ضالة المؤمن
16 ربيع الثاني 1429

الإسلام يعلم المسلم أن يأخذ الحق من أي وعاء خرج، ويقبل الصواب أيا كان قائله، فالمسلم طالب هدى، باحث عن الصواب، رجاع إلى الحق، وإن كان الحديث المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"(1) ضعيفاً إلا أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قبول النصح ممن هو دونه يدل على هذا المعنى ويقويه، فكم قبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورة أصحابه، من ذلك خروجه لملاقاة المشركين خارج المدينة في غزوة أحد وكان رأيه عليه الصلاة والسلام ألا يخرج إليهم بل يقاتلهم داخل المدينة، و من ذلك أخذه برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما أشار بحفر الخندق، وقبوله نصيحة الحباب بن المنذر رضي الله عنه في معركة بدر وغيرها من المواقف.
إن الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق، قال الله تعالى في محكم تبيانه مخبرا عن بلقيس قبل إسلامها أنها قالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) قال الله تعالى تعقيبا على كلامها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل:34]، فصدقها الله تعالى يوم قالت حقا ولم يرد الحق الذي قالته لفساد معتقدها وضلالها وكفرها يومئذ.
بل إن أكفر من خلق الله تعالى وهو إبليس عليه لعنة الله لما قال حقا لم يكن كفره حائلا بين النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه في كلمة حق قالها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ"(2).
فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم القول بأن آية الكرسي يحفظ الله من قرأها ولا يقربه شيطان حتى يصبح وذلك لأن هذه هي الحقيقة بغض النظر عن قائلها، والحقيقة إن كذبها من شاء تكذيبها فإن تكذيبه لها لا يبطلها لأنه لا يصح غير الصحيح.
والعجب كل العجب أن يعلق بعض الناس قبولهم الحق على قول ذي جاه أو ذي نسب أو ذي مكانة في المجتمع، وهذا ما حال بين الأمم السابقة وبين الحق، فعلى سبيل المثال قوم نوح عليه السلام وهو أول رسل الله تعالى ما كان صارفهم عن الحق إلا أن أتباع نوح عليه السلام ليسوا من ذوي المكانة والمنزلة قال الله تعالى مخبرا عنهم: (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَالرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود: 27].
فانصرفوا عن الحق لأنه لم يأت من أحد عظمائهم وكبرائهم وهذا فساد ذوق وقلة إدراك فالعاقل يقبل الحق ولو لم يعرف قائله، ولو لم يكن قائله من أصحاب الوجاهات، فقط يكفي الحق أنه الحق.

_______________
(1) رواه الترمذي، 9/301، (2611)، وابن ماجة، 12/205، (4159)، وضعفه الألباني.
(2) رواه البخاري، 11/53.