أنت هنا

تأملات نقدية في مداخلة فوكوياما (2/3)
8 رمضان 1426

 


في الحلقة الأولى من المقالة النقدية، استعرضنا أهم أفكار نظرية فوكوياما، التي تناولت حتمية التحديث لدى جميع الشعوب، وارتباط التطور بتطور العلوم الطبيعية والتكنولوجية،  وأشرنا إلى استعراض فوكوياما للانتقادات الموجهة إلى نظريته.
ونتابع في الحلقة الثانية ما بدأناه من تحليل نقدي للنظرية:


الملاحظة الثانية- النسق لا يتسق:
قد رأينا من خلال تحليل عمق النظرية أنها أقرب ما تكون إلى البرنامج السياسي منها إلى أبعاد النظرية، والذي يزيد الأمر تأكيدا أنها تعتمد نسقا غير منطقي، فالتحديث حسب فوكوياما أمر حتمي والعالم متجه إليه حتما. لكن العلوم والتكنولوجيا أمر غير ميسور ومتعذر التحقق في مجموع العالم. فكيف يلزم الحتمي ولازمته التي هي الآلة والمحرك غير لازمة؟!
ولعل هذه الملاحظة تدفعنا إلى الاستنتاج بكون التحديث قد يكون حتميا في الدول الغربية، ولا يكون كذلك في دول أخرى. أو قد يكون للتحديث مضمونان على المستوى الواقعي: تحديث الغالب، وتحديث المغلوب، وفي كلتا الحالتين فالنسق لا يتسق أما الملاحظة الثانية في هذا الموضوع فهي التلفيق النظري الذي يرتزق من الفكر الماركسي فاعلية البعد الاقتصادي وأثر قوى الإنتاج على البنى الفوقية (السياسية والثقافية مثلا. . .)، ويجعل للعلوم والتكنولوجيا دور المحرك والفعل التاريخي. وهو معطى وصفي لطبيعة التحول في التجربة الأمريكية أكثر من كونه استقراء لمعطيات التاريخ.
فلقد أثبتت القراءة المتأملة للتجربة الأوربية أن الفكر الإنواري قد سبق الثورة الصناعية، وهذا ما يجعل البناء الذي أسسه فوكوياما بناء سياسيا يعتمد الوصف الظاهر لملاحظات حول التجربة الأمريكية، ولا يرقى لمستوى البناء النظري الذي يعتمد الاستقراء أداة لتقويم التجارب التاريخية ويشترط الاطراد في الأمثلة والنماذج ويبرر الاستثناءات القليلة ببعض القواعد ذات الخصوصية كما فعل كارل ماركس تحديدا عندما طرح (مفهوم نمط الإنتاج الأسيوي).


وترد ملاحظة أخرى يجدر تسجيلها في هذا الصدد.  فقد أثبتت الوقائع التاريخية تأثيرا للتنمية السياسية على المنظومة الاقتصادية والتجربة الإسبانية في هذا المجال تبقى قوية ووجيهة.
وهكذا ومن خلال الملاحظات التي سجلناها يظهر لنا أن ما يسمى "بنظرية فوكوياما" لا تملك البعد النسقي، وتفقد ماهيتها كنظرية وتبقى في الأخير عبارة عن توجه سياسي أو برنامج سياسي، يقرأ الأحداث بانتقائية مخلة، ويفسرها بالقاعدة حينا وبالاستثناء حينا آخر من غير ضوابط ولا قواعد، ويعتمد التصنيف السياسي والإيديولوجي المخل، ويقترح المعالجات والتدبير السياسي لبعض المشاكل كل هذا يدفعنا إلى القول بأن هذا النسق يفتقد لأهم حلقة وهو كونه لا يتسق.


