أنت هنا

مفهوم الربانية ومقوماتهم في خطاب الوحي
28 ربيع الأول 1432
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

ورقة الشيخ أ.د ناصر بن سليمان العمر، المقدمة في الجلسة الأولى (الربانيون صفات وواجبات).

مقدمة:

الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبَصِّرون بنور الله تعالى أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أَحْيَوه، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.

ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عَقَدوا أَلوية البدَّعة، وأطلقوا عِنَان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله تعالى، وفي الله تعالى، وفي كتاب اللّه تعالى بغير علم. يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجُهَّال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.

هذا ما قاله الإمام أحمد في مطلع الرد على الزنادقة، وقد رواه بعض أهل العلم بنحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه[1]، وتلك بعض نعوت الربانيين، ومن نعت هذه الثلة المباركة أيضاً ما قاله علي رضي الله عنه في وصيته المشهورة لكُمَيل بن زياد: " أولئك هم الأقلُّون عَدداً الأعظمون قدراً، بهم يحفظ الله حججه حتى يودعها نُظراءهم ويزرعُها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقائق الإيمان فباشروا روح اليقين، واسْتَلانوا ما استوعره المترفون، واستأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلَّقةٌ بالملأ الأعلى، يا كميل أولئك أمناء الله في خلقه، وخلفاؤه في أرضه، وسُرُجُه[2] في بلاده، والدعاة إلى دينه، وا شوقاه إلى رؤيتهم، أستغفر الله لي ولك"[3].

قال أبو بكر الخطيب في الفقيه والمتفقه: "هذا حديث من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً"[4]، ونقله ابن القيم مُقراً، والأثر وإن كان في إسناده ضعف من حيث الصناعة، غير أنه اشتمل على معان جليلة، وبلغ من الشهرة بين أهل العلم مكاناً، حتى قال ابن عبدالبر في الجامع: "هو حديث مشهورٌ عند أهل العلم يَستغني عن الإسناد لشهرته عندهم"[5]، وقد اعتنى بشرحه شرحاً مطولاً الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة، وكذلك الحافظ ابن رجب في كشف الكربة في وصف أهل الغربة.

قال ابن القيم: "العالم الربانيُّ هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهدٍ، وقد دخل في الوصف له بأنه رباني، وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها"[6].

 

 

اختلف أهل اللُّغة حول الأصل الاشتقاقيّ للرّبّانيّة، ابتداءً من ظنِّ بعضهم أنّ الكلمة ليست عربيّةً أصلاً، "قال أبو عبيد: وأحسب الكلمةَ ليست بعربية إنما هي عبْرانية أو سُريانية، وذلك أنَّ أبا عبيدة زعم أنَّ العرب لا تعرفُ الرّبانّيين، قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاءُ وأهل العلم، وكذلك قال شمر"[7]، وهو بعيد.

وأكثر آراء اللغويين في أصل الرّبّانية تذهب إلى أنه مأخوذ من الرّبُّ بمعنى الخالق الرازق المدبر أو من الرب بمعنى الإصلاح وبين الأصلين صلة وثيقة، قال أبو جعفر الطبريّ: "وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيِّين" أنهم جمع"ربَّانيٌّ"، وأنّ "الربَّانيّ" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربُّها"، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:

           وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي    وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ

يعني بقوله:"ربتني" ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.

يقال منه:"رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه". فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل: "هو ربّان"، كما يقال: "هو نعسان" من قولهم: "نعَس يَنعُس""[8].

وقال الخطيب البغداديُّ: "بلغني عن أبي بكر بن الأنباري، عن النحويين، أن الربانيين، منسوبون إلى الرب، وأن الألف والنون زيدتا للمبالغة في النسب، كما تقول: لحيانيٌّ جمانيٌّ، إذا كان عظيم اللحية والجمة"[9].

