الزهد ..مفاهيم اساسية (4)
15 صفر 1433
د. خالد رُوشه

10ـ حاجتنا من الدنيا:
ينبغي أن يتعلم الإنسان أن ما يحتاجه من الدنيا هو رعاية بدنه بالطعام الذي يكفيه حتى يمارس حياته وعباداته, وكساءً له يستر عورته ويحفظ وقاره ومروءته, ومسكنًا يأوي إليه ويرعى فيه أهله وولده, وأن ذلك إذا عود نفسه التقلل منه والتواضع فيه والقناعة به, اندفعت الهموم عنه وفرغ  القلب وسهل عليه ذكر الآخرة واتجهت همته إلى الاستعداد لها.

 

وإذا تعدى الإنسان بالطعام والكساء والمسكن والمال قدر الحاجة المطلوبة كثرت الأشغال وكلما زادت زادت همومه وتشعبت غمومه في أودية الدنيا فتاه في إحداها وهلك.

* عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من جعل الهموم همًّا واحدًا همَّ المعاد, كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك )(1)

* عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي, وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ (2)

* وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده, عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) (3)

ولقد كان العلماء يأمرون تلاميذهم بالتقلل في الملبس والمطعم والتواضع في السمت والمعيشة.
فعن الثوري عن أبي قيس عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: من أراد الآخرة أضر بالدنيا, ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة, يا قوم فأضروا بالفاني للباقي (4)

وعن الأوزاعي عن بلال بن سعد أن أبا الدرداء قال: "أعوذ بالله من تفرقة القلب, قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يجعل لي في كل واد مال" (5)

وكان الحسن يعظ أصحابه يقول: والله لقد صحبنا أقوامًا كانوا يقولون: ليس لنا في الدنيا حاجة, ليس لها خلقنا, فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم, نعم والله حتى أهراقوا فيها دماءهم فأفلحوا ونجوا, هنيئًا لهم, لا يطوي أحدهم ثوبًا ولا يفترشه, ولا تلقاه إلا صائمًا ذليلاً متبائسًا خائفًا, إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت, لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا؟

وكان الثوري يعلم تلاميذه ذلك, فعن يحيى بن اليمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: العالم طبيب الدين, والدرهم داء الدين, فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره؟
وعن علي بن المديني قال: دخلت منزل أحمد بن حنبل فما في بيته إلا بما وصف به بيت سويد بن غفلة رضي الله عنه من زهده وتواضعه.
وكان بعض أهل العلم يغضب إذا عرف من تلاميذه كثرة أثوابهم أو بحثهم عن طعام خاص مميز أو أثاث فاخر, ومن الدعاة من كان لا يبقي في بيته إلا ثوبين: ثوبًا يلبسه وثوبًا يغسله, فإن اشترى ثوبًا جديدًا تصدق بثوب من ثوبيه القديمين, فانظر كم في بيوتنا من أثواب؟ وكم من الفقراء في حاجة إلى أثواب؟

11ـ الدنيا والمال:
ينبغي أن يتعلم المسلم ألا يتعلق قلبه بالمال أبدًا, ولا يرتبط به زيادة أو قلة, ويعرف أنه ما أحب المال وتعلق به إلا تألم وتعذب وأضر بدينه, وأن نبيه صلى الله عليه وسلم حذر من المال ومن جمعه وادخاره والتعلق به.

* فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا توكي فيوك الله عليك ) (6) وتوكي يعني تدخري.

* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة, إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض ) (7)

* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان لي مثل أُحد ذهبًا لسرني أن لا تمر عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لِدَيْن ) (8)

* وعن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لكل أمة فتنة, وفتنة أمتي المال ) (9)

* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغِنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غِنى النفس ) (10 )

* وعن فرات بن سليمان أن أبا الدرداء كان يقول: ويل لكل جماع فاغر فاه كأنه مجنون, يرى ما عند الناس ولا يرى ما عنده, لو يستطيع لوصل الليل بالنهار, ويْلُه من حساب غليظ وعذاب شديد.

* وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إنما أهلك من كان قبلكم هذا الدينار والدرهم وهما مهلكاكم.

12ـ اليأس مما في أيدي الناس دواء لمرض الدنيا:
عن سهل الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس, فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله, وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) (11)

ذلك لأن الحقيقة أنه ليس بأيدي الناس شيء مهما جمعوا ومنعوا, فكيف يغفل المرء عمن بيده كل شيء ويرجو من ليس بيده شيء؟!

وكان بعض المعلمين يعلم تلاميذه يقول لهم: اهربوا من خير الناس أكثر من أن تهربوا من شرهم, فإن خيرهم يصيبكم في قلوبكم وشرهم يصيبكم في أبدانكم, ولأن تصابوا في أبدانكم خير من أن تصابوا في قلوبكم, ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك.

ومن الناس من يستقل أخاه بسبب قلة ماله, ويستعظم الآخر بسبب كثرة ماله, قال بعض أهل العلم: "توقيرك للغني وتحقيرك للفقير نفاق..".

