أنت هنا

علاقة الكسوف بالمعاصي
4 صفر 1431
عبد المجيد بن صالح المنصور

كثر في الآونة الأخيرة طرق نفي العلاقة بين الكوارث والتغيرات الكونية وبين الذنوب والمعاصي، وقد تصدى علماؤنا ولله الحمد قديما وحديثا لهذه المسألة، وفندوا شبهات متبعي الشهوات، ومما استجد في ذلك أنه لا علاقة بين الذنوب والمعاصي وبين الخسوفات والكسوفات، ويتعللون بعلل واهية، لا تعدو أن تكون تعلقاً بالسبب الحسي لهما، ولو علموا ألا تعارض بينهما لم يحتاجوا إلى ذلك التعلق، وتلك التأويلات التي يتأولونها، وهناك فريق آخر من الذين يتبعون الشبهات ينفون العلاقة بينها لمآرب أخرى معلومة للراسخين في العلم (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) قال ابن كثير في تفسيره: ({ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم...)

 

وقال ابن جرير في تفسيره: (فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم ميلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه... وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله:"ابتغاء الفتنة"؛ لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم عما هم عليه من الحق، فلا معنى لأن يقال:"فعلوا ذلك إرادةَ الشرك"، وهم قد كانوا مشركين).

 

وقال القرطبي: (قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام... أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه...).

 

وقال ابن عثيمين رحمه الله: (فالزائغون يتخذون من هذه الآيات المشتبهات وسيلة للطعن في كتاب الله ، وفتنة الناس عنه، وتأويله لغير ما أراد الله تعالى به ، فيَضِلُون، ويُضِلُون، وأما الراسخون في العلم يؤمنون بأن ما جاء في كتاب الله تعالى فهو حق وليس فيه اختلاف ولا تناقض؛ لأنه من عند الله ...).

 

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء فروى البخاري، رحمه الله، عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، عن القَعْنَبِيِّ، عن يزيد بن إبراهيم التُّسْتَريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } إلى قوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعُون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ" وهذا لفظ البخاري.

 

وإن الشبه التي يذكرها ممن ليس له اختصاص بالعلم الشرعي أو من متبعي الشبهات لا تعرض للعلماء والراسخين في العلم، وأما أولئك فيتخبطون في دهاليز المحسوسات بسبب جهلهم بالشريعة، أو بقصد إضلال الناس، وإشغالهم عن ربهم وصرفهم عن التوبة الاستغفار والإقلاع عن الذنوب والمعاصي.

 

وهنا يختلف الناس - حسب استقامة فطرتهم أو زيغها - في استقبال هذه الآيات وتلك . فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة ، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة، ويجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالاً لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر ، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله.

 

وأما ما ذكره بعضهم(1) من أنه لا علاقة بين الكوارث والكسوفات وغيرها وبين الذنوب والمعاصي، فليس أول عشواء خبطوها، وفي مهواة من الأهواء أهبطوها، ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة، وطالما استوخموا من السنة المناهل العِذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذَاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أنه لا دليل على أن الذنوب سبب للكسوف، والأدلة والحمد لله متوفرة يعرفها العلماء، ويجهلها من ليس منهم.

 

الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث(يخوف الله بهما عباده) ففيه بيان السبب الشرعي للكسوف والخسوف وهو سبب لا يمكن للبشر الإحاطة به إلا بالوحي، والمقصد من هذا التخويف؛ ليتوبوا ويقلعوا عن الذنوب والمعاصي  التي أوجبت سخط الله وغضبه، وينيبوا إليه، فليس مجرد التخويف عقوبة، ولكنه نذير سخط من الله قد انعقدت أسبابه وهي الذنوب والمعاصي، ويخشى بعده نزول العقوبات، وتحقق العذاب والابتلاءات.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَخْوِيفُ الْعِبَادِ ؛ كَمَا يَكُونُ تَخْوِيفُهُمْ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : كَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ وَالزَّلَازِلِ وَالْجَدْبِ وَالْأَمْطَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ عَذَابًا كَمَا عَذَّبَ اللَّهُ أُمَمًا بِالرِّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالطُّوفَانِ وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } وَقَدْ قَالَ : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } وَإِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِ يَنْزِلُ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ الشَّدِيدَةِ . وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّ لَهَا تَأْثِيرًا . مَا قَدْ عُلِمَ بِالْحِسِّ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذَا حَقٌّ ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ عَنَّا مَا يُرْسَلُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ كَمَا أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَكَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ هُبُوبِهَا : " { اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ } " وَقَالَ : " { إنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَإِنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَلَا تَسُبُّوهَا ؛ وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا } " فَأَخْبَرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ . وَأَمَرَ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَنَعُوذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا...)الخ.، وقال موضع آخر بعد ذكر حديث الكسوف: (وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا سَبَبٌ لِنُزُولِ عَذَابٍ بِالنَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِمَا يَخَافُونَهُ إذَا عَصَوْهُ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَإِنَّمَا يَخَافُ النَّاسُ مِمَّا يَضُرُّهُمْ فَلَوْلَا إمْكَانُ حُصُولِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُسُوفِ مَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا قَالَ تَعَالَى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُزِيلُ الْخَوْفَ ، أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْكُسُوفِ صَلَاةً طَوِيلَةً.

