تنامي المدَ القومي العنصري: سحب الهند الجنسية من 4 ملايين شخص، معظمهم مسلمون
26 ذو القعدة 1439
أحمد ماهر العكيدي

الهند ليست دولة بالمعني الدارج ..الهند  شبه قارة متعددة الأعراق كل عرقية تصلح لتشكل دولة قومية وأحيانا عدة دول.. المسلمون الأقلية في الهند تعدادهم يربو على 140 مليونا، يشكلون أكبر أقلية في البلاد، تعادل تقريبا 10% من السكان، وهكذا البوذيون والسيخ. وحديثي في هذا العرض عن سحب الهند للجنسية من 4 ملايين شخص في ولاية آسام، ومعظمهم مسلمون.

 

هناك مدَ قومي متصاعد في الهند..يسعي لبناء ثقافة هندوسية وقمع الهويات الدينية الرئيسية. وهذا المد متجذر تاريخيا، خف تأثيره مع سيطرة حزب المؤتمر على الهند لعقود، لكنه بعيد تنظيم نفسه منذ الثمانينيات.

 

المد الهندوسي القومي في الهند متجذر تاريخيًا بمنظمات تعود لأوائل القرن العشرين، خفت تأثيرها بشدة مع سيطرة حزب المؤتمر علي السياسة، لكنها أعادت تنظيم نفسها منذ الثمانينات فلها حاضنة أيديولوجية هي منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانج" المعروفة اختصارًا ب RSS
ولهذه المنظمة قدرات تنظيمية بإقامة معسكرات سنوية عملاقة لتأهيل قيادات شبابية ليس فكريًا، وفقط، بل بتدريبهم أيضا على فنون القتال وقواعد الإمساك بالسلاح وإطلاق النار، وجناح شبابي هو باجرانج دال، وواجهة سياسية هي حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، الذي يستمد صلابة قواعده التصويتية من خزان RSS.

 

ويمكنني القول، انطلاقا من متابعتي للمدَ الشعبوي الذي يجتاح العالم وبات واضحا تصدره في أوروبا وازدهار قواعده بأمرييكا بصعود ترامب ويمينه الإنجيلي، إن الهند ليست ببعيدة عن تلك الحركات اليمينية المتطرفة المعادية للأقليات والتنوع الديني ..كل شيء هدف..من تصفية بؤر اللاجئين القدامي إلي ملاحقة آكلي لحوم البقر

 

طبعًا الديمقراطية لعنة على مثل تلك الحركات الشعبوية كلها، فلتنعدم الضوابط والكوابح التي يوفرها أي نظام ديمقراطي على علاته، وليأت أشاوس منظمة "RSS" المدججين بعقيدة قتالية ودينية عنصرية وسياسية نازية إلى الواجهة مباشرة دون قضاء أو دستور.. ربما يروق الأمر لأحدهم، فالثوب أوسع من نارنيدرا مودي!

 

قصة ولاية آسام تعود إلى تاريخ طويل أيام الاستعمار البريطاني، يوم أن كانت الهند دولة موحدة..حركة الفلاحين البنغال كانت قوية تجاه غابات آسام ومنخفضاتها، حيث تزدهر زراعة الشاي..نفوذ البنغاليين تطور وسيطروا على الدرجة الوسطى في حكومة الاستعمار، وشغلوا وظائف مكّنتهم من بسط النفوذ على الآساميين الهندوس.

 

تقع ولاية آسام شمال شرق الهند إلى الشمال الشرقي من بنغلاديش يحدها من الشمال والشمال الغربي بوتان، وإلى الغرب منها بنجلاديش وتتصل هذه الولاية في أقصى الشمال الغربي منها ببقية أراضي الهند ببرزخ ضيق يمر بولاية البنغال الغربية يقع بين بوتان وبنجلاديش.

 

انقسمت الهند إلى شطرين: الهند وباكستان الإسلامية التي كان شطرها الشرقي هو بنجلاديش. بنجلاديش انفصلت عن باكستان بعد حرب دامية أزهق فيها الجيش الباكستاني حياة نصف مليون بنغالي، ليتدفق  10ملايين لاجئ بنغالي، مسلمين وهندوس، إلى الهند التي شيدت مخيمات لاجئين في ولايات آسام وبيهار.

