بين طاعة الوالدين واستقلالية قرار الأسرة
30 جمادى الأول 1430
يحيى البوليني
يظل هناك دوما خط فاصل دقيق بين طاعة الإنسان لوالديه وبره بهما وبين استقلالية قراراته في بيت زوجيته بناء على قناعته وشخصيته .
 
ودوما عند بروز هذا الخلاف بالذات يدعي كل الأطراف أنه على حق كامل فيه , ولا يتنازل أي طرف عن موقفه بل لا يكاد يسمح بمجرد فتح باب للنقاش .
 
ففي حين يقول الأبوان أنهما لا يريدان إلا الخير لأبنائهما المتزوجين وأنهما أكثر حكمة وخبرة وهما الأكثر قدرة على تجنيب تلك الأسرة الناشئة المشاكل العديدة التي قد تواجههم في حاضرهم ومستقبلهم , وأنهم يعطونهم خلاصة تجربتهم في الحياة , فيتدخلون بشكل مباشر جدا في حياة أبنائهم , وقد يضغطون بأنواع شتى من الضغوط ليستجيب الأبناء لتوجيهاتهم , وإن اعترض الأبناء على ذلك  واجهوهم بغضب واتهام بالعقوق وربما بمقاطعة أو قد يصل الأمر إلى حرمان من بعض الحقوق .
 
وفي المقابل يرى الأبناء أن جيلهم أكثر علما وثقافة من جيل آبائهم , ويرون أنهم قادرون على الاستقلال بحياتهم وبتصرفاتهم وأنهم قد خرجوا من طور الطفولة , وانه بمجرد زواجهم قد تخلصوا من قيد الأبوين , وصار لهم مطلق الحرية في الفعل سواء كان صوابا أو خطا , ويعتبرون أي تدخل ولو بتوجيه لطيف أو كلمة رقيقة تدخلا سافرا في حياتهم ينبغي مقاومته , وقد يعتبرون مجرد تلبيتهم لتلك الرغبات ضعفا وإقرارا بالهزيمة أمام ذلك الجيل الذي لا يرى إلا بعين الماضي ولا يستطيع مواجهة الحاضر والمستقبل .
 
ومن هنا ينشا الخلاف الشديد الذي يكاد يعصف بكثير من البيوت المسلمة ويتمثل ذلك ويبرز واضحا جليا في تلك الصورة , وهي صورة رجل متزوج حديثا يقع بين شقي رحى تديره امرأتان لهما حقوق عليه ينبغي حسن أدائها , ألا وهما أمه وزوجته , وكلاهما تطالبه بحقوقها وكلاهما لا ترضى منه إلا بان يكون خالصا مخلصا لها , وكلاهما امرأة , والمرأة تظل امرأة لآخر يوم في عمرها
 
ولننظر للأمر بإذن الله في نقاط :
-       تنشا المشكلات الاجتماعية دائما عند فقد التوازن بين الحقوق والواجبات , فما من حق إلا ويقابله واجب , وبعض الناس قد يغالي في المطالبة بالحق الذي له ويشتد فيه وينسى أو يهمل الواجب المنوط به , وقد حذر الله سبحانه من ذلك وتوعد مثل هؤلاء فقال " ويلللمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون* ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم* يوم يقوم الناس لرب العالمين "
    والتطفيف لا يكون في الحقوق المادية فقط بل يشمل كل الحقوق المادي منها والمعنوي , فكما للأبوين على أبنائهم حقوق , فللأبناء عليهم حقوق أيضا وما ترك الله علاقة إنسانية بدون تنظيم لها للحقوق والواجبات 
-       لتحكم الأهل في حياة أبنائهم الزوجية تأثير سلبي كبير ويزيد حياتهم تعقيدا وقد يصل بهما إلى أبغض الحلال , ففي إحصائية رسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر أظهرت " أن 42% من هذه أسباب الطلاق ترجع إلى ضيقِ ذات يد الرجل وتدخل الأهل في حياته الزوجية كسببٍ ثانٍ ورئيسي بنسبة 25% , ووقعت 6.5% من حالات الطلاق بسبب تحريض أهل الزوج و5.3% لتحريض أهل الزوجة "
وفي دراسة عن "قضايا الزواج في الكويت" للدكتور عيسى السعدي أورد أسباب عدة للطلاق رتبها حسب الأهمية فجاء تدخل الأهل من ضمن هذه الأسباب بنسبة 36%.
ولعظم هذه النسب ينبغي توجيه قدر كاف من الدراسات التربوية لدراسة هذا الخلل وعلاجه .
 
-       قد تظهر عيوب الخاطب كلها أو بعضها وكذلك المخطوبة أثناء الخطبة , ولكن بعض العيوب لا تظهر إلا بعد الزواج , منها أن أحدهما خاضع لأهله تماما , ولا يتصرف تصرفا إلا بهم , ولذا لا يستطيع كثير من الناس أن يتعايش مع تلك المشكلة فتنتهي الحياة الزوجية بالطلاق مخلفة وراءها مشكلات اجتماعية عديدة  , ويكون الضرر أبلغ إن كان للزوجين أبناء لا ذنب لهم  
 
-       للأم دوافعها النفسية في التحكم في حياة ابنها , والتي ينبغي تفهمها والتعامل معها بلطف لا بعناد ومصادمة , وهي أنها كانت بالنسبة لولدها قبل زواجه  كل شيء , وكانت تنال من وقته واهتمامه ورعايته الكثير , وفجأة تأتي امرأة أخرى تنال من ولدها الكثير من وقته واهتمامه ورعايته , والذي تعتبره الأم انتقاصا من حقوقها عند ولدها , وقد تتملكها الغيرة منها بدافع أنثوي نفسي فتحاول استعادة مكانتها وإبراز قيمتها أمام الوافد الجديد بالتدخل المباشر في حياته الزوجية .
 