 

وقال ابن بطال رحمه الله:، يدل ذلك أن الآيات تحذير للعباد ، فينبغي عند نزولها مبادرة الصلاة والخشوع والإخلاص لله ، واستشعار التوبة والإقلاع عن المعاصي، ألا ترى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، عُرض عليه في مقامه الجنة والنار ؛ ليتوعد بالنار أهل المعاصي ، ويشوق بالجنة أهل الطاعة ، وأخبرهم أن الكسوف ليس كما زعم الجهال أنه من أجل موت ابنه إبراهيم ، وإنما هو تخويف وتحذير).

 

وقال العيني: (والكسوف آية من آيات الله تعالى يخوف الله به عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله تعالى التي فيها فوزهم...).

 

قال أهل التحقيق من أهل العلم: ولا تعارض بين السبب الشرعي والسبب الحسي الذي يدركه أهل الفلك وهو حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض في كسوف الشمس، وحيلولة الأرض بين القمر وبين الشمس في خسوف القمر؛ لأن سبب الكسوف الحسي ليس من أمور الغيب وقد يدركه البشر،  ولكن كل هذا إنما يكون بأمر الله عز وجل وبقضاء الله وقدره و الله عز وجل يقضي ذلك من أجل أن يخوف العباد، وهذا هو السبب الشرعي، وهو أمر ليس للبشر الإحاطة به، والذي يجب على المؤمن هو العناية بالسبب الشرعي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السبب الحسي مهماً لأشار إليه صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك جمع من المحققين كشيخ الإسلام وابن القيم وابن باز وابن عثيمين وغيرهم، قال: الشيخ ابن باز رحمه الله: (فكون الله جعل لها أسباباً كما ذكر الفلكيون يعرفون الخسوف بها لا يمنع من كونها تخويفا وتحذيرا من الله عز وجل، كما أن آياته المشاهدة من شمس وقمر ونجوم وحر وبرد كلها آيات فيها التخويف والتحذير من عصيان الله على هذه النعم، وأن يحذروه وأن يخافوه وأن يخشوه سبحانه، حتى يستقيموا على أمره، وحتى يدعوا ما حرم عليهم،) وقال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب: (وأمر صلى الله عليه وسلم عند حدوث ذلك بالصلاة والصدقة والاستغفار والتكبير والدعاء والعتق كل هذا تفادياً لغضب الله عز وجل الذي انعقدت أسبابه وجعل الله هذا الكسوف إنذاراً به والنبي عليه الصلاة والسلام قال (يخوف الله بهما عباده) فالكسوف والخسوف إنذار وليس عقوبة حتى ينقدح في أذهان بعض الناس الشك في هذا الأمر يقول إن الكسوف والخسوف يحدث دائماً ولا نجد بأساً، فيقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إنها عقوبة وغضب لا بد من وقوع العقوبة والغضب، ولكنه قال: إن الله يخوف بهما عباده لعلهم يحدثون له توبة فإذا قاموا وصلوا وفعلوا ما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى قد يرفع عنهم العقوبة بسبب هذه الأمور التي قد قاموا بها بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقول بعض الناس إن أسباب الكسوف والخسوف معلومة تعلم من قبل حدوثها فيشك فيما جاءت به السنة من كون الخسوف والكسوف تخويفاً من الله عز وجل للعباد والجواب على ذلك أنه لا شك في الأمر فإن الذي قدر هذه الأسباب هو الله عز وجل).