 

وتلك كانت موجة النزوح الأولي داخل الهند قبل أن تنشب الحرب الباكستانية-الهندية عام 1971، التي انتهت بنصر هندي ساحق علي الجيش الباكستاني بقيادة الجنرال أمير عبد الله خان نيازي، الذي وقّع وثيقة استسلام 93 ألف من جنوده للجيش الهندي..انتهت الحرب وانفصلت بنجلاديش رسميًا عام 1971.

 

ظلّ هناك قرابة مليون لاجئ مسلم في آسام التي وفد إليها مئات ألوف النازحين من الفقر في الدولة البنغالية الوليدة.. بنجلاديش فجأة قفز عدد الناخبين المُسجلين في الولاية من 6,3 مليون إلي 9 مليون ناخب بنهاية السبعينات..كان النازحون خزانًا بشريًا إضافيًا لحزب المؤتمر الحاكم.

 

حركة الفلاحين البنغال كانت مسيطرة في غابات آسام ومنخفضاتها حيث تزدهر زراعة الشاي. الآسامييون كانوا يخشون تبعات التغيير الديمغرافي السابق بنفوذ الطبقة الوسطى البنغالية أو المُستجد بتدفق اللاجئين..هنا بدأت الحركة القومية الآسامية في التشكل على يد اتحاد طلاب المدارس والجامعات.

 

طالبت الحركة القومية الآسامية الحكومة بتطهير الولاية من البنغاليين. وأضافوا لمطالبهم "الهوياتية" جانبا اقتصاديًا. إذ إن آسام غنية بمزارع الشاي وكذلك تُسيطر على ربع الاحتياطي الهندي من الثروة النفطية والغازية، لكن شركات النفط في الولاية لا تُوظف إلا قلة من الآساميين، ومزارع الشاي تُسيطر عليها شركات مقراتها في كلكتا. أما التجارة، فسيطر عليها المارواريون من راجستان. أضافت الحركة القومية الاسامية المطلب الاقتصادي بتمكين السكان المحليين من السيطرة على مصادر الثروة والسلطة في الولاية عبر اقتطاع نسب محددة من عائدات مزارع الشاي وعائدات النفط والغاز وغالبية الوظائف لمصلحة الآساميين على قائمة مفاوضاتها مع الحكومة.

 

بدأت الحركة القومية الآسامية منذ مطلع الثمانينيات تتجه إلى العنف ضد البنغاليين الذين أُحرقت بعض قراهم، وضد الحكومة الهندية أيضًا.. انتُزعت قضبان السكك الحديدية، وتوقف تصدير الخشب الرقائقي والجوت، بل تمكّن اتحاد الطلاب من إيقاف إمدادات النفط من آسام، وهو ما دفع نيودلهي من اعتبار المناطق المُحيطة بأنابيب النفط في آسام على قطر نصف كيلومتر مناطق محمية، وأرسلت تعزيزات عسكرية لضمان وصول النفط لمعامل التكرير في بيهار. وبدأت مناوشات بين اتحاد الطلاب ورئيسة الوزراء أنديرا غاندي التي حذّرت من مغبة منع النفط.

 

تفاوضت الحكومة الهندية مع اتحاد الطلاب، رفضت الحكومة مقترح الاتحاد بأن يُعتبر كل وافد بنغالي إلى آسام بعد تاريخ 1951 لاجئا غير شرعي. تمسكّت الحكومة بتاريخ 1971 بدلًا من ذلك..في النهاية لم يتوصل الطرفان لاتفاق. وأُجريت انتخابات الولاية في 14 فبراير 1983.

