أسس السياسة الشرعية (8/1) : قاعدة الذرائع /سد الذرائع

الطريق الثالث : قـاعـدة الـذرائـع

الذرائع في اللغة : جمع ذريعة ، وهي : الوسيلة إلى الشيء ، سواءٌ كان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة ، قولاً أو فعلاً . يقال : تذرع بذريعة : أي : توسل بوسيلة .

أمَّا في الاصطلاح ؛ فقد عُرِّفت بتعريفات كثيرة ، تكاد تنحصر في أحد قسمي الذرائع ؛ وذلك أنَّ كثيراً من العلماء والباحثين درجوا على إطلاق الذريعة على ما يُتَوَصَّلُ به إلى محظورٍ .

وهذا أحد قسمي قاعدة الذرائع ؛ فإنَّ الذرائع منها ما يُوصِل إلى المحذور - وهذا هو المشهور المتبادر عند ذكرها - ومنها ما يوصِل إلى المشروع ، وهذا ما يُعبِّر عنه بعض العلماء -كالقرافي - بـ" فتح الذرائع " ، واشتهر عند عامَّة الفقهاء تحت مسميات أُخرى ؛ والذريعة من حيث كونها طريقاً من طرق الاستدلال تشمل هذين القسمين .

من هنا يمكن تعريف الذرائع بمعنىً اصطلاحي عام يشمل هذين المعنيين ؛ فيُقال : الذرائع في الاصطلاح : ما كان وسيلةً وطريقاً إلى شيءٍ آخر حلالاً كان أو حرامـاً .
وبهذا يكون التعريف شاملاً قسمي الذرائع : ما يُسَدّ منها ، وما يفتح .

فقاعدة الذرائع تنقسم إلى قسمين قسم يسدّ ، وهو الأشهر لأسباب منها أنّه من قواعد المنع من المحظور ، والمحظور تدفع إليه طباع كثير من الناس ، ومن ثم يكثر طرق أسماعهم له أكثر من القسم الآخر الذي هو فتح الذرائع ، ومنها استعمال مصطلحات أخرى مرادفة لفتح الذرائع على ما يأتي بيانه في قاعدة فتح الذرائع إن شاء الله تعالى .
وبيان القسمين في قاعدتين على النحو الآتي :

أولاً : قاعدة سد الذرائع :
المراد بـ سد الذرائع : المنع من فعل ذرائع الممنوع ، لما تفضي إليه من الفعل المحرَّم ؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة مُنع من ذلك الفعل .
والذرائع التي تُسد وتحسم عُرِّفت بتعاريف كثيرة ، لعلَّ أقربها إلى المعنى المراد في عرف الفقهاء أنَّها : أمر غير ممنوع لنفسه ، قويت التّهمة في إفضائه إلى فعل محظور .

حجية سد الذرائع :

سدُّ الذرائع من طُرق الاستدلال التي تظافرت أدلة الشرع على تأييدها ، و شواهده في الشريعة أكثر من أن تحصر ؛ من ذلك ما يلي :
1) قول الله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108] ؛ حيث نهى الله سبحانه وتعالى عن سب آلهة الكفار مع كونه غيظاً وحمية لله تعالى ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقاً إلى سب الله تعالى " وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل مالا يجوز " قاله بن القيم .
2) وقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 104] ؛ حيث نهى الله - عز وجل - عباده المؤمنين عن قول هذه الكلمة ( راعنا ) للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم - مع أنَّها كلمة عربية معروفة ، معناها : أرعني سمعك ؛ وذلك لئلا تكون ذريعة لليهود إلى سبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنَّهم كانوا يخاطبون بها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - يريدون بها السَّبَّ ، يقصدون : فاعلاً من الرعونة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة للتشبّه باليهود في أقوالهم وخطابهم .
3) وقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ )) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )) متفق عليه ؛ فقد جعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - الرجل ساباً لأبويه إذا سبَّ سباً يَجْزِيْهِ النَّاس عليه بالسَّبِّ لهما ؛ لكونه سبباً ووسيلة إلى ذلك وإن لم يقصده .
4) أنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين ، مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إنَّ محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم - يقتل أصحابه ؛ وقد صرح النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك عندما سأله عمر – رضي الله عنه - أن يأذن له بقتل عبد الله بن أُبي بن سلول - رأس النفاق - حيث قال : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) رواه الشيخان ؛ لأنَّ هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام " قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .
وهذه بعض شواهد سد الذرائع ، وهي كثيرة ، ذكر ابنُ القيم - رحمه الله - تسعة وتسعين شاهدا لها على سبيل التمثيل ؛ ومدارها على تأكيد أنَّ : ما جَرَّ إلى الحرام وتُطُرِّق به إليه ، فهو حرام مثله .
ومن هنا قرَّر العلامة الشاطبي - رحمه الله - أنَّ قاعدة سد الذرائع أُخِذَت من استقراءِ نصوص الشريعة استقراءً يفيد القطع ، وأنَّ الشارع يمنع من الفعل الجائز إذا كان هذا الفعل ذريعة إلى مفسدة تساوي مصلحته أو تزيد ، ثم قرر أنَّ هذا المعنى الذي أُخذ بالاستقراء من أحكام الشريعة ، يقوم مقام العموم المستفاد من الصيغة ؛ فيما يندرج تحته من الوقائع التي لم ينصّ عليها ؛ فيطبق عليها ، دون حاجة إلى دليل خاص من قياس أو غيره .
وأما الأدلة الخاصَّة على هذه القاعدة فكثيرة أيضا ، ومنها :
1- قول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ ذلك أُمورًا مُشْتَبِهَاتٍ – وَرُبَّما قال – وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمورًا مُشْتَبِهَةً وَسأَضْرِبُ فِي ذلك مَثَلاً : إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ حَمَى حِمًى ، وَإِنَّ حِمَى اللَّه ما حَرَّمَ ، وإِنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى – وَرُبَّمَا قَالَ – يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ وإِنَّ مَنْ خَالط الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُـرَ )) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح " ؛ وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يُتْرَك ما يضارع الحرام وما يتوصل به إليه " قاله الباجي رحمه الله .
2- أنَّ قاعدة : " سد الذرائع " ، راجعة إلى أصل اعتبار المآل الذي قامت الأدلة الشرعية على اعتباره ، وشواهدها شواهد لهذه القاعدة ، ورجوع هذه القاعدة إلى هذا الأصل كافٍ في اعتبارها والتفريع عليها .
3- وقد حكى الاتفاق على إعمالها غيرُ واحد من العلماء ، منهم الشاطبي والقرافي ؛ بل صرح الشاطبي بأن استقراء أحكام الشريعة يدل على قطعيتها ، فقال : " سدّ الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية " .

ضابـط " سد الذرائع " :
الذين يُنَظِّرُون لقاعدة الذرائع لا يجيزون التوسع في سدِّها ؛ لأنَّ التوسّع فيه يؤدي إلى إيقاع الأمّة في الحرج ، وفي هذا إخلال بأصل شرعي آخر مهم هو " رفع الحرج " ؛ وعليه فلا يجوز الإفتاء بناءً على سدّ الذرائع مطلقاً مهما كانت ؛ بل لابد من تحقق مناط السدّ والمنع ، وقد نصَّ على ذلك عدد من العلماء والباحثين ، ومن نصوصهم في ذلك ، يمكن ضبط قاعدة المنع في الذرائع ، من خلال الشروط والقيود التالية :
1- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة . فالمعوّل عليه في المنع : ما يترتّب على الفعل من المفاسد في مجرى العادة ، أو ما يقصد به في العرف ؛ وإن لم يثبت قصد خاص من الفاعل ، بل وإن ثبت القصد الحسن والنيـة الخالصة ، كما في مسألة سَبّ آلهة الكفار .
2- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه ؛ فالفعل الذي يتضمن تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لا يمنع – وإن كان ذريعةً إلى تفويت مصلحة أو تحصيل مفسدة من جهة أُخرى – إذا كانت المصلحة التي يجلبها الفعل راجحة على المفسدة التي تنشأ عنه ، أو كانت المفسدة التي تندفـع به ، راجحة على المصلحة التي تفوت به .
3- أن يكون إفضاءُ الفعل المأذون فيه إلى المفسدة مقطوعاً به ، أو كثيراً غالباً بحيـث يغلب على الظن إفضاؤه إليها ؛ أو أن تتعلق المفسدة فيه بمحظور خطيرٍ ، يقتضي الاحتياطُ من المجتهد درءَ المفسدة فيه ، ولو لم يكن إفضاؤها إلى المفسدة كثيراً .
4- أن لا يكون سد الذريعة شاملاً عاماً لكل صور المحكوم فيه وكل أحواله ؛ بل بالقدر الذي تندرىءُ فيه المفسدة ، وإذا زالت الخشية زال الحظر .

والخلاصة : أنَّ ( سدَّ الذرائع ) طريق وقاعدة راسخة من قواعد التشريع وطرق الاستدلال الشرعي المعتبر ، إذا توافرت فيه شروط العمل به .
ولمَّا كانت هذه القاعدة طريقاً حازماً في الحفاظ على حمى الأحكام ، و عقبة عسيرة المنفذ ، لمن رام الوصول للباطل من بوابات الشرع – تضجّر منها أهل الباطل وحاول القدح فيها المحرومون بها من ترويج الشبهات والاستمتاع بالشهوات .
وثمة ملاحظة مهمّة تجيب على المتسائلين عن كثرة الفتوى بسدّ الذرائع وهي : أنَّه كلّما كثر الفساد في النّاس ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع ، وهكذا الشأن في القضايا العامة ، وأمور الولاية : كلما وسد الأمر إلى غير أهله أو إلى من يشيع بين الناس اتهامهم بالسوء ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع . والعكس بالعكس !