأولياء الأمور والمسألة من باب التنبيه التربوي وحسب، ولا وقاية من أحد خارج الأسرة على مثل هذا بحكم الواقع.
(9) لقد شهدت أحد العلماء الثقات ممن يتحلون بالحكمة ورجاحة العقل مع الرسوخ في العلم وقد سئل عن حكم قيادة المرأة للسيارات فقال للسائل - وكان صحفيا- : هل النساء تقود السيارة في بلدنا؟ فأجابه: نعم، فقال له الشيخ: لما ذا السؤال إذن؟ أليس المقصود أن تضرب الفتوى بالفتوى وأن تزيد في الخلاف وأن تنشر هذا كله؟ هذا جوابنا ولكل بلد ظروفها وأحوالها.
(10) الموافقات (4/ 262).