 

كانت أسماء النازحين مُسجلة في الكشوف. قاطع الهندوس الانتخابات. وبعد 4 أيام بدأت المجزرة  المسماة "نيللي" ضد المسلمين. وبعد عام واحد، فقط، سيضرب الصراع الطائفي الهند بشدة، وهذه المرة في البنجاب، بين الهندوس والسيخ، على خلفية إقالة حزب أكالي دالي السيخي من الحكومة..السيخ سيعلنون جمهوريتهم المستقلة ويعتصمون في المعبد الذهبي في أمريتسار وينصبون أبراجًا عسكريًا علي أطرافه. ولحكومة ستدفع بالجيش للمعبد. دبابة وألوف الجنود الهنود سيقتلون 500 سيخي في امريستار، بينما يسقط 70 قتيلًا من الجيش. نصحت دوائر الاستخبارات أنديرا غاندي بتغيير فريق حراستها واستبعاد السيخ..رفضت قائلة..ألسنا علمانيين؟ اثنان من حراسها السيخ سيانت وستوانت سينج سيطلقان عليها الرصاص انتقامًا لمذبحة أمريتسار.

 

اُغتيلت أنديرا عام 1984 وخلفها راجيف في الحكم. راجيف سيُغتال بدوره بعد سنوات قليلة في تفجير انتحاري. وهذه المرة على يد هندوسية أهدته باقة ورد ثم ضغطت زر التفجير احتجاجًا على تورط الهند في الحرب الأهلية السيرلانكية إلى جوار السنهاليين البوذيين في مواجهة متمردي التاميل الهندوس.

 

لكن راجيف غاندي توصل عام 1985 إلى تسوية لأزمة آسام أو ما سيُعرف لاحقًا بـAssam Accord. وبموجبه اعترف بحق اتحاد الطلاب الآسام في حكم الولاية وسوّى معهم وضع المسلمين البنغال. وكانت تحوي التفاهمات التالية:

كل من وفد إلى آسام حتى العام 1961 يُعتبر مواطنًا له حق الجنسية والتصويت. الوافدون من 1961-1971 يُمنعون من حقوقهم السياسية مدة 10 سنوات ثم يستعيدونها. أما كل من وطأت قدمه أرض الولاية بعد 1971، فيُعتبر لاجئً غير شرعي وتسقط كل حقوقه.

 

وفي الأسبوع الماضي فقط، أعلنت الهند سجلًا بمواطني الولاية: 32,9 مليون يعيشون في الولاية، واعتبرت الهند أن 28,9 مليون منهم مواطنون، بما يعني فعليًا تجريد 4 ملايين إنسان من جنسيتهم، وهم أولئك البنغاليون الذين قدموا بعد 1971. وفي الخلف على الدوام يقف الحزب الحاكم: بهاراتيا جاناتا.

 

تخيل أن تعيش لمدة 47 سنة في بلد، وكانت لك حقوق المشاركة السياسية واستخدمتك الأحزاب لتعزيز سطوتها الانتخابية. شاهدت 2000 من أهلك يُقتلون و150 ألف لاجئ يُشردون وفضلت السكوت. تعلمّت وعملت، أنجبت وربيّت، دفنت أجدادك ومضيت، ثم فجأة تأتي السلطة لتقول لك: لم تعد الآن مواطنًا!.

 

 أنت لاجئ غير شرعي، لكن لا تقلق..هي مسودة غير نهائية..أمامك فرصة للاستئناف في متاهات البيروقراطية، وإن لم تنجح، فستصبح عديم الجنسية في وطنك..هذا تحديدًا ما جرى اليوم لـ4 ملايين بنغالي في الهند..بلد المتناقضات، حيث صناعة صواريخ الفضاء وشركات البرمجة العملاقة في بنجالور ومعاهد التقنية الأفضل في العالم ITI، وحيث العنف الطائفي والمذابح طي النسيان، وحيث يستيقظ 4 ملايين..بلا وطن!

 

وخلاصة القول في هذه الواقعة وأمثالها: الديمقراطية هي العدو الأول للحركات الشعبوية والمتطرفة، فما يطلبونه هو استخدام الديمقراطية للوصول للسلطة ثم بعدها يبطلون أي كوابح ديمقراطية تعيق تنفيذهم لمخططاهم العنصرية شأن هتلر ومودي وغيرهما.