الملاحظة الثالثة- المركز والأطراف:
السؤال الأكثر إحراجا والذي فضل فوكوياما عدم طرحه في المداخلة هو: ألا تشكل صيرورة التحديث في الدول الغربية عائقا للتحديث في دول العالم الثالث؟
المتأمل في الميكانزمات التي يتم بها التحديث في الولايات المتحدة الأمريكية يدرك أن هناك تحديثان ممكنان:
ـ التحديث الفاعل: وهو والذي يتطور بشكل تصاعدي، ويشترط لذلك تدخلا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا في الدول الأخرى.
ـ التحديث التبعي: إذ يفرض استمرار التحديث الفاعل التدخل في الدول الأخرى في بناها السياسية ومنظوماتها الاقتصادية ونظمها الثقافية وهكذا نتقلب نظرية فوكوياما. فليست العلوم هي التي تفعل فعلها في هذه المعطيات، إنما الضرورة التي تفرضها صيرورة التحديث الفاعل، لنأخذ مثالا على ذلك في أمريكا: إن ضمان استمرار ارتفاع الدخل لدى الفرد يقتضي تحكما أمريكيا في سوق النفط، ولا يكون ذلك إلا بهيمنتها على مصادره. وهذا لا يتحقق إلا بالتدخل لتغيير النظم السياسية. والتحكم في منظومة اقتصادها بما يحقق استقرار الوضع الاقتصادي في أمريكا.
وهكذا فنحن أمام تصور أقرب لما طرحه الدكتور سمير أمين حول نظرية المركز والأطراف وإن كان قد أطره بمنظور ماركسي يجعل الفاعلية لقوى الإنتاج. أو هو بعبارة: أقرب للتصور الذي استلهمه راشد الغنوشي من سمير أمين وأضفى عليه الأبعاد القيمية والثقافية والذي يميز فيه بين نمو المركز الذي يتطلب تقطيع الأطراف ولعل هذه هي النقطة المحورية التي يمكن أن تنسف ما يسمى بنظرية فوكوياما.


على أننا يمكن أن نستفيد وبشكل إيجابي من تحليل مهدي عامل وهو يطرح مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي لكي نفهم على نحو مختلف استحالة التحديث في دول العالم الإسلامي بنفس المنظور الذي يؤصل له فوكوياما لاعتبار التناقض في صيرورة التطور النسقي، بين التحديث الفاعل والتحديث التبعي وهو أمر منطقي ومبرر نظريا وواقعبا وتاريخيا.


الملاحظة الرابعة- التحديث والثقافة:
لعل خطأ فوكوياما المركزي هو اعتماده المحورية الأوروبية أساسا للتفكير لأن من شأن هذا التوجه أن يلغي الخصوصية والتميز الحضاري.
والتجربة الإسلامية في عمومها تشير إلى إمكانية خروج التحديث من نسيج الثقافة، فلقد أثبتت التجربة التاريخية الإسلامية الإمكانات التي يتوفر عليها النسق الثقافي، إذ يستطيع أن ينتج النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولعل تحليلات الدكتور برهان غليون في هذا الاتجاه جد موفقة إيجابا وسلبا.
- فمن حيث الإيجاب: فتاريخ الإسلام شاهد على أن الثقافة هي التي صنعت نظامها المجتمعي ونظامها الاقتصادي والسياسي.
- ومن حيث السلب: فلقد استطاع الاستعمار أن يقوض كل النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لكنه عجز عن القضاء على النسق الثقافي الذي ظل دائما مصدر الممانعة. فقد كان عصيا عن الاختراق ولقد احتفظ برصيده وأنتج في دول الاستقلال بتحالف مع النزعة الوطنية والعروبية الأنظمة القطرية.


يضاف إلى ما ذكرنا أن ملاحظات فوكوياما حول الصين غير دقيقة، فالصين امتلكت ناصية تحديثها من بنائها الثقافي ومن ثورتها الثقافية، وليس من فعالية العلوم فالبناء الثقافي هو صاحب الفاعلية وهو المحرك والفاعل التاريخي في الصين.
أما نموذج اليابان بلد فوكوياما الأصلي، فإن تحليله يبقى شاهدا على تناقضه فقد اضطر إلى الاعتراف بكون الثقافة والسياسة في اليابان تختلف عن مثيلاتها في العالم الغربي. وإذا كان فوكوياما قد عجز عن تفسير هذا الأمر واكتفى بإجابة سياسية فيها كثير من الدوغمائية: " لا نريد عالما منمط ثقافيا" فإن الأمر الواضح هو أن الثقافة لها قوانين وآليات غير تلك التي تحدث عنها فوكوياما.
والذي يستدعي كثيرا من التأمل، أن الرجل لم يلتفت إلى الديمقراطية والتحديث التركي الإيراني، وإن كانت إشارته للأداء السياسي الضعيف للدول الأصولية(إيران نموذجا) مقصودا سياسيا. فالتجربة التركية الحالية والإيرانية في التحديث و الديمقراطية تفسد بشكل كبير ملاحظات فوكوياما واستنتاجاته المضطربة.