"قال بعضهم: وإنما قيل للعلماء ربانيون، لأنهم يَرُبُّون العلم، أي يقومون به؛ ومنه الحديث: (ألك نعمة تَرُبُّها)، ويُسمَّى ابن المرأة: ربيب؛ لأنه يقوم بأمره ويملك عليه تدبيره، قال شمَّر: ويُقال لرئيس الملاحين: رَبَّانيٌّ...، وقال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً في "الرّباني" إذا أرادوا تخصيصاً بعلم الرّب دون غيره من العلوم. قال: وهذا كما قالوا: رجل شعرانيٌّ، ولحيانيٌّ، ورقابانيٌّ، إذا خُصَّ بكثرة الشعر، وطول اللحية، وغلظ الرقبة، والرَّبي؛ منسوب إلى "الرّبّ" ، والرّباني، الموصوف بعلم الرّب"[10].

وقال الزّبيدي في تاج العروس: "والرَّبَّانِيّ: العَالِمُ المُعَلِّمُ الذي يَغْذُو النَّاسَ بصِغَارِ العُلُومِ قبلَ كِبَارِهَا، ... والرَّبَّانِيُّ : العَالِمُ الرَّاسِخُ في العِلْمِ والدَّينِ ، أَو العَالِي الدَّرَجَةِ في العِلْمِ ، وقيلَ : الرَّبَّانِيُّ : (المُتَأَلِّهُ العَارِفُ باللَّهِ تَعَالَى)[11].

 

 

جمع الإمام ابن القيم ما قيل في معنى اللفظ وأصل اشتقاقه مستبصراً بأقوال أهل اللغة وعلى رأسهم أئمة السلف فقال: "العالم الرباني قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المُعلم، أخذه من التَّربية، أي يربي الناس بالعلم، يربيهم به كما يربى الطِّفلَ أبوه.

وقال سعيد بن جبير: هو الفقيه العليم الحكيم.

قال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً في الرباني إذا أرادوا تخصيصاً بعلم الرب تبارك وتعالى، كما قالوا شعراني ولحياني. ومعنى قول سيبويه رحمه الله: أن هذا العالم لما نسب إلى علم الرَّب تعالى الذي بعث به رسوله، وتخصص به، نسب إليه دون سائر من عَلِم علماً، قال الواحدي: فالرباني على قوله منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بعلم الرب؛ أي يعلم الشريعة وصفات الرب تبارك وتعالى.

وقال المبرد: الرباني الذي يربُّ العلم ويَربُّ الناسَ به أي يعلمهم ويصلحهم، وعلى قوله فالرباني من رب يرب رباً؛ أي يربيه فهو منسوب إلى التربية، ويربي علمه ليكمل ويتم بقيامه عليه وتعاهده إياه كما يربي صاحب المال ماله، ويربي الناس به كما يربي الأطفال أولياؤهم، وليس هذا من قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، فالربيون هنا الجماعات بإجماع المفسرين، قيل إنه من الربة بكسر الراء وهي الجماعة، قال الجوهري الربي واحد الربيين، وهم الألوف من الناس، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [آل عمران: 146]، ولا يوصف العالم بكونه ربانيا حتى يكون عاملاً بعمله معلماً له"[12].

وقال في موضع آخر: "معنى الرباني في اللغة الرفيع الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون)، وقوله: (كونوا ربانيين)، قال ابن عباس: حكماء فقهاء، وقال أبو رزين: فقهاء علماء.

وقال أبو عمر الزاهد: سالت ثعلباً عن هذا الحرف؛ وهو الرباني فقال: سألت ابن الأعرابي فقال: إذا كان الرجل عالماً عاملاً معلماً قيل له هذا رباني، فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له رباني.

قال ابن الأنباري عن النحويين: إن الربانيين منسوبون إلى الرب وإن الألف والنون زيدتا للمبالغة في النسب، كما تقول لحياني وجبهاني إذا كان عظيم اللحية والجبهة"[13].

ومما سبق يظهر أن أصل الاشتقاق واحد سواء قيل هو من الرب جلا وعز، أو من التربية أو من الرب بمعنى الإصلاح والتعاهد، فأصل المعنى اللغوي في جميع الأحوال يعود إلى الإصلاح والقيام بالشأن، وقد أشار ابن فارس في معجم المقاييس إلى أن الراء والباء المضعفة بابها كله يعود قياساً واحداً عند من أنعم النظر[14].

وأما الإطلاقات أو الاستعمالات اللغوية فكثيرة، تدخل في المفهوم الشرعي منها جملة سبق ذكرها عن السلف وأهل اللغة.

