أنت هنا

إشكالية التوافق بين التحرك السياسي والبناء الداخلي في العمل الإسلامي
3 جمادى الأول 1426

بين يدي الإشكالية:
يمثل الفرد المسلم اللبنة الأساسية للعمل الإسلامي العالمي الكبير الذي تتعلق به الآمال وتتشوف إليه الرؤى، وسط زخم متراكم من التغيرات العالمية والقطرية تمر بها المجتمعات الإسلامية في الأيام الأخيرة..
وتختلف التوصيفات حول نجاح أو فشل ذلك العمل الإسلامي في إثبات ذاته والصمود أمام التحديات المختلفة والتي يستهدف بعضها ثقافته ويستهدف البعض الآخر وجوده ذاته..

وقد غلب على خطاب الحركات الإسلامية - نتيجة لتموجات الحياة السياسية وبزوغ بصيص أمل في التغيير نحو المشاركة في العمل السياسي – الخطاب السياسي المقلد، والذي سقط في بعض الأحيان في المهوى الذي صنع له خصيصا، لتفرغ الدعوة الإسلامية من مضمونها وتتجرد من محاورها العقدية الأساسية وسط ارتطامات أبنائها بين طيات ذلك الخطاب السياسي المجرد، وذوبانهم في اللعبة السياسية الآنية و القائمة أساسا على الأخلاقية القيمية والميكيافيلية الفكرية..

ليجد أبناء العمل الإسلامي أنفسهم – بعد مدة من الصراع السياسي – فارغي اليد من موروث ثقافي عقائدي يميزهم أو مكتسبات حقيقة على أرض الواقع تشفي غليل أتباعهم..سوى بعض من الإنجازات لا تمثل - في ميزان النظرة الإسلامية الجادة أملا يرتجى ولا هدفا استراتيجيا يسعى إليه!!

وتجربة العمل السياسي الإسلامي عامة بحاجة إلى منهجية واضحة تحدد محاورها وأطرها كما هي بحاجة لوضع أهداف واضحة لها ومبادئ تقيم تبعا للسياسة الشرعية الإسلامية التي حددها الفقهاء الأولون، وتستبصر بفقه النوازل وما يراه فقهاؤها المعاصرون من حاجيات عصرية تتلاءم ومقاصد الشرع الحنيف.

فالعمل الإسلامي السياسي إذن لا يمكن أن يتكون أو يتخذ القرار بالتحرك بعيدا عن العلماء الربانيين والفقهاء المقومين لخطواته والمحددين لأطره، ولئن كانت قيادة التحرك الميداني غالبا ما تكون بين يدي القادة الحركيين والمنفذين الذين قد يغلب عليهم التأثر بالواقع المحيط سلبا وإيجابا فإنه من القصور الكبير أن ينأى أولئك القادة بتحركهم بعيدا عن تلك المقومات والمحددات والأطر الشرعية سابقة الذكر والتي يقيم مصالحا ومفاسدها أهل العلم الأثبات..

نظرة واقعية لمفردات الإشكالية..
يلاحظ المشتغل بتحليل مستوى الأداء الداخلي لجماعات مختلفة من أطياف العمل الإسلامي في المرحلة الأخيرة ذاك التأثر السلبي البين للمستوى الداخلي لأفرادها سواء على مستوى العلم والثقافة الشرعية أو على مستوى زيادة الإيمان والربانية وأعمال القلوب أو على مستوى الثبات والتضحية والبذل ونموذج الاقتداء، وربما في بعض الأحيان على مستوى القبول الأخلاقي والاتصاف بالأخلاق المعتبرة للدعاة إلى الله!!

وفي حين نرى السعي الدءوب تجاه الانتماء الجمعي والدفاع الشديد عن المسميات - ما يصل في كثير من الأحيان إلى الموالاة والمعاداة على أساس مسمى تلك الجماعة أو هذا الاتجاه – كما نرى الانتصار العشوائي لأفراد بذواتهم بحجة كونهم ذوي مكانة قيادية في ذاك العمل أو تلك الحركة.... فإننا نرى ذاك الهبوط المتنامي في مستوى بناء المسلم المنتمي لتلك التكوينات المختلفة بحجة الاشتغال بما هو أهم، أو بحجة أن الحق الكامل إنما تستأثر به طائفة معينة هم - في نظرهم - من يملكون معرفة الخبايا وراء التحركات ويستشفون الأهداف الملهمة خلف الأوامر!!

وإذا كان الفرد المسلم هو العنصر الأساسي في بناء ذلك التكوين فإننا بذلك نكون في أزمة واقعية كبيرة يمر بها ذاك الجهد الكبير الذي يبذل وتلك الآمال التي تعقد على الإنجاز المنتظر من تلك الجماعات والمجموعات والأطياف المختلفة.. والتي ربما ارتبط أفرادها بها لعشرات السنين وقيدوا بها آمالهم وطموحاتهم وكثيرا من خطواتهم في الحياة!!

الاستبدال والتغيير.. نظرة منهجية..
لقد وضع القرآن الكريم تلك القضية موضعها من الأهمية حيث بيًن قيمة البناء الفردي والداخلي للمجتمع المسلم كيف أنه المحور الأساس الذي تتحدد بناء عليه قضية الاستبدال والتغيير، لقد بين سبحانه وتعالى صفات الذين يحصل على يديهم التغيير وتنتصر بهم الأمم فحددها سبحانه مفصلة بغير إجمال ومبينة بغير خفاء، فالفرد - الذي هو بناء لهذا التكوين الإسلامي أو ذاك - يجب أن يتصف بتلك الصفات وإلا كان عرضة للاستبدال ولن يحصل على يديه إنجاز يذكر أو تغيير يرتجى.. بل حدد القرآن - تبعا لذلك - الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها القائمون بالتغيير الذين تتحقق على أيديهم الإنجازات وينطبق سلوكهم مع رؤى الانتصار.

قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" (المائدة: من الآية54).
وواضح من البيان القرآني كم هو مختلف ذاك الواقع الذي تعيشه التكوينات الإسلامية معه وكم هو البون الشاسع بين المرتجى والمثال....
فهم أفراد أحبهم الله _سبحانه_ لما يفعلونه من عبادات مخلصه وما يتصفون به من صفات ربانية وهم قوم أحبوا ربهم فضحوا لأجله بالدنيا وزخرفها، وهم قوم تواضعوا لإخوانهم فقبلوا الحق من أي أحد وذلوا لإخوانهم فلم ينتصر أحدهم لرأيه ولم يتصلب أحدهم لفكره ولم يصعر أحدهم خده لأخيه ولم يسع أحدهم لقيادة أو إمارة أو تصدر..، وهم قوم أعزة بدينهم لا يتنازلون عن مبادئهم ولا يتزعزعون عن قيمهم ولا يميلون تبعا لميل الهوى أو المصلحة الشخصية...، وهم قوم يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ولا يخافون لومة لائم..

كما بين تمام وصفهم الله _سبحانه_ في غير ما آية فقال _سبحانه_: "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (التوبة:112)..
فهذه الصفات جاءت خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (هم) إذ هي جواب لما ينقدح في الأذهان من سؤال عن حال هؤلاء حتى عقد معهم الله سبحانه البيعة وأحسن لهم عقبى المآل، فإذا بهذه الصفات:
"التائبون": (تابوا عن الشرك وبرئوا من النفاق) [ الطبري 11/36 ].
"العابدون": (قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم) [ الطبري 11/36 ].
"الحامدون": (حمدوا الله _تعالى_ في أحايينهم، في السراء والضراء) [ الطبري 11/37 ]
"السائحون": قال ابن عباس: (السائحون: الصائمون) [ الطبري 11/38 ]، وقال عطاء: (السائحون: المجاهدون) [ القرطبي 8/171 ]
"الراكعون الساجدون": (المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود) [ تفسير السعدي 353 ].
"الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر": (الآمرون بكل ما أمر الله به عباده ورسولهُ، والناهون عن كل ما نهى الله عنه عباده ورسولهُ) [ الطبري 11/39 ].
"والحافظون لحدود الله": قال ابن عباس: (القائمون على طاعة الله _تعالى_، وهو شرط اشترطه الله على أهل الجهاد، إذا وفوا الله بشرطه وفى لهم شرطهم) [ الطبري 11/40 ].
"وبشر المؤمنين": (بشر المصدقين بما وعدهم الله إذا هم وفوا الله بعهده أنه موف لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة) [ الطبري11/40 ]، قال ابن كثير: (فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم) [ ابن كثير 4/218 ]

فذلكم مشروع تربوي مكين لبناء الأفراد، ومن رام الوقوف على فاعلية هذا المشروع وأثاره الطيبة تأتى له ذلك من خلال تفكره وتدبره لأول صفة فيه (التائبون) وآخر صفة فيه (والحافظون لحدود الله) فالتائب هو من يخرق ويرتق؛ يخرق بالذنب ويرتق بالتوبة، في حين الحافظ لحدود الله _تعالى_ يتورع عن التورط والتلبس بشيء يناهضها، وهكذا انتقل بهم برنامج البناء التربوي الرباني من أناس يقعون في الزلة ويتوبون منها إلى أقوام يحترسون من الوقوع فيها ابتداء، فهم يجاهدون أنفسهم ويكبحون جماحها.

وتجدر الإشارة أن هذه الصفات قد سطرت في كتاب الله _تعالى_ بصيغة اسم الفاعل الدال على أصالتها في نفوسهم وديمومتهم عليها، فهي سجايا ملازمة لهم مغروسة في نفوسهم راسخة فيها وليست بالمناقب الطارئة عليهم التي يسهل انسلاخهم منها أو انفكاكهم عنها..

ومن ترسخت فيه هذه المناقب والخصال غدا مرشحا لأن يكون من الزمرة النورانية المستحقة لميراث الانتصار والتي وعد سبحانه استغناءه بها عن الذين في قلوبهم مرض وأصحاب الهوى أو الجهال المماحلين أو المتخاذلين عن نصرة إخوانهم المستضعفين، وارجع إلى الآية الأولى ترى مقدار الارتباط المذهل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ.. الآيات".

الدوران حول محور متغير..!!
إن قضية الثوابت والمتغيرات والتي تناولها كثير من العلماء و الكتاب والمفكرين الإسلاميين لتفرض نفسها بقوة كقضية أساسية في تقويم تلك التوافقية المطروحة للحل بين التحرك الجمعي العام والسياسي وبين البناء الفردي والداخلي للجماعة المؤمنة فالمجتمع الإسلامي له ثوابته التي لا يقبل الله _سبحانه_ الحيد عنها أو التنازل وله هامش معتبر أيضا من التحرك حول بالمتغيرات المقبولة في ظل المتاح من الوسائل المضبوطة بضوابط القواعد الشرعية، فدوران الجماعة المسلمة يجب أن يكون دائما حول ثوابتها وانحيازها يفترض أن يكون دوما حول تلك الثوابت مهما تغيرت الأجواء أو لمعت أمام العيون الفرص، ونؤكد هنا على عدة نقاط:

أولا: أن الأنبياء جميعا قد بدؤوا من طريق الدعوة إلى العقيدة والتوحيد برغم مشقته وعنائه وبلائه، وكان في مقدورهم البدء مع أقوامهم من غير هذا الطريق ولكنهم أبوا ذلك أبدا فرفضوا أن تبدأ دعوتهم لجمع الناس على أي هدف إلا العقيدة في لا إله إلا الله ومقتضياتها مهما كان ذاك الهدف المعروض وحتى لو كان هدفا أخلاقيا أو سلوكيا أو اجتماعيا أو سياسيا أو غيره ومهما كانت منافعه المتصورة.. وكانوا قادرين – عليهم السلام- أن يجمعوا الناس تحت أية راية حتى إذا اجتمعوا بلغوهم العقيدة وطالبوهم بها، ولكن الله سبحانه لم يرد ذلك منهم، ومن ذلك يتبين لك خطأ كل داعية يتخفى في ثوب غير ثوبه الإسلامي الناصع ويتحجج بغير محجته البيضاء بدعوى جمع الناس حوله أو تثبيت أقدامه

ثانيا: العمل الجمعي - ومنه السياسي وغيره - للجماعة المسلمة يجب أن يخضع لمحددات السياسة الشرعية وأطرها ولا يجب أن ينسى القائمون بذاك العمل في حماسة التحرك أنهم محدودون بحدود وخاضعون لشروط فلا يمكن أن يتساووا بحال مع العلمانيين المنحرفين ولا مع دعاة المناهج الإصلاحية المختلفة، كما يجب أن ينأوا بأنفسهم من الوقوف تحت رايات التحزبات أو يتبنوا منهجا غربيا مستحدثا.. فالإسلام به مشروعه السياسي الشرعي الحكمي المتكامل والذي ينبغي عرضه بوضوح وبيان إذ إن ذلك يقع تحت طائلة أداء الأمانة التي تعبدنا الله _تعالى_ بها كما إنه وفاء بعهد الله " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم "

ثالثا: يجب أن تولى الجماعة المسلمة الاهتمام الأكبر لأبنائها وأفرادها.. لعقيدتهم وديانتهم وأخلاقهم وثقافتهم وقلوبهم.. والعلاقات بينهم من الأخوة الإيمانية والتواد والتراحم والصلة و إلى كل ما يتعلق ببنائها الداخلي، فلا يهمل الفرد بحجة العمل العام ولا غيره إذ إن المسئولية الفردية متحتمة على كل فرد "وأن ليس للإنسان إلا ما سعي"، كذا يجب أن يفهم الأفراد مناهجهم وأهدافهم وطبيعة الخطط التي يسيرون في ركابها بوضوح وجلاء ولا يكون سيرهم مجرد تبع لقياداتهم فإن المنهج الإسلامي يحترم الإنسان المسلم وفكره وقيمته ويقدر رأيه ومشورته ويراعي أماله وطموحاته وينسجم مع متطلبات حياته الصالحة..

بين مقتضى الاستخلاف ومقتضى الاستضعاف..
الاستخلاف والاستضعاف حالتان تمران بالجماعة المسلمة لكل منهما مقتضاها ففي الحالة الأولى وهو مقتضى الظهور والقوة والمنعة والقدرة تؤمر فيه الجماعة المسلمة بما يتوافق معها من إقامة الشرائع وإظهار الديانة والأخذ على يد الظالم وما يتعلق بذلك من شئون السياسة الشرعية عند الاستخلاف، وفي الحالة الثانية وهو مقتضى الغربة والقلة والضعف والقهر فيؤمر فيها الأفراد بالاستمساك بالعقيدة الصحيحة وتعلم العلم وأداء العبادات المأمورة وعدم الركون إلى الظالمين والصبر والثبات على الحق والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، يقول _سبحانه_: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (هود:112- 115).

والأمة الإسلامية في تلك الحالة التي تمر بها أحوج ما تكون إلى دعوات العودة إلى الربانية الإيمانية الحقة والأخذ بيد أجيال من الصالحين النورانيين أصحاب القلوب السليمة الطاهرة الذاهلين عن المتاع، المشتاقين إلى ريح الجنة...