 

وقال مرة (لأن الله تعالى يخوف العباد بأمر سببه حسي ولا مانع كما أن قواصف الرعد والصواعق لها سبب حسي و مع ذلك يخوف الله به العباد كما قال تعالى(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشيء السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ) فالأمر الحسي لا ينافي الحكمة من إيجاده، ولكن كوننا نبسط القول في هذا للناس حتى يظنوا أنه أمر عادي لا يفزعون عند الكسوف ولا عند الخسوف هذا هو الذي ينبغي أن يتجنبه الإنسان وأن لا يتحدث به بين العامة لأن العامي يضيق قلبه أن يجمع بين السببين الشرعي والحسي).

 

الدليل الثاني: في قصة الكسوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجموع طرقها إشارة إلى بعض الذنوب والمعاصي التي قد تكون من أكبر أسباب سخط الله عز وجل، وحصول الكسوف والخسوف، وحلول العقوبات، ومنها:

 

أولاً: تفشي الشرك ونواقض الإسلام وضعف تحقيق التوحيد عند المسلمين، حيث أشار النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى أنه رأى عمرو بن لحي يجر قصبه في جهنم؛ لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم، حيث قال: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب" ،رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري عَنْ عُرْوَةَ عن عَائِشَةُ مرفوعاً، ومن طريق آخر عند مسلم عن هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مرفوعاً، (ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار...)،

 

ثانياً: انتشار الزنا وتفشي الفواحش والمنكرات الأخلاقية فإنها من موجبات غيرة الله عز وجل على حرماته ولا أحد أغير من الله، وقد أشار إلى ذلك النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته بعد صلاة الكسوف حين قال: "يا أمة محمد إن من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته"  متفق عليه من حديث عائشة، فإن غيرته تعالى وكراهيته ذلك أشد من غيرتكم وكراهيتكم على زنا عبدكم وأمتكم، وفي زمننا هذا تنامت الفواحش والزنا والموبقات، ونشرها في كثير من وسائل الإعلام التي ضل فيها كثير من المسلمين، وكل ذلك من أسباب العقوبات، وغضب رب الأرض والسموات، وغيرة الجبار على انتهاك تلك الحرمات، والله المستعان، قال الزرقاني: (وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذا بقوله فاذكروا الله الخ من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء وخص منه الزنى لأنه أعظمها في ذلك،  وقيل لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة...)(2) وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (وتأملوا أيها الأخوة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته» ليتبين لكم أن الزنا من أكبر أسباب عقاب الله، وغضب الله الذي ينذر الله العباد منه في هذا الكسوف والخسوف، وإننا في هذا العصر أيها المسلمون كما نشاهد الكسوفات كثيرة، والخسوفات كثيرة، وما ذاك إلا من أجل كثرة الذنوب، ولاسيما الزنا والدعارة وأسبابهما، من وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، تلك الوسائل التي ضل فيها كثير من الناس، والتي خدعنا بها أعدائنا؛ لأنهم يعلمون أن الأمة الإسلامية إذا لم يكن لها هم إلا بطنها وفرجها فإنها تضيع وتبقى هائمة على وجهها، لا يخاف منها أحد، لكن لو أن الأمة الإسلامية أخذت بتعاليم الدين وأخذت بجدية الدين، وأخذت بالعمل المثمر النافع لهابها أعدائها...)(3)، وقال رحمه الله عن بعض أهل الشهوات: و(هم أذكياء عندهم دراسة، درسوا علم النفس، ودرسوا علم الأخلاق، يعرفون ما لا تعرفون من هذه الأمور، إنهم يشعلون الشرر فتكون سعيراً، ولكن مع الأسف أن بعضنا عنده من الغباوة، وعنده من الجهل، وعنده من ضعف الإيمان، وعنده ضعف في الشخصية مما جعله ذنباً لهؤلاء المستعمرين، وهم لم يستعمروا بلادنا استعماراً بالسلاح، ولكن استعمروا القلوب، وهذه من الأمور   أعني تولي مثل هؤلاء   من الأمور التي يعاقب عليها والتي ربما تكون من أسباب هذا الخسوف الكلي العظيم إنذاراً من الله عز وجل أن نستمر في معصيته وأن نغفل)(4).

