الإسلام يصنع الحياة
10 ربيع الثاني 1429

قال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)،[المائدة: 3]، بين الله تعالى في هذه الآية تمام نعمته على عباده بإكمال دينه، قال بعض العلماء هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب بعضهم إلى أنها خاتمة آيات الأحكام، وأياً ما كان فإنها تبين حقيقة عظيمة: وهي أن الشريعة قد كملت، فلا قصور فيها ولا نقص، وما على العباد إلا أن يلجؤوا إليها لحل سائر مشاكلهم الحياتية، فالله تعالى فصل في كتابه كل شيء.
إن الإسلام قد أخضع الحياة لأحكامه، فالنشاطات البشرية كلها امتدت إليها أحكام الشريعة موجهة مقومة، ولم يبق سبيل لأن يعيش المسلم خارج نطاق الشريعة الغراء بدعوى أنه لم يجد فيها جواباً لسؤال أو حلاً لمشكلة، وهذا فرع عن المقصد الكبير الذي من أجله خلقت البشرية، فالبشرية خلقت لتدين بالإسلام وتعبد ربها وفقاً لشرائعه، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات].
وهذا الشرع المكتمل مقيد فهمه بفهم سلف هذه الأمة، فليس لأحد أن يعبث بنصوصه ويلوي أعناقها ليعيش الحياة على غير هدى الله الذي أنزله، فلا جديد في الدين، ولكن تجديد يرجع للقديم.
إن القرآن نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوعاه وأداه كما سمعه وعمل به على أكمل الأوجه وأتمها لتقتدي به الأمة من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم مبيناً بفعله وقوله ما أنزل الله عليه، قال الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].
ومن البدهي أن يكون من رأى النبي صلى الله عليه وسلم -وهم الصحابة الكرام- أوعى للشريعة وأعلم بها فليس راء كمن سمع، وأولئك قوم شهدوا تنزل الوحي وحضروا بيانه، ومَن بعدهم كانوا أعلم وافقه من غيرهم لمعاصرتهم من شهد الوحي وعاين التنزيل وتابع المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهكذا كلما اقترب المرء من مشكاة النبوة أقترب من فهم الدين فهماً صحيحاً واتضحت عنده الرؤية، فلا غرو أن يكون كل ما اقترب المسلم من الأخذ بهدي السابقين القريبين من النبي صلى الله عليه وسلم كان أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً.
فإن قال قائل إن الدعوة إلى التمسك بفهم السلف للشريعة فيها عدم مواكبة للحياة ورجوع إلى الوراء، والحياة متجددة الأحداث، فكيف نرجع إلى فهم السلف الصالح للشريعة في أمور لم تحدث في زمانهم، ولم تشهدها أيامهم، إن في هذا تكريساً للتخلف في الأمة وإيقافاً لعجلة التقدم فيها؟
فالجواب: إن هذا سؤال نابع عن قصور في تصور حقيقة الإسلام، فالإسلام جاء ليطوع الحياة لتستقيم على شريعته لا ليخضع هو للحياة، ولاجديد في الدنيا فرط فيه كتاب ربنا، ثم إن منهاج السلف مستمد من الوحيين وكما أن الوحيين الشريفين باتفاق المسلمين صالحين لكل زمان ومكان فكذا المنهج المستمد منهما صالح لكل زمان ومكان، فهو يطوع الحياة في كل الأزمنة لتستقيم على هديه دون أن تفقد حقاً من عصريتها أو يقبل باطلها بحجة سمجة مؤداها أنه عصري أو جديد! وبهذا يكسى العصر ثوب الإسلام ويصبغ بصبغة الشريعة المحمدية فيصان بذلك عن كل جديد جدير بأن يستر بل يقبر فلا يظهر.
ومن حقنا أن نسأل أصحاب السؤال المذكور آنفا فنقول: أرونا ما هو الشيء الذي نفع الإنسانية في عصرها الحاضر ووقف المنهج السلفي حجر عثرة أمامه؟
وماهو السؤال الذي أعجز السالكين على منهج السلف، ودونكم كلما استجد في واقعنا المعاصر؟ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف: 5]، فعليك أخا الإسلام -كما قال الأوزاعي- بآثر السلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم(1).

_______________
(1) شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي 1/7.