لا تكن من الموعظات
18 ربيع الثاني 1427

قال الحسن البصري –رحمه الله-: " مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وإلا كنتم أنتم المُوعِظات ".
ومراده –رحمه الله– بالموعظات: أن يوعظ بكم غيركم لما يحل بكم من سخط الله ولعنته بسبب إهمال هذا الأصل.
وبهذا تعلم أخي الموفق: أن لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبعات ونكبات على الفرد والمجتمع.
والمتأمل في سيرة المصطفى –عليه الصلاة والسلام– يجد أن لهذا الأصل قيمته الفعلية العملية، بل ويربى المسلم على هذه الشعيرة العظيمة في تعامل المسلمين في حياتهم، فعن ابن عباس –رضي الله عنه– أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه (إنكار باليد)، وقال: يعمدُ أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله: خذ خاتمك انتفع به، فقال: لا، والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله ". رواه مسلم.
وهذا الحديث فيه دلالة واضحة لمن ينتقدون الإنكار باليد ويشنعون على فاعله،
بل لنرجع وراءً إلى ما قبل هذا الجيل الطاهر لما ذكر لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حال بني إسرائيل وما أصابهم بسبب تركهم لهذه الشعيرة.

فعن ابن مسعود مرفوعاً" إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: ما هذا اتق الله ودع ما تضع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ثم قال: " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ". ثم قال: كلا والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذون على يدي الظالم ولتأطُرنه على الحق أطراً ولتقصرنَّه على الحق قصراً " ( ).
وهذا الحديث مستندٌ لرجال الحسبة فيما يقومون به من عمل ويأطرون عليه الناس من الحق، والقاعدة الشرعية تقول: لا بد من أمرٍ بالمعروف، إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وبقدر المنكر يكون الأمر بالمعروف.
وعندما يقف المسلم داعياً إلى الله _تعالى_، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق الذي آمن به، يتعرض للأذى، وتتنزل به المحن والخطوب، فلا بد له من الصبر والثبات.

يقول أويس القرني – رحمه الله- : " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً، فأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين، والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه فأين أويس – رحمه الله – عن حالنا اليوم، أين هو عن جيل يهاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جيلاً يخاف من السيف وهو في غمده.
فوالله كأنه يحكي واقعاً ملموساً نشاهده اليوم.

وليس أويس فحسب، بل تشاء كلمة الله أن ينهض في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، رجال يقومون في هذه الأمة على طريقة الأنبياء في ميدان الاحتساب، فيضربون في ذلك أروع الأمثلة، يجددون بذلك أمر الدين، وينفخون روح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة الإسلامية، تبعاً للقاعدة التي لا تتخلف " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "، فظهر في القرن الثالث في بلاد الرافدين الإمام أحمد بن حنبل الذي وقف أمام أعظم منكر في ذلك الوقت أمام فتنة القول بخلق القرآن.
أمثل أحمد تدميه الســـــــياط على مرأى من الناس هذا حادث جلل
أمثل أحمد يلقى بين طائفـة على بصـــائــرها مـن غـيـهــا ظلـــل
وظهر في القرن السابع في بلاد مصر سلطان العلماء العز بن عبد السلام فأنكر على سلطان مصر الغاشم الظالم ظهور الخانات وبيع الخمور في البلاد وعلى الصعيد نفسه تلاه ابن تيمية في القرن الثامن مع جماعة من أصحابه الغيورين ليمار سوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعزير المفسدين، وليحرضوا السلطان على غزو بلاد النصيرية وتأديبهم.
ثم يأتي القرن الثالث عشر ليظهر فيه الإمام سليمان بن عبد الله مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لينكر على إبراهيم باشا إظهار العود وعزف المزامير أمامه حتى يقتل من أجل إنكاره.

وفي هذا الزمن تتشابه الجراح كما تتشابه الرماح كما يقال، وتتوالى الأحداث. . فبدأنا نشاهد ونرى مواقف إزاء رجال الحسبة والقيام بالاعتداء عليهم.
فسيري سفينَ الخير في ظِلِّ هيئةً أقامت على المعروف بنيانها الصَّخري
ولتعلموا أنكم من الأمة بمثابة الإمام أحمد في المحنة, فإذا ثبتم أنقذتم الأمة وإذا استسلمتم هلكت الأمة.
ولو تركنا هذه الشعيرة العظيمة لما نسمع من ابتلاءات على رجال الحسبة لاضمحلت الديانة, وفشت الضلالة, وشاعت الجهالة, وانتشر الفساد, واتسع الخرق على الراقع فصبراً يا رجال الحسبة لئلا نفتح مجالاً لقطيع بني علمان ليسلوا أقلامهم ويسودوا قرطاسهم, ويزودوا محابرهم, ليأتمروا على هذا الجهاز المبارك بغية أن يحيدوا بهذه الأمة من مسارها الذي رُسم لها, طامعين بأن يُدمَّر جهازاً كاملاً وتمسخ هوية أصحابه.
"ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

----------
*عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر