أنت هنا

الجنود المجهولون
3 جمادى الثانية 1425

تركز كتب التاريخ عادة على الجانب السياسي من الحياة .. جانب الدول والحكومات وتقلبات الأحوال بها، وذهاب أناس ومجيء آخرين، وإذا أخذنا التاريخ الإسلامي نموذجاً فالصورة نفسها، بل هي أكثر حدة وإيغالاً في إبراز هذا الجانب الذي يختلط فيه الصحيح بالمزيف والحقيقي بالمشوه.
ولكن ماذا عن الجانب الحضاري في تاريخنا الإسلامي وهو مساوٍ للتاريخ السياسي ومتفوق عليه، لماذا لا نبرزه حتى تكتمل الصورة أولاً ؟ وحتى يكون المثال والقدوة ؟ هذه المساجد العظيمة من بناها، والمدارس والمستشفيات والأوقاف الكثيرة المتنوعة، التي كانت تقدم الخير للناس للكبار والصغار، بل حتى للحيوانات العاجزة والكبيرة في السن، كان هذا في مدننا الإسلامية في دمشق وقرطبة وبغداد والقاهرة في القرن السابع الهجري كان في دمشق مئة مدرسة، منها اثنتان للطب، وواحدة للهندسة، وفي القدس أربع وأربعون مدرسة، وفي بغداد- رغم سقوطها بيد المغول – أربعون مدرسة، وكان فيها المدرسة المستنصرية، التي كانت جامعة فيها مدرسة للطب وأروقة لدراسة المذاهب الأربعة، ومساكن وحمام ومستشفى، وكان في القاهرة خمسون مدرسة، وكل هذه المدراس كانت بجهود أفراد أو أوقاف، آلاف الكتب في شتى فنون المعرفة قام بها علماء مرموقون لخدمة العلم لم ينتظروا أجراً مادياً، ولكن ذكرهم استمر في شتى العصور، آلاف العمال المهرة الذين بنوا وشيدوا وصنعوا كل ما تحتاجه الأمة في عصرهم، وكانت لهم مؤسساتهم التي تجمعهم وتحميهم، هؤلاء جميعاً هم الذين أعطوا للحضارة الإسلامية طابعها المونق، وإن ظلوا بعيدين عن الشهرة، بل ربما لا يذكرهم التاريخ.
هذا الجانب الحضاري مستمر في هذه الأمة التي لا يتوقف عطاؤها حتى وهي ضعيفة في الجوانب السياسية أو العسكرية، وقد رأيت مؤخراً امتداداً لهذا النفس الحضاري حين قام ( الشيخ) بمشروع لتشجيع الشباب على الزواج، ونجح المشروع نجاحاً باهراً، وقدمت خدمات لهؤلاء الشباب تقدر بالملايين، وهذا مما شجع على الاستمرار في المشاريع الحضارية، فقام مشروع لمساعدة الأسرة المسلمة وتوعيتها وحل مشاكلها عن طريق الدروس والمحاضرات والخبراء الاجتماعيين والدورات التعليمية، ثم قام مشروع متمم لهذه المشاريع، وهو بناء شقق صغيرة وتأجيرها للمتزوجين الجدد بأسعار زهيدة، واكتملت هذه السلسلة بمشروع العيادات الخيرية التي جهزت بأحدث الأجهزة الطبية وبخبرة الأطباء والمستشارين والفقراء يعالجون مجاناً وأصحاب الدخل المحدود بأجور رمزية.
ألم نقل: إن الجانب الحضاري مستمر، وإنه هو الجانب الأقوى والأبرز، وإن هذه الأمة وصفت بالخيرية إلى يوم الدين. إن المسلم ليأمل أن يكون هذا الذي وصفنا نموذجاً يحتذى في كل المدن والقرى في بلاد المسلمين، وليس من الضروري التقليد الحرفي، بل القصد العمل الحضاري بشتى فروعه، وبأوسع معانيه مع الإتقان والإخلاص.