-       وللزوجة أيضا حاجتها النفسية التي يجب تفهمها والتعامل معها , وهي أنها تطالب بحقها أن يكون زوجها رجلا كامل الرجولة , بأن يكون قادرا على اتخاذ قراراته بنفسه , منفذا لها إن اقتنع بأية وجهة نظر ولا يكون إمعة , فلا يكون معها مظهرا اقتناعه برأي ما مدافعا عنه وتراه بعد فترة وجيزة يتصرف تصرفا آخر تدرك أنه قد أملي عليه من أي طرف خارجي .
 
-       لم يجعل الإسلام الطاعة حقا كاملا لأي أحد على المسلم بعد طاعة الله والرسول , فلا يوجد انقياد كامل ولا تسليم مطلق إلا لأوامر الله وسنة رسوله , أما ما دونهما فكل أوامرهم تخضع لموازين الشرع وقواعد العرف وضوابط المصالح والمفاسد , وذلك مع الاعتبار الكامل لحقوق الوالدين ووجوب برهما وحسن معاملتهما قال الله عز وجل " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون "
 
 
-       للزوجة على زوجها حقوق أيضا ثابتة بالشرع فقال الله عز وجل " ولهن مثل الذي عليهم بالمعروف وللرجال عليهم درجة " وقوله عليه الصلاة والسلام ((استوصوا بالنساء خيرًا ، فإنهن عوانٍ عندكم)) ويعقب الشيخ الألباني رحمه الله في نصيحته للنساء  " الشاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بالاستيصاء بالنساء خيرًا في هذا الحديث ، علل ذلك عليه السلام بقوله ((فإنهن عوانٍ عندكم)) أي: إنهن كالأسارى ، والأسير لا يستطيع أن يعمل شيئًا مع سيده ، كذلك المرأة المسلمة ، المتخلقة بأخلاق الإسلام الصحيحة ، هي أمام زوجها كالأسير " .
فإذا كان للآباء حقوق شرعية يجب مراعاتها, فللزوجة أيضا حقوق شرعية يجب مراعاتها , ولا يكون الظلم لأي طرف وفاء لحقوق الطرف الآخر بل يكون ظلما وتقصيرا وتفريطا , ومحال أن يرضى الله به أو يكون ذلك من شرعه الحكيم العادل
-       قد تلجئ ظروف تقدم السن والخوف من عنوسة البنات على قبول ضعيف الشخصية أمام غيره وخاصة أمام والديه كزوج , وتتغافل عن هذا العيب , وتظن أنها ستتعايش معه , ولكنها لابد وأن تعلم أنها ستحتاج إلى كثير من العمل كي تصلح من أمر الزوج إن أرادت .
 
-        للتبعية المطلقة من احد الزوجين لأهله أسبابها التربوية الكثيرة التي تحتاج لبسط لمناقشتها ومنها الخلل التربوي وعدم إكساب الأبناء القدرة على تنمية الشخصية المستقلة منذ الصغر , ومنها وجود خلل في الأسرة الأم كأن يكون دور الأب مفقودا أو منعدما وغيرها .
 
ويمكن للزوجة أن تتصرف بذكاء ولباقة وحكمة مع هذا الموقف لأن هذا الأمر سيطول وسيحتاج وقتا طويلا لتعديله ويمكنها :
-       عدم القبول به والتسليم له لما فيه من خطر حالي ومستقبلي ,فمن تعود الاعتماد على غيره لن يصبح في يوم من الأيام متحملا لمسئوليته وسيحاول أن يلقي بتلك المسئولية عن كاهله إلى من يتحملها نيابة عنه فإذا كان الآن تابعا لأهله فقد يأتي زمن آخر أو مكان أخر ويتبع شخصيات أخرى ,  وأيضا هناك خطر اكبر وهو الخوف على الأبناء فقد يصطبغون بتلك السمة وتضعف شخصيتهم كذلك
-       التروي والتمهل فالمشكلة متعمقة داخل نفس الزوج ولا يمكن علاجها بسهولة فلابد من التحلي بالصبر وعدم اليأس
-       الدعم والتشجيع والمساندة بالثناء على الزوج وعلى تفكيره وعلى قراره ومساندته فيه وتحمل نتائج قراراته التي يقررها بنفسه
-       البدء بالقرارات الغير مؤثرة قبل القرارات المصيرية لكونه في البداية غير مؤهل لها
-       عدم الاصطدام مع أهله ووضعه دائما محل الاتهام , فما أسهل التخلص من الزوجة - رغم أنها محقة - والعودة إلى الحضن الدافئ حيث لا قرارات ولا تعب ولا منغصات ولا مسئوليات , وسيستريح الزوج من الزوجة ويقبل بحكم أهله عليها أنها لم تحسن حياتها الزوجية وان طلاقا كان حلا لإنهاء المشاكل التي أوجدتها
-       التغاضي عن المشكلات التي تثيرها الجهة أو الشخص الذي يتحكم في الزوج لان هذا المشكلات تعرقل مسيرتها نحو إصلاح زوجها
-       العلم والاطمئنان بأن الزمن جزء مهم في علاج زوجها فالناس تتغير بعوارض الحياة فيكبر الصغير ويهرم الكبير ويضعف القوي فدوام الحال محال