سبتة .. شاهد على المهزلة
10 ربيع الثاني 1433
حميد بن خبيش

حين تطرح أوربا نفسها كجنة للمثل و القيم الإنسانية , وكراع للمواثيق الدولية التي تكفل حرية الإنسان وكرامته فإن الذهول يعترينا أمام حرصها الشديد على مصادمة حقائق الجغرافيا و معطيات التاريخ ,وتقديمها للمكاسب و المصالح على واجب الالتزام بما تعلنه . وهاهي ذي سبتة المغربية شاهد على مفارقة أقرب إلى الهزل , حين تزعم دولة أن لها كامل الحق في السيطرة على مدينة يشهد التاريخ أنها أقدم من الدولة نفسها !!

 

لقد أدرك ملوك النصارى أن اجتثاث الحكم الإسلامي في الأندلس لن يتأتى إلا من خلال الاستيلاء على حاضرة سبتة بالنظر لموقعها الاستراتيجي كمعبر حيوي صوب شبه الجزيرة الإيبيرية , مما سيحول دون وصول النجدة من المغرب ويدفع مسلمي الأندلس الى الاستسلام .وهو ما يؤكده الباحث المغربي الدكتور محمد المساري بقوله " إن الانقضاض على الشواطيء المغربية كان جزءا من تطور سياسي-عسكري  شهدته شبه الجزيرة الإيبيرية المتطلعة إلى تصفية الوجود العربي. وكان العمل الحاسم في هذاالتطور هو توحيد مملكتي قشتالة و أراغون , ومواصلة الضغط على بني الأحمر المتدهورين , و التقارب مع البرتغال و التصدي للمغرب بوصفه المصدر الحقيقي لكل الاحتمالات المضادة للمساعي المبذولة لتوحيد شبه الجزيرة و إقامة دولة مسيحية قوية " (1)  فتمكن البرتغاليون من احتلالها يوم الأربعاء 21 غشت 1415 م , وتمت السيطرة على باقي نقط العبور صوب الأندلس فتساقطت الحواضر الإسلامية بها كأوراق الخريف حتى انطفأت جذوة الحكم الإسلامي بسقوط غرناطة في الثاني من يناير عام 1492م .

 

وبعد ما يناهز قرنين وربع بسطت إسبانيا نفوذهاعلى مدينة سبتة بموجب الاتفاقية الإسبانية البرتغالية (1074هـ/ 1663م) التي اعترفت ضمنها البرتغال بهذا النفوذ و ألحقت المدينة رسميا بإسبانيا سنة 1750 م (2)

 

ونظرا للمكانة التي تتمتع بها مدينة سبتة في الوجدان المغربي و الإسلامي باعتبارها مركزا للإشعاع الثقافي و الديني  فإن إصرار المغاربة على استعادتها لم يفتر حتى خلال الفترة التي عانى فيها المغرب من التمزق الداخلي وتوالي الاضطرابات المفتعلة .لقد ضرب المغاربة أزيد من 116 حصارا دام أحدها 33سنة  خلال حكم السلطان المولى إسماعيل , بدءا من سنة 1694 , كما تعرضت القوات المحتلة لأكثر من 130هجوما ناهيك عن المواجهة الدائمة مع الزوايا و القبائل المجاورة التي كانت تندلع بشراسة كلما ضعفت السلطة المركزية خصوصا أواخر عهد المرينيين و الوطاسيين .وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الروح الجهادية العالية التي لم تنضب , وعلى رفض المغاربة الرضوخ للاحتلال الأجنبي خصوصا و أن احتلال سبتة كان أول هزيمة يتلقونها  على أرضهم !

 

ورغم أن القرن العشرين قد شهد تصفية كل مظاهر الاحتلال في العالم , ودافعت الشعوب المغلوبة عن حقها في تقرير مصيرها , إلا أن إسبانيا واصلت احتلالها للمدينة بالتواطؤ المعلن و الخفي , وانتهاج سبيل المراوغات الخسيسة التي تُمكنها من الاحتفاظ بسبتة,ومنها إدراج سبتة و مليلية المحتلة ضمن نطاق الاستقلال الذاتي الخاضع لمراقبة الكورتيس (3) و بالتالي تمتين ارتباط المدينتين بإسبانيا.  وانخرط الاتحاد الأوربي في لعبة دعم الاحتلال الإسباني من خلال الإسهام بالقروض و البرامج الاقتصادية في إنعاش المدينة وتغليب الروح الصليبية على صوت المنطق الدولي (4).

