أنت هنا

هل هؤلاء يجددون أم يقددون؟
29 جمادى الأول 1427

التجديد للدين معلوم ومعروف عند أهل الإسلام على مر العصور والأزمان، بل صح عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ كما في حديث أبي هريرة "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها" رواه أبو داود والحاكم في المستدرك والبيهقي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" و"السلسة الصحيحة".

فالتجديد الصحيح للدين كما قال العلماء هو تنقية الدين مما علق به من الشوائب، وتنقيح ما طرأ عليه من الأفهام المنحرفة، والدفاع عن أصوله، وإبراز محاسنه، وإحياء ما اندرس من معالمه ومفاهيمه، قال أبوالطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي: " معنى التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات "(عون المعبود شرح سنن أبي داود11/391)

وقال المناوي: "يجدد لها دينها، أي: يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله ويكسر أهل البدعة ويذلهم.. وقالوا ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة".
وقال ابن القيم _رحمه الله_: "ولولا ضمان الله أن يحفظ دينه، وتكفله بأن يقيم له من يجدد أعلامه ويحيي منه ما أمات المبطلون، وينعش ما أخمله الجاهلون لهدمت أركانه، وتداعى بنيانه، ولكن الله ذو فضل على العالمين" مدارج السالكين (2/79)

فالأمة المسلمة منذ عصورها الأولى عرفت هذا الصنف من المجددين الذين هم في الحقيقة نعمة ومنة يتفضل الله بها على المسلمين في كل فترة من الزمان، و اصطفاء خص الله به أمة النبي _صلى الله عليه وسلم_، فمن من المسلمين لا يعرف المجدد عمر بن عبد العزيز ومن لا يعرف الإمام الشافعي المطلبي ومن لا يعرف ابن تيمية الحراني، من لا يعرف الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولا يعني أن المجددين هم هؤلاء فهم كثر في الأمة _ولله الحمد_ وإلى يوم القيامة، وهذا مثال فقط.
فهذا هو التجديد الحق الذي نطلبه وننشده وهؤلاء الذين ذكرت هم ثلة من المجددين الذين هم حياة ونور لهذه الأمة في حياتهم وبعد مماتهم بما خلفوه من ميراث العلم.

تقديد الدين وليس تجديده:
أما تقديد الدين، فأعني بالتقديد من "القد" وهو في اللغة: القطع وقدده أي قطعه، والقد قطع الجلد وشق الثوب، وقد جاء في القران الكريم "كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً" (الجـن: من الآية11).
فكم نرى الآن من هؤلاء المتعصرنين المنهزمين والذين أكثرهم في الحقيقة فئات غير شرعية، تطفلوا على العلم وهم ليسوا من أهله، وركبوا موجة الدعوة، وانخدع بهم العوام، واغتروا بأنفسهم فهؤلاء يصح أن نسميهم "مقددون" لأن خلاصة ما يروجه هؤلاء ويقدمونه التقطيع للدين وقواعده والتبديد لأصوله، والتمييع لمعالمه وقطعياته بحجة التجديد والتنوير والعصرنة، اتخذوا ضغط الواقع وفقه المرحلة كما يرددوا كثيراً هم قنطرة لبث سمومهم، وترويج أفكارهم،وخداع العوام والتلبيس على البسطاء.

إن الأمة على مرور عصورها واختلاف أزمنتها ومراحلها لم تعرف مثل هذه الفئة التي قددت الدين وبددته، ومع ذلك تسعى هذه الفئة على قدم وساق أن تقدم هذا التقديد للأمة على أنه إنجازاً عظيما، وجهدا لم يستطيعه الأوائل من أعلام الإسلام على مر القرون الماضية كلها.

المقددون مجددون أم مستوردون؟
جل ما عند هؤلاء المقددين هو عبارة عن بضاعة مستوردة من الثقافة الغربية أو من الثقافة الشاذة المنسوبة للإسلام، هؤلاء فتنتهم حضارة الغرب وفلسفاته، وبهرهم زخرف التقدم التكنلوجي والتقني الذي أراد الغرب الآن أن يغلف به نظرياته ورؤاه، ويسوق به فكره وفلسفاته، فاختلطت الأوراق عند هؤلاء القوم فلم يفرقوا بين الوسائل المباحة، والتي يمكن أن يستفاد منها والتي لا مانع من أخذها وبين ما لا يجوز أخذه من المنظومات الفكرية التي لا تناسب واقعنا وثقافتنا وتصادم أصولنا وتمسخ هويتنا وتطمسها، وما ذاك إلا بسبب الهزيمة والسقوط، ساقهم هذا السقوط والانهزام _للأسف_ إلى الترويج للنظريات الفاسدة والفلسفات الغريبة المستوردة، زاعمين أنها من الدين، بل ربما قال بعضهم روحه ولبه، فأخذوا على عواتقهم دعوة الأمة إلى أن تولي وجهتها وتغير قبلتها، فالحل عندهم هو في المنظومات الفكرية المستوردة، وقديماً قال بعضهم الاشتراكية من الإسلام- زعموا- والآن يقولون عن بعض النظريات المستوردة ما لم يستطع أساطينها ومنظروها أنفسهم أن يقول عنها ليسوقها بين المسلمين، فثقافة الآخرين عندهم قريبة جدا من الثقافة الإسلامية بل ربما قال بعضهم لبها وجوهرها.