 

 

تبين أن دلالة أصل الاشتقاق اللغوي واحدة، وأما الإطلاقات اللغوية أو المعاني التي استخدمت فيها الكلمة بحسب سياقاتها الواردة في القرآن فهي:

1-                   العالم.

2-                   الحكيم.

3-                   الفقيه.

4-                   العامل بعلمه.

5-                   المصلح لغيره.

6-                   المعلم للناس.

7-                   المربي.

وبناء على ما سبق فيمكن أن نجمل مفهوم الربانية في ثلاثة مقومات أساسية:

1-                   العلم الشرعي الراسخ.

2-                   العمل به.

3-                   دعوة الناس إليه وتربيتهم عليه بالحكمة كالبدء بصغار العلم قبل كباره.

والرباني من اجتمعت فيه هذه المقومات.

فمن كان عاملاً داعياً لكنه ضعيف البصيرة فليس برباني.

ومن كان عالماً عاملاً لكنه منقطع عن الناس، غير معلم لهم فليس برباني، بل الرباني أعلى مرتبة منه، كما قال مجاهد: هم فوق الأحبار[15]. قلت ولعل هذه من نكات تقديمهم في قوله تعالى: (لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار) [المائدة: 63]، والعطف يدل على مغايرة أو اختصاص بأوصاف للربانيين غير العلم.

ولابد من اجتماع هذه الثلاثة، ليكون الحبر ربانياً، وبحسب تقصيره فيها يكون قصوره.

وقد أشار ابن جرير إلى بعض ذلك بقوله: الربانيون جمع رباني، وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم، والأحبار هم العلماء[16].

وقد مر قول أبي عمر الزاهد: سالت ثعلباً عن هذا الحرف؛ وهو الرَّباني فقال: سألت ابن الأعرابي فقال: "إذا كان الرجل عالماً عاملاً مُعلماً قيل له هذا ربَّانيّ، فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له ربَّانيّ".

ثم الربَّانيون مراتب، فمن حقق العلم الواجب والعمل الواجب والدعوة الواجبة عليه، بلغ المرتبة الدنيا، أما المرتبة العليا فهي مرتبة النبيين وأعلاها الوسيلة وهي المذكورة في حديث صحيح مسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِىَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِىَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ»[17].

 

 

ورد مفهوم الرّبانية، في القرآن الكريم، مُتضمَّناً في صيغة جمع المذكر السالم المرفوع: (َالرَّبَّانِيُّونَ)، في موضعين من سورة المائدة: الآيتان (44) و(63)، وفي صيغة جمع المذكر السالم المنصوب: (رَبَّانِيِّينَ) في موضعٍ واحد، هو الآية (79) من سورة آل عمران.

فالرّبانيّون في هذه المواضع الثّلاثة، هم الّذين يتّصفون بوصف الرّبّانيّة، الّذي سبق بيان أصله وإطلاقاته.

وبالإضافة إلى هذه المواضع الثّلاثة، ثمّة موضع رابع، هو محلُّ اختلاف بين المفسّرين، من حيث علاقته بالرُّبوبية، وهو الآية (146) من سورة آل عمران، التي وردت فيها كلمة (رِبِّيُّونَ)! يقول ابن جرير الطبري:  "وأما (الرِّبِّيُّون)، فإنَّ أهل العربية اختلفوا في معناه، فقال بعض نحويي البصرة: هم الذين يعبدون الرَّبَّ، واحدهم"رِبِّيٌّ"، وقال بعض نحويِّي الكوفة: لو كانوا منسوبين إلى عبادة الربّ لكانوا (رَبِّيون) بفتح الراء، ولكنَّه: العلماء، والألوف، و(الرِّبِّيُّون) عندنا، الجماعات الكثيرة، واحدهم"رِبِّي"، وهم الجماعة"، وينقل ابن جرير بسنده عن مفسري السّلف ما يدلُّ على هذا الخلاف[18].

وسبق كذلك ما حرره ابن القيم وقرره من عدم دخول هذه الأخيرة أعني (ربيون) في الموضوع، ونقل إجماع المفسرين عليه، ولعل في الإجماع نظر، ولكنه قول الجماهير والقول الآخر لا تساعده النسبة.

