أنت هنا

التحاكم إلى الكفار في بلادهم والالتزام بقوانينهم وأنظمتهم
2 شعبان 1432
اللجنة العلمية

لقد جاءت شريعة الإسلام شاملة لكل شؤون الحياة العامة والخاصة فما من شعبة من شعب الحياة ولا ناحية من نواحيها إلا وقد تناولتها الشريعة وأوضحت لنا فيها الخير من الشر، والطاهر من الخبيث والصحيح من الفاسد بنصوص خاصة أو قواعد كلية وتلك حقائق لا يجادل فيها إلا مكابر قال سبحانه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38)، وقال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89)، وقال عز شأنه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: من الآية3)، فقوانين الشريعة الإسلامية ما ضاقت عن حاجة ولا وقفت عقبة في سبيل مصلحة أو عدالة بل وسعت مصالح الناس على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وألوانهم.
وقد ختم الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسالات السماوية وجعلها ناسخة لها وأتم بها نعمته على البشرية.

 

وامتازت هذه القوانين والنظم الإسلامية أيضاً بعصمتها من الزلل والنقص والانحراف فهي من وضع الخبير الذي علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وهو الخالق للبشر العالم بما يصلحهم أو يفسدهم وبما تستقيم به أمور حياتهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
وهذه الرسالة عالمية فالكفار مأمورون بالإيمان كما قال سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، وقد حرم الله عز وجل التحاكم إلى غير شريعته.
فقال سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة: من الآية48)، وقال سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية44)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية45)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: من الآية47)، وقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:60)، وقال عز وجل: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)، ولو لم يكن في القرآن زجر عن اتباع القوانين الوضعية واستبدال شريعة الإسلام بها إلا هذه الآية لكفت العاقل اللبيب فكيف والقرآن كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله وعدم تحكيم ما عداه إما تصريحاً وإما تلويحاً، وعلى ها فإن الاعتياض عن القانون السماوي الذي جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بالقانون الأرضي الإنساني الذي لا يخلو مهما توافقت عليه الآراء من غلط وخطأ أعظم أسباب المقت والحرمان وأكبر موجبات العقوبة والخذلان وتبديل لنعمة الله بالنقمة وللشكران بالكفران وشرع دين لم يأذن به الله واتباع لغير سبيل المؤمنين ومشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ولرسوله وعشوٌ عن ذكر الرحمن وإعراض عنه إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكتاب.

 

وقد أصدر مجمع الفقه الإسلام في دورته التاسعة من 1-6 ذي القعدة 1415هـ قراراً جاء فيه:
"إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية توصلاً لما هو جائز شرعاً" والأفراد كذلك فإن الشريعة الإسلامية راعت الضرورة وشرعت لها أحكاماً استثنائية تناسبها وفق الاتجاه العام في التيسير على الخلق ورفع الآصار والأغلال التي كانت على أصحاب الشرائع السابقة ومقصودها إقامة الحق ورفع الظلم وتكميل المصالح وتحصيلها وتقليل المفاسد وتعطيلها ورفع الحرج عن الخلق كما قال سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6)
وعليه فهذا التحاكم يعد نوعاً من التحكيم الفاسد الذي ينفذ لموافقة الحكم قواعد القانون الطبيعي ومبادئ العدالة، وقد جاء في بعض كتب التاريخ أنه كان إذا حدث نزاع بين مسلم وقبطي تقدم المتقاضون إلى مجلس مؤلف من قضاة يمثلون الفريقين المتنازعين وأفتى الشيخ محمد رشيد رضا في مسألة الحكم بالقوانين البريطانية في الهند بنحو هذا، وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في التحاكم إلى المحاكم الوضعية: "بقدر الإمكان لا يتحاكم إليها، أما إذا كان لا يمكن أن يستخلص حقه إلا عن طريقها فلا حرج عليه" كما أن في هذا دفعاً للظلم والمفسدة(27).

 

ولذا قال العز بن عبد السلام: "لو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد"(28).
فلجوء المسلم إلى تلك المحاكم للضرورة تحصيلاً لحقه أو دفعاً للظلم عنه دون اعتقاد حسن ذلك أو محبته أولى بالجواز؛ لما يترتب على تركه من الضرر البالغ والمفسدة الراجحة.
ومن الأنظمة والقوانين البشرية ما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية ولا يخالفها وفيه مصلحة تنظيم أمور الناس العامة وتحقيق مصالحهم المختلفة فالالتزام بمثل هذه الأنظمة جائز شرعاً لأنها من باب المصالح المرسلة وقواعد الشريعة العامة شاملة لها فلا يكون الالتزام بها متعارضاً مع شريعة الإسلام أو إعراضاً عنها سواء سميت أنظمة أو قوانين أو غير ذلك فالعبرة بحقائق الألفاظ ومعانيها لا بصورها ومبانيها(29).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) ينظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (63) بحث العمل القضائي خارج ديار الإسلام، محمد الألفي ص(53)، بتصرف.
(28) قواعد الأحكام (1/81).
(29) ينظر: -في التحاكم إلى الكفار في بلادهم – وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، مجموع بحوث مقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي ص (107-169-193-200-309-217)، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص(208)، والأحكام الشرعية ومنافاتها للقوانين الوضعية، عبد الله آل محمود ص(9 وما بعدها)، ومجموع فتاوى ابن باز، جمع محمد الشويعر (1/271) و(4/29)، بتصرف.