ولا ننسى أن البعض من هؤلاء هم من قدم بالأمس رأس أفعى الرافضة الخميني للأمة على أنه إماماً مجدداً، ومازال البعض منهم يقدمون بعض الشخصيات المنحرفة، ولا ندري إلى أين سيصل هذا التقديد، هكذا تنازل عن أصول وتمييع لمسلمات، اعتقدوا وجزموا ثم ذهب بعض أهل التقديد يسلك مسلك لي النصوص الشرعية، وتحريف مدلولاتها، وتأويلها تأويلاً فاسداً،وفهمها فهما مغايراً على غير القواعد العلمية المعلومة عند أهل العلم والبصيرة،والضوابط الشرعية المعروفة عند العلماء الراسخين،كل هذا ليسوقوا بضاعة الغرب المزجاة بين المسلمين، سواء شعروا أو لم يشعروا.

أهم شرو ط التجديد لا تتوافر في هؤلاء:
هؤلاء المقددون الذين ملؤوا الدنيا ضجيجا في القنوات الفضائية، والصحف والمجلات، يقدمهم أتباعهم، ويصدرهم المقلدون لهم على أن ما يقدمونه تجديدا، وعند النظر في أطروحاتهم الفكرية، والتأمل في إفرازاتهم على ساحة الواقع الدعوي، نجد أنهم يفتقرون إلى أهم مواصفات التجديد الحقيقي، فالتجديد الحقيقي أهم شروطه أن يكون صاحبه متصفاً بـ:
(1) المعتقد السليم على عقيدة السلف الصالح، فالمعتقد الصحيح هو الذي يعطي الشخص التصور الصحيح الذي يستطيع أن يزن به المستجدات بميزان الحق، ويحكم عليها من منطلق شرعي صحيح، وكيف يكون هذا التهويش تجديدا وهو فكر مخلط، فكر فيه غبش وتشويش " إن التجديد لابد أن ينطلق من وضوح في الاعتقاد في الإيمان والأسماء والصفات والولاء والبراء والعبادة والتشريع بحيث يكون مذهب أهل السنة والجماعة في جميع ذلك هو المنطلق الأساسي للتجديد " (ص 53/ التجديد في الإسلام).
فمستحيل أن يكون المجدد من غير أهل السنة والجماعة؛ لأنهم هم الطائفة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والقائمة بأمر الله، والمحاربة للبدع والأهواء والانحرافات، والداعية إلى دين الله الصافي الناقي.

(2) العلم الشرعي والتبحر فيه، فلابد أن يكون مع هذا المجدد بصيرة العلم الشرعي، بل اشترط بعض العلماء للمجدد أن يكون مجتهداً كما قال السيوطي _رحمه الله_



بأنه رأس كل مئة يبعث ربنا لهذه الأمة
مناً عليها عالما يجدد دين الهدى لأنه مجتهد

ثم يتابع السيوطي قوله _رحمه الله_


يشار بالعلم إلى مقامه وينصر السنة في كلامه
وأن يكون جامعاً لكل فن وأن يعم علمه أهل الزمن

فالتجديد الصحيح هو ما يقوم على هذين الشرطين الأساسيين، وكل تجديد ينقصه هذان الشرطان فهو كما قلت تقديداً للدين وليس تجديداً، ولهذا رأينا أن هؤلاء المقددين يخبطون خبط عشواء، يسّوقون لأساطين الغرب، ويروجون لمفاهيمه، ويمجدون الشخصيات المنحرفة قديمها كعمرو بن عبيد والجعد بن درهم، وحديثها كالخميني والله أعلم من سيكون في المستقبل، هذا هو غاية تجديد هؤلاء الذي يدعيه الأتباع، ويروج له المقلدون من المغفلين.