فمن الناس من تجده يحسن البشر والبشاشة والأدب في لقاء الأغنياء ويحرص على معرفتهم ومجالستهم, في ذات الوقت الذي تجده فيه يسيء الأدب مع الفقراء ويستحي من مجالستهم والحديث معهم, ويخجل أن يراه الناس بين الفقراء والمساكين.

* فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء, واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) (12)

* وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين, وأصحاب الجدِّ محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار ) (13) والجد هو الحظ والغنى.

13ـ نصائح للمربين:
* ينبغي ولا شك على المربي أن يكون أهلاً للأمر بترك الدنيا والزهد فيها, فلا يستقيم أبدًا أن يأمر معلم بترك الدنيا وهو غارق فيها ومداوم على التعلق بزينتها, فلا يمكن أن يأمرهم بالتقلل من الأثاث وبيته يعج بأثاث لا أهمية له من كل نوع وشكل, ولا يمكن أن يأمرهم بالتقلل في اللباس وهو حريص على اقتناء كل جديد وحديث من الثياب الفاخرة, ولا يمكن أن يأمرهم بالزهد في المال وهو حريص على جمعه, شحيح في إنفاقه.

* يحسن للمربي أن يعلم الناس تعليمًا تطبيقيًا لترك الدنيا, فيأمرهم بالإكثار من الصدقة على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل وللمساجد , وفي الدعوة في سبيل الله ولطلبة العلم الفقراء.

ويدعو كل مرب تلاميذه أن يجعلوا نصيب الصدقة كبيرًا, وربما دعاهم أن يجعلوا نصيب الصدقة يقارب أو يساوي نصيب إنفاقه على نفسه وولده, وإن تعذر عليه ذلك جعله نصف ما ينفق على نفسه, فإن تعذر جعله ربعه, وهكذا.. ويحرص على إخراجه خفية حيث لا يراه أحد - ما استطاع ذلك-.

* يُدَرِّس المربي آيات القرآن للناس فيما يخص الحديث عن الدنيا ووصفها, وتكون هذه الدراسة دراسة متأنية من كتب التفاسير وشرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال أهل العلم, ويطلب منهم عمل دراسات حولها.

* يحاول المربي استخدام القصص الواقعية في مسألة ترك الدنيا, كقصة قارون في سورة القصص, وقصة الرجلين في سورة الكهف, وكذلك القصص المعاصرة من الناس الذين جمعوا الدنيا ثم تركوها وذهبوا.

* من الأخطاء التربوية أن تكتفي بمتابعة أحوال المتعلم في علاقته بالدنيا من خلال حلقة العلم التي يحضرها, وإنما ينبغي على المعلم متابعة حاله في عمله وبيته وفي شأنه ليقوم بتوجيهه ونصحه.
* ينتبه المربي أن يراعي مسألة اقتناع الشخص بالفكرة قبل أن نطلب منه تطبيقها, فلقد رأينا كثيرًا من الناس يظل فترة في أول طريقه زاهدًا تاركًا للدنيا ثم ما يلبث أن يتغير حاله ويقبل عليها وينغمس فيها, وما ذلك إلا لكونه لم يتشرب المعاني ولم يحسن تعلمها وتطبيقها, وإنما كان يقلد غيره في ذلك أو إنه كان متأثرًا بجو معين من الحياة, فلما تغير لم يلبث أن تغير هو الآخر, أو غير ذلك.

 

14ـ هل يصلح الزهد مع النعمة؟

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن شغلته النعمة عن الله فالزهد فيها أفضل, وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكرًا لله فيها, فحاله أفضل, والزهد فيها - عندئذ - تجريد القلب عن التعلق بها والطمأنينة إليها" (14)
======================================

( 1)  رواه ابن ماجه وصححه الألباني, صحيح ابن ماجه برقم 3314 والمشكاة 263.
(2)  رواه مسلم 4/ زهد/ 2273/ ح3, والنسائي 6/ ح3615.
(3)  أخرجه الترمذي (4/ح 2346), وابن ماجه (2/ ح4141), وانظر: الصحيحة (2318). وسربه: يعني نفسه وقيل: قومه.
(4)  تهذيب سير أعلام النبلاء 1/85 .
(5)  تهذيب سير أعلام النبلاء 1/160.
(6)  أخرجه البخاري 3/ ح1433, فتح. ومسلم 2/ زكاة/ 714/ ح89.
(7)  أخرجه البخاري 6/ح 2887/ فتح.
(8)  رواه البخاري برقم 6801، باب تمني الخير.
(9)  أخرجه الترمذي 4/ ح2336, وأحمد, وصححه الألباني (انظر: الصحيحة 592).
(10)  متفق عليه, (والعرض هو المال) رواه البخاري 6081, باب الغنى غنى النفس, ورواه مسلم 1051, باب ليس الغني عن كثرة العرض.
(11) أخرجه ابن ماجه 2/ح4102, وصححه الألباني (انظر: الصحيحة 944).
(12)  متفق عليه, البخاري 29, باب كفران العشير, ومسلم 907, باب ما عرض على النبي .
(13)  البخاري 4900, كتاب النكاح, باب لا تأذن المرأة في بيتها لأحد إلا بإذنه, وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة (الرقاق), باب أكثر أهل الجنة الفقراء, رقم 2736.
(14)  مدارج السالكين 2/10.