 

ثالثاً: انتشار الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق فقد أشار النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حين أخبر في خطبته أنه رأى في النار المرأة التي كانت حبست الهرة لم تتركها تأكل من خشاش الأرض، قال: (وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا لَا أَطْعَمَتْهَا وَلَا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ من خَشَاشِ الْأَرْضِ) رواه البخاري من حديث أسماء، ورواه مسلم من حديث جابر،  فإذا كان الله عز وجل قد عذبها بسبب حيوان (هرة) فكيف بمن يظلم الآدميين ويعتدي عليهم أو يحبسهم ويمنعهم حقوقهم، لا شك أن هذا أشد خطورة؛ لأن بني آدم مكرم عند الله جل وعلا فكيف إذا كان المعتدى عليه مسلماً! والله المستعان.

 

رابعاً: الاعتداء على حقوق الآخرين وأموالهم بالسرقة والغصب والنهب وجحدها وغير ذلك، وقد أشار إلى ذلك النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر في خطبته أنه رأى سارق الحاج بمحجنه يجر قصبه في النار رواه مسلم من حديث جابر.

 

خامساً: تسلط النساء على أزواجهن، وكفرانهن لمعروف وحقوق الزوج، وإلحافهن في المسألة، وإفشاء أسرار الزوج، إضافة إلى تفشي منكرات النساء المتعددة في الحياة التي لا تكاد تنتهي، وقد نأخذ هذا من إشارة النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى النار في صلاة الكسوف، وأن أكثر أهلها النساء، وذلك لكفرانهن العشير والإحسان، فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته، (وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ بِكُفْرِ الْعَشِيرِ وَبِكُفْرِ الْإِحْسَانِ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) رواه البخاري ومسلم من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس مرفوعا.

 

الدليل الثالث: ومما يدل على أن المعاصي من أسباب الخسوف والكسوف ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا يكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم»، وفي حديث آخر عند البخاري: «هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره». وفي حديث آخر: «فافزعوا إلى الصلاة»، وفي حديث آخر: «فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا». وعن أسماء بنت أبي بكر   رضي الله عنهما   قالت: لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس، فهذه سبعة أشياء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها عند الكسوف وكلها ثابتة وهي: الصلاة، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والذكر، والصدقة، والعتق، ولو نظرنا إلى الاستغفار وحده، لعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يرشدنا إلى التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي جلبت هذا التخويف الإلهي، ومعلوم لدى الجميع أن الاستغفار مشروع في كل حين، ولكن في التأكيد عليه هنا وفي هذا الوقت دلالة واضحة وظاهرة على أن ذنوب العباد هي التي جلبت هذا التخويف، وأما قول ابن القيم في مفتاح دار السعادة: "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عنده بما أمر به من العتاقة والصلاة والدعاء والصدقة كأمره بالصلوات عند الفجر والغروب والزوال". فليس فيه نفي العلاقة بينهما، ولم يكن ذلك مقصده كما فهم بعضهم، وإنما قصد إثبات أن لهما سبباً حسياً كما أن لهما سبباً شرعياً، وأنه لاتعارض بينهما، وإنما جاء كلامه في معرض الرد على الذين ينكرون السبب الحسي، وتتمة كلامه: (مع تضمن ذلك دفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبحانه سببا له فشرع النبي صلى الله عليه و سلم للأمة عند انعقاد هذا السبب ما هو أنفع لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأن الكسوف وأسبابه) أي الحسية، وما قاله حق، لكن الذي يثبته ابن القيم وغيره من العلماء أن هذه الأمور السبعة وغيرها مما يستدفع بها البلاء، والعقوبات والابتلاءات العامة إنما تقع بسبب ما كسبت أيدي الناس من الذنوب والمعاصي بنص القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن القرآن قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } فاطر : 45 ]،

 

وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [41]} قال ابن القيم في الجواب الكافي: والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى: (ليذيقهم بعض الذي عملوا) فهذا حالنا وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة، ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل، ويمحق بركتها... ولا ريب أن العقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقيت آثارها سارية في الأرض ... فهذه الآثار في الأرض من آثار العقوبات كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم فتناسب كلمة الله وحكمه الكوني أولا وآخراً وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية والأخف للأخف...)، وأما من السنة فكثير ومن أقطعها ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ). قال ابن باز رحمه الله: (وكل ما يحدث في الوجود من الزلازل وغيرها مما يضر العباد ويسبب لهم أنواعا من الأذى, كله بأسباب الشرك والمعاصي).