 

 

قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].

فوصف الله الربانيين والأحبار بأنهم (اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ)، قال ابن كثير: "أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به"[19]، وقال ابن جرير: "معناه: يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والأحبار، يعني العلماء بما استودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة"[20].

والذي يظهر أن من صفتهم العلم الراسخ الواسع، والمبالغة في النسبة للرب (رباني) أو التربية بالعلم أو الإصلاح تستلزم ذلك.

ولهذا إنما أطلقها السلف على من تبحروا في العلوم مع الشرائط الأخرى، ومن ذلك، لما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أبو هريرة رضي الله عنه اليوم مات رباني هذه الأمة، ولعل الله عز وجل أن يجعل في بن عباس مثله خلفاً[21].

وقال محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف بابن الحنفية يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة[22].

وعن مرة قال كان علقمة من الربانيين[23].

ومرة هو الهمداني وعلقمة هو "فَقِيْهُ الكُوْفَةِ، وَعَالِمُهَا، وَمُقْرِئُهَا، الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، المُجْتَهِدُ الكَبِيْرُ، أَبُو شِبْلٍ عَلْقَمَةُ بنُ قَيْسِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَالِكِ بنِ عَلْقَمَةَ بنِ سَلاَمَانَ بنِ كَهْلٍ...النَّخَعِيُّ، الكُوْفِيُّ، الفَقِيْهُ، عَمُّ الأَسْوَدِ بنِ يَزِيْدَ، وَأَخِيْهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَالُ فَقِيْهِ العِرَاقِ إِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ.

وُلِدَ: فِي أَيَّامِ الرِّسَالَة المُحَمَّدِيَّةِ، وَعِدَادُهُ فِي المُخَضْرَمِيْنَ، وَهَاجَرَ فِي طَلَبِ العِلْمِ وَالجِهَادِ، وَنَزَلَ الكُوْفَةَ، وَلاَزَمَ ابْنَ مَسْعُوْدٍ حَتَّى رَأَسَ فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ، وَتَفَقَّهَ بِهِ العُلَمَاءُ، وَبَعُدَ صِيتُهُ"[24].

 

 

وهذا الشرط معلوم بنصوص كثيرة ذمت المقصرين في هذا الباب، كقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44]، وضرب الله أمثال السوء للذين لا يعملون بعلمهم فكان العلم وبالاً عليهم، كما قال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 175-177]، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة: 5]، ولو كان الربانيون كذلك لكانوا أهلاً للذم لا المدح، والله أشاد بهم في مواضع، فدل أنهم حققوا شرط العمل.

وفي ذكر الربانيين في القرآن ما يدل على اشتراط ذلك فيهم، كقوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]، فمن معناها: كونوا عباداً لله عز وجل، نص على ذلك مقاتل بن سليمان في تفسيره[25]، ونحوه مروي عن سعيد بن جبير، قال: أتقياء[26]، والتقوى لا تكون إلا بعمل وترك، فهي فعل المأمور وترك المحظور.

وقد مر أن من معاني لفظ الرباني: العامل بعلمه، وقد أثر هذا المعنى عن السلف.

 

 

قال ابن سعدي رحمه الله على قول الله تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) [المائدة: 44]، "أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه، وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه.

وهم شهداء عليه، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه، وفيما اشتبه على الناس منه، فالله تعالى قد حمل أهل العلم، ما لم يحمله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا.

وأن لا يقتدوا بالجهال، بالإخلاد إلى البطالة والكسل، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة، من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا.

وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم"[27].

ومن المتقرر أن حفظ شرع الله لا يكون بمجرد جمعه في الفؤاد مع العمل به، بل لابد من نقله للأجيال وتربيتها عليه، والله أخبر بأنهم استحفظوا، ولا يكون حفظهم له بغير تبليغه وتربية الناس عليه.

ومن أدلة شرط العلم في الرباني قوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]، ونص على أن معنى ربانيين في الآية علماء جمع من السلف ذكر منهم ابن جرير: أبي رزين رضي الله عنه، والحسن البصري، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وغيرهم[28].

