الحامدون
23 رمضان 1432
يحيى البوليني

حمد الله سبحانه وشكره صفة ملازمة للأنفس التي يقبل الله سبحانه شراءها , فلا يقبل الله النفس الساخطة المتبرمة التي لا يرضيها شيئ ولا تقنع بشيء مما أعطاها ربها سبحانه

فالحامدون هم الشاكرون لله سبحانه على أفضاله ونعمه الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه
إنها أنفس مطمئنة هادئة البال لا تلهث مع من يلهث ولا تتصارع مع من يتصارع , وذلك مع بقائها في دنيا الناس فلا تعتزلهم , ولكنها ترضى بقضاء الله وبحكمه , تنظر إلى ما أعطيت لا ما إلى فقدت , ترى نعمة الله في كل شيئ حولها ,  تستشعر مودته وتستمطر رحماته وتدعوه بكل ما تحب من خيري الدنيا والآخرة .

إنها أنفس تعي حقيقة الدنيا وتعي حقيقة وجودها فيها , تعلم أنها جاءت إلى الدنيا للاختبار فقط كما أخبرنا سبحانه بقوله " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ",  فغاية خلق الموت والحياة هي الاختبار , وعلى كل مختبَر أن ينهى أوراق اختباره ويسارع بإجاباته الصحيحة مستعدا لتقديم أوراقه في اللحظة التي يطلبها الله فيها والتي لا يعلمها العبد , لا يهتم كثيرا بالشواغل الحياتية - رغم تأثره بها ومعاناته منها  -  لكنه يحاول أن لا يستغرق فيها كي لا تكدر عليه منهجه في سيره ولكي لا تفسد عليه أجوبته على تلك الاختبارات .

إنها أنفس لا تنظر فقط إلى ما حرمت منه ولكنها أنفس تنظر إلى ما أعطيت , فآفة الحمد عند معظم الناس أنهم لا ينظرون إلا إلى ما حرموا منه فقط , يعطيهم الله كل شيئ ويحرمهم نعمة واحدة من نعمه , فتراهم لا يرون كل النعم ويظل كل منهم حزينا كسيرا متبرما متسخطا على قدر الله وصنعه لأنه حرم من نعمة واحدة .

إنها أنفس ترضى عن الله وعن صنعه وعن تدبيره وتسلم لله في أفعاله , شعارها " أحبه إلي ما فعلته لي " مع سعيهم في الجد والكفاح دون عجز أو إبطاء ويرضون في النهاية ويسعدون بما قضاه الله سبحانه فيهم لأنهم يعلمون أن الله سبحانه يقضي لهم بما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة .

فكلنا يطلب الزيادة في النعم , ولكن الله الخبير بعباده البصير بأحوالهم يعلم أن بعضا منا قد تؤذيه في دينه ودنياه تلك الزيادة  , فينزلها علينا بقدر معلوم ورزق مقسوم , فقال سبحانه " وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " , ولو كُشفت عنا حجب الأستار لأيقننا أن الخير كل الخير فيما صنعه الله لنا وفيما قدره فينا .

قد نحزن لفقد مصاب أو ضياع مال أو فشل في عمل أو ارتباط بشخص , ولكننا لا نرى إلا ما هو كائن أمامنا فقط ولم نر الأخرى التي حجبها الله , ولو رأيناها لأيقننا أن الله ما أراد بنا إلا الأفضل والأصلح لنا  ولأدركنا بعضا من حكمته سبحانه , وقد يراها بعضنا أمامه بعد وقت فيتأكد أن الله ما أراد به إلا الخير ولكن العبد دائما نظره قاصر كقصور كونه عبدا .

حزن موسى وغضب عندما رأي الخضر – عليهما السلام – يكسر لوحا من سفينة أصحابها مساكين , ثم سعد عندما علم أن هذا العيب سيتسبب في بقائها ملكا لهم لوجود ملك ظالم يأخذ كل سفينة سليمة غصبا .

وحزن أيضا وغضب عندما رآه يقتل غلاما صغيرا لم يبلغ الحلم , وأشفق على حزن والدي الطفل عليه , لكنه سعد عندما أخبره الخضر - بما علمه الله من علم خاص لم يعلمه لكثير من خلقه - أن هذا الطفل كان لأبوين مؤمنين ولكنه كان سينشأ كافرا عاتيا متمردا وسيتسبب في كفر والديه , فبموت الطفل نجا هو ووالداه من الكفر , وأبدلهما الله ولدا صالحا بعده .

وحزن موسى وسال الخضر عن سبب بنائهما لجدار قديم متهالك بلا اجر وهما منهكان من التعب , وذلك في قرية لا تفعل كلها الخير في ضيف , وسعد عندما علم أنهما يكافئان رجلا صالحا كان من أهل القرية ومات وترك ولدين صغيرين وكان تحت الجدار كنز لهما 

إن الأمور لا تجري كما نراها فقط , نحن نرى جزءً قليلا من الحقيقة , وما نعرفه اقل بكثير مما نجهله من حقائق الوجود حولنا ولا يسعنا إلا أن نرفع اكفنا بالحمد لله سبحانه على ما أعطانا وعلى ما حرمنا .

 فـ " الحمد لله رب العالمين " بها نستفتح الكتاب الكريم , وبها آخر دعاء المؤمنين في الجنة  " دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "

--