الملاحظة الخامسة- الهوية الدينية:
لعل الأمر الذي يبدو نشازا في هذه النظرية هو الاستنتاج الذي ساقه فوكوياما بخصوص الهوية الدينية، إذ اشترط للتحديث الفصل بين الديني والسياسي دونما تبرير نظري، وغاية ما ساقه في الموضوع أمران:
ـ قراءة التجربة الأوروبية باختزال متكلف: فعنده أن الرهان على المرجعية الدينية كان سببا في قيام حروب دينية، والنهضة الأوروبية لم يكن النجاح ليكون حليفها لولا القطيعة مع الدين.
ـ المسيحية هي الأساس المرجعي لليبرالية الديمقراطية، ولكن ليس بمعنى أن للدين فاعلية وحضور تاريخي فالمسيحية أنتجت الليبرالية الديمقراطية، وهذه الفكرة انقطعت عن أصولها، واجتثت من مصادرها التاريخية، وصارت إبداعا كونيا غير مرتبط بالفكرة الدينية.


وأول ما يسجل على هذين النقطتين: التناقض الصارخ، وحضور الاستثناء النظري كحل يتدخل به فوكوياما، كل ما أحس بشيء يفسد استنتاجاته، ليجمع بين المتناقضات، فالمسيحية أنتجت الليبرالية الديمقراطية ولكن الاستثناء هنا، هو استقالة السبب المنتج (الذي هو الدين) وكونيه المنتج (الذي هو الديمقراطية الليبرالية) وهو عبث نظري واضح فمشكلة الهوية الدينية لا يمكن أن نحسم بصددها بهذه السهولة لمجرد قراءة تجربة تاريخية غربية تختلف التقديرات والتفسيرات بشأنها، فالعولمة والتحديث لا يستهدفان فقط العالم الغربي وإنما هما مطروحان على كل العالم بتعدد أنساقه الثقافية (العالم الإسلامي العربي، العالم الهندي، العالم الصيني. .)، وغيرها من العوالم التي تتميز بخصوصياتها الثقافية وتجاربها التاريخية الفريدة.


فالإشكال الديني يبقى حاضرا بقوة، ولا يمكن أن يتعامل معه بهذا الاختزال اللاتاريخي، ولعل فوكوياما أدرك هذه الخطورة حينما امتنع عن الحديث عن الهوية الدينية في العالم الإسلامي، واكتفى بطرح السؤال: هل سيصل العالم الإسلامي إلى نفس هذه الاستنتاجات؟
ولعله بذلك يدرك كون هذه الهوية الدينية لا يمكن أن يحسم فيها المنطق الداخلي لصيرورة التحديث، بمعنى لا يمكن للتحديث الحقيقي داخل بلد عربي إسلامي أن يمضي في اتجاه الفصل بين الديني والسياسي، مما يفتح المجال واسعا للتحديث الفاعل (الأمريكي الأوروبي) للتدخل في البلدان الإسلامية بالآليات الاقتصادية والسياسية والقانونية والقمعية والعسكرية لتغيير المنظومة السياسية وشرعياتها، وتغيير المنظومة الثقافية المجتمعية بشكل يسمح بالحديث عن العولمة في المحيط الإسلامي، وهو أمر لابد أن يواجه من طرف الحركة الإسلامية والوطنية وقوى المقاومة الثقافية العمق الاستراتيجي لهذه الأمة.