 

 

هم ثلاثة أصناف: عالم رباني، وعالم شهواني، وحامل علم غير بصير فيه.

قال ابن رجب: "في أثر كميل المتقدم قسم أمير المؤمنين -رضي الله عنه- حملة العلم إلى ثلاثة أقسام:

قسم هم أهل الشبهات، وهم من لا بصيرة له من حملة العلم، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، فتأخذه الشبهة فيقع في الحيرة والشكوك، ويخرج من ذلك إلى البدع والضلالات.

وقسم هم أهل الشهوات، وحظهم نوعان:

أحدهما: من يطلب الدنيا بنفس العلم، فيجعل العلم آلة لكسب الدنيا.

والثاني: من همه جمع الدنيا واكتنازها وادخارها، وكل أولئك ليسوا من رعاة الدين وإنما هم كالأنعام، ولهذا شبه الله تعالى من حُمَّل التوراة ثم لم يحملها بالحمار الذي يحمل أسفاراً، وشبه عالم السوء الذي انسلخ من آيات الله وأخلد إلى الأرض واتبع هواه بالكلب، والكلب والحمار أخس الأنعام وأضل سبيلاً.

والقسم الثالث من حملة العلم: هم أهله وحملته ورعاته والقائمون بحجج الله وبيناته، وذكر أنهم الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، إشارة إلى قلة هذا القسم وغربته من حملة أهل العلم"[29].

وهؤلاء هم العلماء الربانيون كما ذكر ابن القيم رحمه الله.

 

 

إذا تحققت المقومات الأساسية الثلاثة المذكورة، فلا بد أن تظهر لها مقتضيات، وهذه المقتضيات من لوازم قيام تلك المقومات في المرء، بمعنى أنه إن كان ربانياً فلابد من ظهور تلك الصفات عليه ولابد إلاّ إن قام مانع.

ولا يحسن الاسترسال في هذا البحث، لأني أحسب أن أكثره قد يستوفى في الورقة المختصة بصفات الرباني، لكني أقتصر على أحد أهم لوازم المقومات المذكورة المشار إليه في خطاب الوحي، ألا وهو الإيجابية والتفاعل والمبادرة إلى قيادة الأمة وتوجيهها.

فالله تعالى وصف الربانيين بصفات تلمس في جميعها هذا المعنى:

-وصفهم بالحكم بين الناس: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ.. } [المائدة:44]، فمن وظيفة الرباني الدخول في قضايا الناس وشؤونهم الخلافية لا النأي عنها طلباً للسلامة.

- ووصفهم بما يفيد عنايتهم بحجز المجتمع عن مخالفة الشريعة فقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].

- ووصفهم بالتعليم والدراسة: {..َلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].

- ووصفهم بما يشعر قيادتهم قضايا الأمة الكبرى كالجهاد، وتأمل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، وليس التعويل في الاستدلال على هذا المعنى بذكر الربيون هنا، وإن كان بعض أهل العلم قد ذكر أنهم الربانيون وهو مرجوح كما سبق، وحسبنا الاستدلال على المقصود بقوله في الآية: (وكأين من نبي) فالأنبياء هم سادة الربانيين، ومن أوائل الداخلين في زمرتهم.

فهذه الفاعلية والمبادرة إلى قيادة الأمة وتوجيهها لا زمة لوصف الربانية، لا يكون الرباني أبداً منكفئاً على نفسه، بطيئاً في التفاعل مع قضايا الأمة، بل يكون قائداً وموجهاً، وصاحب الرأي الرشيد والكلمة السديدة، ولا يلزم أن يكون معصوماً، ولكن له حضور ظاهر مسدد في غالب أحواله.

والمتأمل في بعض ربانيي هذه الأمة يجد ذلك جلياً، تأمل حال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقد وصفه أبو هريرة وابن الحنيفة بالربانية، تجد الرسوخ في العلم، وتجد العمل، وتجد التعليم والدعوة، وتجد المبادرة، وتولى زمام الأمور الكبار، في الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، كان حاضراً وكان له رأي، ولما نجم شر الخوارج بعث إليهم، وكانت له مشاركته في الفتوح والغزوات، أما في العلم والتعليم فله القدح المعلى.

