أبناء أوسلو.. "قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"
9 جمادى الثانية 1427

سمعناهم يصرخون في وجه كل مقاوم فلسطيني, أن ألقِ سلاحك وامض معنا إلى حظيرة الأمان, لا تبدد مكتسباتنا التي حزناها بنضال فنادق أوسلو ومدريد وواي ريفر ومنتجع معسكر الملك داود (كامب ديفيد).. نح عنا مهاتراتك وحماسك, فالمعركة خاسرة بيننا وجيش الاحتلال الصهيوني, لا طاقة لنا به ولا قبل لنا بعتاده وجنوده.. أنت سائر برعونة نحو حتفك.. هذا ليس قتالاً متكافئاً بل مقتلة منصوبة لنا ومن الحكمة أن نتجاوز الأزمة ونعبر المرحلة بلا خسائر.." لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ" ليس قتالاً بل مقتلة, ومن الواجب أن ننحاز بثلث القوات.. بأجهزتنا بعيداً عن أتون المعركة الخاسرة, إن أجهزتنا لم "تشرع" لهذا وإنما لمنع "الفلتان الأمني"..
إنها قصة قديمة/حديثة صورها القرآن العظيم بآيات كأنها نزلت الساعة "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)" [آل عمران].
لما سار النبي بجيشه للقاء المشركين في أُحد "انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس (نحو 300 في ساعة عصيبة ما بين المدينة وأُحد) وقال: أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله أعداء الله! فسيُغني الله عنكم! ومضى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" [سيرة ابن هشام ج 3 ص 68].
وهي قصة شديدة البؤس في مماحلات أصحابها, إذ يدعون إلى المشاركة مع بني قومهم وفقاً لأي طريقة أو منهج أو رغبة يحبذونها, وأي خلفية دافعة لهم, سواء أكانت عقيدة دينية أم حمية قومية أم حتى دفاعاً عن الذراري والنساء والأطفال الضعفاء, لكن نفوسهم الجبانة تأبي عليهم أي قدر ولو ضئيل من المشاركة في هذا الجهد المقاوم.. يدعوهم بنو قومهم إما أن تقاتلوا في سبيل الله أو حتى في سبيل كرامتكم ونخوتكم العربية الحادية لكم بالمسارعة في نجدة المظلوم من بني قومكم, "إن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، فكونوا إما من رجال الدين، أو من رجال الدنيا" .[الرازي ج 4 ص 463].. أنتم عرب, والعرب لا يتركون أنفسهم وأهليهم نهباً للغازي, فادفعوا "عن أنفسكم وأحبائكم على عادة الناس لاسيما العرب" [نظم الدرر للبقاعي ج2 ص 138].
أو إن كنتم لا تحسنون هذا ولا ذاك, فما يضيركم أن تقفوا هكذا في الميدان لا تفعلون شيئاً سوى ترهيب العدو بكثرتكم, "قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والضحاك، وأبو صالح، والحسن، والسُّدِّي: كَثروا سواد المسلمين. وقال الحسن بن صالح: ادفعوا بالدعاء." [ابن كثير ج2 ص 160], وقال أبو عون الأنصاري: رابطوا"[ الطبري ج 7 ص 378 ـ 379]..
إذا كانت كل أجنحة الفصائل الفلسطينية قد هبت عن بكرة أبيها في دفع الهجمة الصهيونية البربرية حتى شكلوا صفاً واحداً موحداً يقاتل من خلال غرفة عمليات واحدة, وأنتم من جهتكم قد تلقيتم منذ أيام قليلة نحو 3000 مسدس وبندقية أمريكية الصنع, في صفقة مريبة تحدث عنها بعض نواب المجلس التشريعي الفلسطيني الموجود بعض أعضائه الآن خلف قضبان السجون الصهيونية, فما الذي يمنعكم من استخدامها ولماذا صمتت لعلعتها إلا على صدور جنود الفصائل الأشاوس.. أو قد أقعدتكم الأعذار؟!
فما لسهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره لم يختف عن الميدان ـ إلا من عذر ـ يوم الصدق, بل فاض الندم من ثنايا حديثه: "لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم . قيل وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله:"أَوِ ادفعوا" أراد: كثروا سوادهم [الكشاف ج 1ص345] وما لابن أم مكتوم لم يقعد, "قال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك ؟ قال: بلى! ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي. وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله!"[القرطبي ج4 ص 265 ـ 266].
والحق أن الأعذار الواهيات يوم الكريهة لا تستقيم مقاوِمةً قوة الحق وبراهينه الدامغات, فحين انحاز ابن أبي سلول بثلث الجيش, صاح في منتقديه: "لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ", وهو إما يعني أننا ما نظن يكون قتالاً وهو عذر متهافت, فكيف والصفوف قد تراصت؟!, أو لو كنا نحسن قتالاً لاتبعناكم, وهو لا يقل عن صاحبه ضعفاً, فكيف وأنتم خضتم معارك باطل كثيرة من أجل الدنيا, أو أن ما سوف نشهده إنما هي مجزرة.. مقتلة وليست قتالاً, وهي حالة فزع قمينة بمن كان النفاق له سبيلاً [حكا مثله في زاد المسير ج 1 ص 450]..
الذين انخذلوا حين جدت المعركة مبعث حيرة للجميع, فمن أيام كانوا يملؤون الدنيا صراخاً في غزة عن الفلتان الأمني, ومنذ سنوات كانوا يرسلون البعثات إلى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها لتدريب كوادر أجهزتهم, ويزودونها بأسلحة حديثة, وينفقون من قريب على رواتب عناصرها بسخاء إذ غزة ناضبة من الخبز والدواء أو تكاد, ثم يوم الكريهة لا ترى وجوههم الكريهة, ويفرقون كالجرذان من كل غارة جوية أو برية.
في غزة تنسج رايات العزة, بأيدي أبطال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, ليس من بينهم من باعوا أنفسهم للشيطان, وانخذلوا يوم التقى الجمعان, وفرحوا بمقعدهم.. ليس في غزة بل هناك في فنادق أوروبا وأمريكا..