تأملات في مشهد من سورة يوسف (5)
21 شوال 1427

الحمد لله وكفى وصلى الله وسلم على عباده الذين اصطفى وبعد:
فلا زالت العبر والدروس تستفاد من قول الله _تعالى_: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"..

ووقفتي الساعة مع قول الحق سبحانه خبراً عن نبيه يعقوب: "قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [يوسف:98]، إن هذا الخطاب منه عليه السلام يشعر في فحواه بمغفرته لهم في الحال، فإنه لايطلب المغفرة ولايعد بها إلاّ من غفر، فالأظهر أن يعقوب عليه السلام لم يؤجل العفو عنهم، بل لا يبعد أن يكون قد استغفر لهم الله، وإذا استحضرت ما ذكر عند التعليق على حذف المفعول في طلبهم: (استغفر لنا)، بدا لك أنه لايمكنه إلاّ أن يعد بالاستغفار في المستقبل، فهناك حق لله، وحق آخر متعلق ببعض خلق الله.

ثم إن التعويل في إسقاط حق الله على توبتهم هم واستغفارهم هم، ولاشك أن دعاء الصالحين من مظنة أسبابه أيضاً، أما حق المخلوق ولاسيما من كان ليعقوب عليه حق فشأن آخر، وهم طلبوا منه سؤال مغفرة الحقين، فكان يسعه أن يقدم أحدهما وهو حق الله ولما كان هذا الحق يحسن الإلحاح فيه، وكان سؤاله إياه المرة بعد المرة مما يحبه سبحانه، ناسب أن يعد الأبناء بملازمته في المستقبل، وتكراره في أحرى الأوقات وكل ذلك تشعر به (سوف)، كما ناسب الوعد بالتسويف حال الآخرين الذين لايسعه طلب عفوهم عن إخوتهم وأبنائهم إلاّ بعد حين، فناسب ذلك أن يصرح باستغفاره الله لهم إذا جاء الأوان المناسب.

وقد ذكر المفسرون في هذا التسويف أقوالاً فبعضهم ذكر أنه سوف إلى حين لقاء يوسف وبنيامين، وبعضهم ذكره التوسيف إلى السحر، وبعضهم إلى ليلة الجمعة، وساقوا آثاراً لم يصح في المرفوع منها شي، بل كثير مما روي عن الصحابة موقوفاً لم يصح، ولعل مراد من قاله من السلف في الجملة بيان بعض الأفراد فكأنه أراد سوف أتحرى آخر الليل في استغفار الله لكم، وساعات الإجابة، وكذا الأحوال الفاضلة، أو عندما ألقى من لهم الحق كيوسف وأخيه.

كما أن في تسويفه لفتة تربوية فكأنه أراد أن يشعرهم بعظم الجريرة وأنه لا يملك أن يقضي فيها عجلاً، وهذا توجيه يناسب مقام الأب أو الجد، أما يوسف عليه السلام فقد قام مقام الأخ الأصغر، فما أن رأى إقرارهم بالذنب حتى أسقط حقه واستغفر الله لهم: "قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" [يوسف:92]، ولعله لم يتكلم إلاّ بلسان نفسه فهو لا يملك الحق الذي يخوله التصرف في أمر أخيه بخلاف أبيه فإن له أن يأمر ويطلب ويقضي البر بوجوب الإجابة. والشاهد هو أن يعقوب _عليه السلام_ لم يهون ما لم يكن من حقه أن يهون شأنه، أو يتساهل فيما لا يملك أن يتساهل فيه ولكنه أشعرهم بحرصه على السعي فيما أرادوا. ومع ذلك لم يدخل اليأس إلى نفوسهم فعقب قائلاً: "..إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [يوسف:98].