 

كانت سبتة قبل الاحتلال البرتغالي ثم الإسباني حاضرة من حواضر الفكر و الثقافة في العالم الإسلامي , و أنجبت جما غفيرا من العلماء و الأدباء الذين أسهموا في إعلاء الصرح الحضاري المغربي  كالقاضي عياض الذي طبقت شهرته الآفاق في مجال الدراسات الحديثية , واقترنت سبتة بذكره في المشرق حتى قيل :"  لولا عياض لما ذُُكر المغرب" , والرحالة العالم ابن رشيد السبتي صاحب المؤلف القيم " ملء العيبة" , و العالم الجغرافي الشريف الإدريسي , والشاعر المفلق مالك بن المرحل الذي خلد سبتة في رائعته :

سلام على سبتة المغرب   أخية مكة أو يثرب

أما الوضع الاقتصادي و العمراني فإن المجال يضيق بعرض الأمثلة عن الريادة التي بلغتها سبتة , ومضاهاتها لعواصم الشرق الاسلامي آنذاك , وقد رسم ابن القاسم الأنصاري في مؤلفه  " اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار" صورة رائعة للازدهار الذي بلغته المدينة في كافة الميادين .

 

إلا أن الاحتلال عمد فور استيلائه على المدينة إلى طمس هويتها الإسلامية , و أمعن في تدمير معالمها الحضارية , و إحالتها إلى ثكنة عسكرية ووكر للقراصنة وعتاة المجرمين!
و اليوم تسعى إسبانيا جاهدة لإضفاء الطابع الإيبيري على سبتة ,وحمل أبنائها على الرضوخ للأمر الواقع إما ترغيبا  من خلال حفزهم لحمل الجنسية الإسبانية مقابل وعود بالشغل و الإعفاء من الضرائب التجارية , أو ترهيبا من خلال التضييق على المساجد و الكتاتيب القرآنية , وعرقلة أي مبادرة تروم المطالبة بإعادة المدينة إلى حظيرة الوطن .

 

وإذا كانت لعبة شد الحبل على المستوى الرسمي لم تتوقف ,و تكشف حجم التعنت الذي تُبديه إسبانيا حيال أية إثارة لهذا الملف , والتواطؤ المخزي للمنتظم الدولي فإن فعاليات المجتمع المدني مُطالبة بتجاوز الصيغ الانفعالية صوب اعتماد مقاربة شاملة تبرز الحقوق السيادية للمغرب على جزء من أراضيه , وتسترشد في الآن نفسه بالتجارب الدولية التي نجحت في القضاء على الاحتلال وفق منهجية عقلانية " تجربة هونغ كونغ" .كما أن الوفاء لذكرى الأبطال الذين قضوا دفاعا عن سبتة يستلزم نفض الغبار عن الذاكرة المغربية و الإسلامية عموما من خلال تعريف الأجيال الشابة بالملاحم الكبرى التي خاضتها الأمة في سبيل عقيدتها وحضارتها.

 

إن الحديث عن الغد المشترك و علاقات الجوار البناءة يفقد دلالته أمام مواصلة الاعتداء على السيادة و الكرامة , ومهما بلغ الحذق في صوغ المغالطات فإن الكفة لا تلبث أن ترجح لصالح الشرعية وحقائق الجغرافيا و التاريخ , ولو بعد حين ! 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : محمد العربي المساري .أسباب احتلال سبتة .محاضرات جمعية الثقافة الإسلامية .تطوان 1979 .ص :71
(2) : عبد العزيز بن عبد الله .سبتة ومليلية معقلان مغربيان أماميان على البحر الأبيض المتوسط .مطبعة النجاح الجديدة       .ص:11
(3) : البرلمان الإسباني ابتدأ العمل به في العصر لوسيط وكان عبارة عن مجلس استشاري يضم الأمراء الإقطاعيين               المقربين من الملك.
(4) : عبد العزيز بن عبد الله .المرجع السابق .ص : 19