 

الدليل الرابع: ومن الأدلة كذلك  حديث ابن عمرو في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف : (فجعل ينفخ في آخر سجوده من الركعة الثانية ويبكي ويقول لم تعدني بهذا وأنا فيهم لم تعدني بهذا وأنا فيهم ونحن نستغفرك) رواه النسائي في السنن الكبرى، وصححه ابن خزيمة، وفي رواية عند أحمد: (وَجَعَلَ يَنْفُخُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْكِي وَهُوَ سَاجِدٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَجَعَلَ يَقُولُ رَبِّ لِمَ تُعَذِّبُهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ رَبِّ لِمَ تُعَذِّبُنَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ) يشير بأبي هو وأمي إلى قول الله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانِ نَبِيُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالاِسْتِغْفَارُ قَالَ فَذَهَبَ نَبِي اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَقِىَ الاِسْتِغْفَارُ)، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستغفره في سجوده في صلاة الكسوف حتى لا يعذب أمته بذنوبهم التي أوجبت غضبه.

 

وبعد هذه الأدلة الواضحة، فلا يجوز بحال رد هذه النصوص والتشكيك بفهوم أهل الشأن من علماء الشريعة بمجرد دراسات نظرية بحتة تحتمل الغلط كما حال فعل البشر، فأهل الحساب قد يخطئون في حسابهم فلا يعول عليهم كما هو مقرر عند المحققين من أهل العلم، فلا يجوز لَيّ النصوص أو تأويلها، بحجة أنها مخالفة للحس أو النتائج النظرية التي قد يعتريها الخطأ، وإنما علينا اتهام عقولنا، حتى ندرك وجه الجمع بين النص الصحيح والعقل السليم، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية.

 

وبعد ذلك نلتفت إلى شبهتين يوردها بعضهم:
الشبهة الأولى: يعتقد بعض أهل الفلك أن الخسوف والكسوف من الأمور الطبيعية التي ليس لها سبب شرعي، ويحتجون بأنهم يعلمون بالخسوف قبل وقوعه بأشهر بل بسنوات، ويحددونه بالساعة والدقيقة ابتداء وتوسطاً وانتهاءً، ونوعه كلي أو جزئي أو حلقي، فلا حاجة للفزع والخوف...
وهؤلاء قد رد عليهم جمع من المحققين من أهل العلم، ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال: (وهؤلاء طبع الله على قلوبهم والعياذ بالله فلم يتفطنوا للوحي، ولم يتفطنوا أن الذي قدر هذا السبب هو الله عز وجل، من يستطيع أن يجعل الأرض تحول بين الشمس والقمر؟! من يستطيع في كسوف الشمس أن يجعل القمر يحول بين الشمس والأرض؟! من يستطيع هذا إلا الله عز وجل؟! فإذا قدره فإنما يقدره لحكمة، وهي تخويف العباد، والمؤمن العاقل يستطيع أن يجمع بين السبب الشرعي والسبب الكوني، وذلك أن الكسوف له سببان: السبب الأول: التخويف: تخويف العباد إذا كثرت الذنوب، ورانت المعاصي على القلوب، نسأل الله العافية...)(5).

 

وقال في موضع  آخر راداً على ذي شبهة: (وهذه الجملة فيما كتبتم أرجو أن يكون سببها عدم إحاطتكم علماً بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة من أن الله يخوف عباده بالكسوف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه خرج إليها فزعاً فصلاها على الوصف الذي لم يسبق له نظير، وأمر بالفزع إلى الصلاة، وغيرها من أسباب النجاة.

