دعوة لصياغة مناهج شرعية جديدة
22 ربيع الثاني 1427

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لم تبدأ الدعوة الإسلامية بالأحكام التكلفية(1)، وإنما بدأت بتعريف الناس بربهم ـ سبحانه وتعالى وعز وجل ــ بأسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته... بدأت تعطي للإنسان فكرة عن ماهيته. من أين جاء؟، ولماذا جاء إلى هذه الحياة الدنيا؟ وإلى أين يصير بعد الموت؟

تُبينُ له أن الوجود خالق ومخلوق، خالق له صفات الكمال كلها، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو الحكيم العليم، ومخلوق مفتقر إلى خالقه لا يملك من أمره شيئاً، وأن الله أوجد الإنسان لعبادته، وأنه يوما ما ـ حين يشاء خالقه ـــ سيعود إليه ويحاسبه على ما قدم وأخر، ويكون للمحسنين الجنان العالية ذات القطوف الدانية والأنهار الجارية، ويكون للمسيئين نار موقدة... تتطلع على الأفئدة... على الكافرين موصدة... في عمد ممدة.

في هذا السياق جاءت التكاليف ــ الأمر والنهي ـــ واقرأ قول الله _تعالى_: "وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (آل عمران: 161). من يغلل يأتي يوم القيامة يحمل ما غلَّه على رقبته كما جاء في الحديث(2)، فانظر كيف يضع الحال يوم القيامة ضابطا للمكلف، وحافزا للعمل بالتكليف الشرعي ومجاهدة النفس للصبر على الطاعة.

واقرأ قول الله _تعالى_: "وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (آل عمران: 157)
فمن مات في سبيل الله أو قتل تنتظره مغفرة أو رحمة من عند ربه هي خير مما يجمع الناس. فلم لا يرغبون في الموت أو القتل في سبيل الله والجزاء مغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون؟

واقرأ قول الله _تعالى_: ".... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك: من الآية 15)
فهنا أمر بالسير في الأرض طلباً للرزق، ويضبط هذا الأمر بأن إلى الله النشور. وهذا يفهم منه بالإشارة تذكير الساعي على رزقه في الأرض بأنه راجع إلى الله يوماً ما وموقوف بين يديه ومحاسب على عمله إن خيراً وإن شراً.
ومثل هذا كثير في كتاب الله.

فالقرآن ــ كما يقول الشاطبي ـــ يشمل:
ـ معرفة المتوجه إليه وهو الله _سبحانه وتعالى_. وهذا يشمل علم الذات والصفات والأفعال.
ــ معرفة كيفية التوجه إليه. وهذا يشمل العبادات والعادات والمعاملات.
ـ مآل العبد ليخاف الله ويرجوه. وهذا يشمل الآيات التي تتكلم عن الموت وما بعده من ثواب وعقاب(3).

لذا ألقيت أواني الخمر في الطرقات حين سمع القوم أن الخمر حرمت(4)، وشقَّت النساء مروطهن(5) وتخمرن بها حين نزلت آية الحجاب.

إلا أننا اليوم نجد في المناهج التعليمية أن (الفقه) يدرس منفصلاً عن سياق الوعد والوعيد والتعريف برب العالمين.

تمَّ الفصل بين (الوعظ) الذي انحصر الكلام فيه على الموت وما بعده، و(الفقه) ـ الذي أختص بتدريس الأحكام التكلفية المتعلقة بالشعائر ـ صلاة صوم حج ـ والشرائع ـ الزواج والبيع والحدود والطلاق... إلخ ــــ و(العقيدة) التي تتكلم فيما يختص بأسماء الله وصفاته، ومسائل الإيمان والكفر.

تُدرس الأحكام التفصيلية الجزئية (الفقه) دون ذكر للثواب والعقاب في المسالة. فقط يكتفي بتحديد نوع الخطاب التكليفي (الوجوب أو الندب أو الإباحة أو التحليل أو التحريم).
وتدرس قضايا العقيدة بصفة مستقلة في المناهج التربوية، مما يوشي بانفصال العقيدة (أعمال القلوب) عن مادة (الفقه) أعمال الجوارح الخارجية.

وبسبب هذا الفصل في عملية التربية ــ أو الطرح العلمي المتواجد على الساحة ــ كثرت جرأة الناس على الحلال والحرام وخاصة أن كثيرا من مسائل الفقه فيها خلاف.
وبسبب هذا الفصل كثر الكلام في أمور العقيدة حتى تحولت مسائل الإيمان والكفر والأسماء والصفات إلى مسائل نظرية كلامية بعيدة تماما عن مسائل العمل. والكل يجادل، والكل يدعي صحة المعتقد فقط حين تتصحح عنده هذه الأمور نظرياً.