وكل هذه المبادرات ظاهرة في الجيل الأول لكثرة الربانيين فيه.

وكذلك تجد المبادرة ظاهرة في من بعدهم، وتأمل حال شيخ الإسلام في القرن الثامن من الهجرة، لم يكن صاحب منصب رسمي، لكنه ملأ الساحة وارتفع صوته، وكان له أثره في إنكار المنكرات، ومخاطبة الملوك برسائله وربما سافر إليهم بنفسه كما فعل مع بعض التتر، وكانت له في ذلك مواقف قوية مشهورة تخالف توجه وفد العلماء الرسمي، وكان له أكبر الأثر في تحريك الجيوش لحرب التتار، وتحريض دولة المماليك والقائد المظفر قطز، وكانت له في ذلك مبادرات عجيبة، ولو وقعت مثل حادثة التتار اليوم لتلجلج كثيرون وما دروا هل يجوز خروجهم على التتار مظهري الإسلام! أو لا يجوز، وهل عدم الجزم بالقدرة يسوغ إن كان أصل الخروج جائزاً أم لا! وهل القتال قتال فتنة أم جهاد مستقيم.. إلخ.

وتلك المبادرة هي نفسها التي صنعت مجد البلاد السعودية على يد العالم الرباني المجدد محمد بن عبدالوهاب، ولو قيد حركته في المجتمع ومساندته لابن سعود بما يقيد به كثير من منتسبي السلفية أنفسهم تارة بمخاوف متوهمة، أو لعدم تحرير مسائل، أو تجنباً للوصف بالتكفير وإشانة السمعة، لقضى عمره في العراق ولم يسمع به.

 

 

إن المبادرة من أهم صفات القائد، وهي مما تحتاجه اليوم ساحتنا، ولتكون إيجابية فلا بد من صنع القادة الربانيين.

إن من أحوج ما نكون إليه، صنع قادة ربانيين، قد رسخت في العلم أقدامهم بحيث لا يتلجلجون في تصور المسائل، وموازنة المصالح والمفاسد، يعملون بعلمهم، ويجتهدون في العمل، ويدعون إليه، ويربون الناس عليه، يحولون آراءهم إلى مشاريع عملية، تثبت وجودها في المجتمعات المسلمة، وتثمر فيها الثمار اليانعة.

وحري بأهل السنة وأتباع السلف أن يقتدوا بسلفهم، وأن يكونوا ربانيين، نسأل الله أن يمن علينا وعليكم، وأن يصلح أحوال المسلمين، وأن يهيئ لهم ربانيين، يبصرون بنور الله، ويهدون بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.



[1] كما في البدع لابن وضاح، ص32، ولم يثبت.
[2] جمع سراج، وهو معروف.

[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/79-80، والخطيب في الفقيه والمتفقه 1/182 - 183 (176) ، والمزي في تهذيب الكمال 24/220.

[4] ص184.
[5] جامع بيان العلم وفضله 2/226.
[6] مفتاح دار السعادة 1/124.
[7] تهذيب اللغة: 5 /122.
[8] تفسير الطبري: 6 /543.
[9] الفقيه والمتفقه: 1 /202.
[10] تهذيب اللغة: 5 /122.
[11] تاج العروس من جواهر القاموس: 2 /461.

[12] مفتاح دار السعادة 1/126، وفي حكاية الإجماع بحث يأتي.

[13] السابق 1/124.
[14] انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/382.
[15] سنن سعيد بن منصور (767).
[16] تفسير ابن جرير 8/451.
[17] صحيح مسلم (875).
[18] تفسير الطبري: 7 /265.
[19] تفسير القرآن العظيم 3/117.
[20] تفسير ابن جرير 8/454.
[21] الآحاد والمثاني (393).
[22] مستدرك الحاكم (6284).
[23] مصنف ابن أبي شيبة 13/410 (36040).
[24] سير أعلام النبلاء 4/54.
[25] ينظر 1/178.
[26] ينظر تفسير ابن جرير 5/529.
[27] تيسير الكريم الرحمن ص232.
[28] ينظر تفسير الطبري 5/526-529.
[29] كشف الكربة ص15.