 

وتأمل ما تفيده كلمة «افزعوا» فإنها- والمثل لا يدل على المساواة من كل وجه- كما لو قيل لأهل البلد افزعوا إلى الملاجئ، أو إلى السلاح عند سماع صفارات الإنذار.
وهذا يدل على أنه لابد أن نشعر بالخوف حتى يتحقق الفزع؛ إذ لا يمكن فزع بدون خوف، وعلى هذا فتكون الدعوة إلى عدم الخوف عند الكسوف من المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إذ هي دعوة إلى خلاف ما دعا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه، فإن صدرت من جاهل بما جاء به الشرع في هذا الأمر، فإنه لا يسعه إذا علم إلا أن يرجع عن قوله الخاطىء، ويدعو لما يقتضيه الشرع، وإن صدرت من عالم بما جاء به الشرع كان الأمر خطيراً في حقه؛ لأنه يتضمن تكذيب ما جاء به الشرع. فعليه أن يتوب من ذلك توبة نصوحاً يمتلئ بها قلبه إيماناً بما جاء به الشرع، وتصديقاً وإذعاناً، وقبولاً، ويحقق ذلك بدعوته لما يقتضيه الكتاب والسنة في هذه الأمور وغيرها)(6).

 

الشبهة الثانية: «أن ظاهرة الكسوف ظاهرة طبيعية مثلها مثل الليل والنهار، فكما أن حدوث الليل والنهار لا علاقة لهما في الذنوب فكذلك الخسوف.

 

وقد رد الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على مثل هذه الشبهة فقال:  (إن الشرع والقدر لا يسعفان هذا الفهم، أما الشرع فظاهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع عند حدوث الليل والنهار ما صنعه عند حدوث الكسوف، ولا أمر أمته بذلك، ولو كان مثلهما واحداً للزم أحد أمرين: إما أن يصنع عند حدوث الليل والنهار ما صنعه عند الكسوف، أو أن لا يصنع شيئاً عند حدوث الكسوف كما لم يصنعه عند حدوث الليل والنهار، فلما لم يكن واحد من الأمرين علم أن مثلهما ليس واحداً؛ لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين.

 

وأما القدر: فإن الليل والنهار منتظمان لا يختلفان أبداً، فاليوم والليلة في أول يوم من برج الحمل مثلاً لا يختلفان، وكذلك هما في أول برج السرطان، والميزان والجدي، اليوم والليلة في أول كل يوم من هذه البروج وأوسطها، وآخرها لا يختلفان في عام عن العام الآخر. أما الكسوف فإنه يختلف في وقته، ومكثه، وحجمه، فقد يمضي عدة شهور ولم يحصل، وقد يحصل متقارباً، وقد يكون كلياً، وجزئياً، وقد تطول مدته، وقد تقصر).

 

وأخيراً فإنه يلزم من نفي العلاقة بينهما مفاسد كبيرة تخالف مقصد الشرع من تقدير الكسوف، وهو التخويف، فإن كان النافي يقر بأن الكسوف تخويف من الله كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فهو تخويف من ماذا؟ فإن قال: تخويف من العذاب والعقوبة، قلنا: وما سبب العقوبة والعذاب، فإن قال الذنوب والمعاصي: قلنا هذا اعتراف بأن الذنوب والمعاصي جالبة للكسوف والخسوف لكي يخوف بهما عباده فيتوبوا من تلك الذنوب.

 

وأيضاً: إن كان يقر بأن الشارع أمر بالاستغفار والتوبة والأوبة بعد الخسوف والكسوف، فهي توبة من ماذا؟ فإن قال هي توبة من الذنوب والمعاصي، قلنا: فلماذا أمر الشارع بها بعد الخسوف والكسوف وأكد عليها مع أنها مشروعة في كل وقت؟ أليس في هذا دلالة على الارتباط الوثيق بين الذنوب والمعاصي وبين الخسوف والكسوف.

 

وإنني أخشى أن يكون من مفاسد هذا النفي صرف الناس عن التوبة والأوبة والاستغفار، بحجة أنه لا علاقة بينهما، فلا ترى بعد من تائب أو مستغفر، وبعدها نقع في عدم الخوف والمبالاة بهما، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفزع منهما، والله المستعان.

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لصواب العقيدة، والقول، والعمل، وأن يعصمنا من الجهل والزلل، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

___________________

(1)    لست أقصد رجلاً بعينه،  وليس كل من تكلم في الموضوع من غير أهله فإنه من متبعي الشبهات، فقد يكون رام الحق فلم يصبه، وكم من مريد للحق لم يوفق له، وهو مأجور على اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد.
(2)    شرح الزرقاني 1/528
(3)    مجموع فتاوى ابن عثيمين (16/198)
(4)    مجموع فتاوى ابن عثيمين (16/202)
(5)    لقاءات الباب المفتوح، اللقاء 15 ص 5.
(6)    مجموع فتاوى ابن عثيمين (16/174).