وفي المناهج الدراسية التي تدرس في (الأزهر مثلا) أمر أشد من هذا كله، حيث يدرس للطلاب في المراحل الإعدادية والثانوية ــ سن المراهقة وما يليه ــ الأحكام الفقيه دون أن تتطرق المناهج الدراسية إلى عالم الآخرة... الثواب والعقاب.!
فمثلا يدرس الزنا... ماهيته، حده، طرق إثبات الحد، الصور التي يجب فيها الحد والصور التي لا يجب فيها الحد. ثم يكتفي بعد ذلك بالقول إن الزنا حكمه حرام(6).
ويخرج المتلقي ــ وهو في سن المراهقة ـ من هذا الأمر بحصيلة توصيف فاحشة الزنا وكيف تكون، دون أن تعطى جرعة ـــ هي لازمة في مثل هذا الوضع ــ من الترغيب والترهيب.
وقل مثل هذا على الجهاد وما يُدرس فيه من أحواله وأحكامه ثم بعد ذلك يذكر حكمه الشرعي، ولا يأتي أي ذكر للآيات والأحاديث التي ترغب في الجهاد في سبيل الله ولا حال المسلمين يوم كانت الجيوش ترابط على الثغور، وحالهم اليوم وقد استباح حرمتهم عباد الصليب وإخوان القردة والخنازير حين تركوا الجهاد.

والخلاصة أننا نحتاج إلى قراءة جديدة لعملية المناهج التعليمية الشرعية في الحلق وفي محافل التعليم بحيث يتم الربط بين أمور العقيدة وأمور الفقه والترغيب والترهيب... تأتي الأحكام بين يدي الثواب والعقاب، واستذكار عظمة الله الآمر الناهي.

وعند الشيخ ابن عثيمين ــ يرحمه الله رحمة واسعة ــ الشيء الكثير من ذلك.
أذكر أنه كان يتكلم عن الغسل من الجنابة ــ وهي مسألة فقهية ــ فتساءل الشيخ: لماذا نغتسل؟
لأن الله أمرنا بهذا.
فالنية هنا ــ في الغسل ويقاس عليه غيره ــ نيتان، نية الامتثال لأمر الله، ونية رفع الحدث الأكبر.
وفي ثنايا الغسل تكون هناك نية الامتثال لهدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ من البدء بالوضوء ثم الشق الأيمن... إلخ(7).


ونحتاج اليوم إلى صياغة مناهج تعليمة جديدة ــ ولو على مستوى طلاب حلق العلم، أو الروضات الخاصة، أو المدارس الخاصة في صورة مادة تثقيفية ــ تخاطب الناس بذات الخطاب الدعوى الذي خاطبهم به الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ـــ في مكة وفي المدينة(8).
نحتاج لربط بين مسائل الاعتقاد التي تضبط التصور الداخلي عن الله وعن الخلق وعن الدار الآخرة بما فيها من ثواب وعقاب وبين مسائل الفقه التي تضبط حركات الجوارح.

فهل تنشط الهمم؟

_________________
(1) الحكم التكليفي هو خطاب الله _تعالى_ المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم.
(2) جاء في الحديث "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ" والحديث متفق عليه صحيح البخاري ـ واللفظ له ـ كتاب الجهاد والسير ، وعند مسلم في باب كتاب الإمارة والغلول ما يؤخذ من الغنيمة قبل تقسميها.
(3) مقدمة الموافقات والجزء الثالث منها نقلا عن حد الإسلام وحقيقة الإيمان للشيخ / عبد المجيد الشاذلي ص 103.
(4) والحديث في صحيح البخاري من حديث أنس _رضي الله عنه_ كتاب تفسير القرآن. حديث رقم 4620.
(5) المرط كساء من الصوف أو الخز كانوا يأتزرون بها كما يقول صاحب . والحديث في البخاري كتاب تفسير القرآن من حديث أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_. .
(6) مع الأخذ في الاعتبار أن المسائل الفرعية يذكر فيها خلافات كثيرة تعطي للمتلقي انطباعا أن الأمر فيه سعه، وأذكر أنني وجدت بعضهم يصلي خلف الصفوف بمسافة بعيدة منفردا على جنب فقلت له لا تصلح صلاتك هكذا لا بد أن تكون في صف وخلف الصفوف مباشرة، فأجابني ألم يختلفوا في هذه؟! لا بد أنهم اختلفوا.......!!
(7) أكتب من حفظي، وهذا الأمر يتردد كثيرا في دروس الشيخ ـ رحمه الله ـ.، وفي رسائله في الأسماء والصفات الشيء الكثير لمن أراد أن يستزيد ولولا ضيق المقام لنقلت منها الكثير.
(8) وهناك مثال حي ، انظر ــ مثلاً ـــ كيف يتناول الشيوخ في دروسهم المسموعة فريضة الصيام، كيف أن الأمر يتخلله الترغيب والترهيب وربط فريضة الصيام بالعقيدة ومراعاة الله _عز وجل_ (الإخلاص في العمل) ثم تذكر الأحكام الفقهية المتعلقة بالصوم في آخر المحاضرة.