أنت هنا

رمضان الأمس ورمضان اليوم
1 رمضان 1427

كثيراً ما أصبحنا نردد هذه الأيام عبارات من أشباه " رمضان كان زمان".. "رمضان هذا العام ـ أو في الأعوام الأخيرة ـ بلا روح".. "متى يعود رمضان أيام زمان؟".."رمضان أصبح مادياً لا كما سبق".."لا أشعر بطعم رمضان"، وتتعدد بنا صور الحسرة وعباراتها على ما سبق من سالف الأزمان، ونعود نتذكر كم كنا نشعر بمعاني كلمات كتاب الله في قلوبنا، وكيف كنا نجد السير إلى حلق الذكر، وكيف كنا نشعر ببرد التدبر يثلج صدورنا وينزع عنها من شواغل الحياة وغوائل المعاصي.
بريء أنت يا رمضان عن التردي والتبدل؛ فالقلوب هي التي تبدلت والأحوال هي التي تغيرت، فأنت ما أخذتك العولمة لكننا أسلمناك إليها، وما زهدتنا ولكنا زهدناك، ولم تكن يوماً ضنيناً لكنك لاقيتنا اليوم بخلاء نسدر في غي نتنادى فيه بالإعراض عن سوقك الرابحة. نعيب رمضان والعيب فينا ونهجوه وحقه أن يهجونا.
إنها حالة من العجز نفرضها على أنفسنا دوماً حينما نحيل كل مسؤولية يفترض أن نقدر عبأها على غيرنا، فتارة نعيب الزمان وأخرى نعيب المربي وثالثة نعيب الأئمة، وهكذا من دون أن نكاشف أنفسنا ونحاسب على أساس أن المنهج الإسلامي يعتمد على ذاتية المسلم وإيجابيته، فلا يصح أن يغدو المرء كل ساعة بانتظار من يعبر به الطريق، صحيح أن الواجب يقتضي عليه أحياناً أن يتخذ من أصحاب القدوة والمربين أنموذجاً لتزكية نفسه، لكنه لا يلقي بمسؤوليته الكاملة أولاً عليهم وعلى دورهم قبل أن يحاسب نفسه التي هي أولى بالمحاسبة والفعل والتحول الإيجابي، فترى هذا يهرول باتجاه مسجدٍ ما لأن إمامه وحده سيمنحه خشوعاً قد لا يجده في مسجد آخر، ولا يدور بخلده أن إرادة الخشوع في أصلها ذاتية ودونها عوامل أخرى مكملة لكنها ليست العامل الرئيس في توفيقه لأداء صلاته بخشوع، يقول الله عز وجل "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"؟! وترى هذا يشكو من أن بعض الفضائيات أفسدت عليه رمضان.. وترى وترى، والقليل من يعتبر أنه المسؤول الأول عن ذاته لا الآخرين !! ونادراً من يرجع قلة الاكتراث برمضان وتزكية النفس من لخلاله إلى قدرته الذاتية وفاعليته في هذا الخصوص..
فما ران على القلوب لا يمحوه بعد هداية الله سبحانه إلا رغبة في إزالة طبقات المعاصي وأغشيتها، رغبة تنظر إلى الأمور بنظرة متزنة حكيمة، تعالج أمراض نفسها بقدر من المكاشفة والوضوح في التشخيص والعلاج، فمن يرد الهداية يهتدِ، ومن يرد الخشوع يخشع، ومن يرد التدبر يتدبر.بتوفيق من الله عز وجل ثم بإرادة فولاذية وعزم أكيد على نيل ذلك من دون التعويل بادئ الأمر على صوت قارئ أو تربيت مربٍ.
فكثير من الناس يهرولون إلى المساجد رجاء أداء صلاة قيام الليل ـ وهم مأجورون على ذلك بإذن الله ـ ويختمون كتاب الله سماعاً أو تلاوة، ويدخلون في صلاتهم ويخرجون منها ولم يزدد الواحد منهم معنى جديداً يُمنحه لو تدبر والتفت إلى فعل آخر في الصلاة سوى الوقوف، وكثير يصومون ولا يشعرون بتأثير نفسي وسلوكي وأخلاقي قد طرأ عليهم أو ازداد بهاءً إثر هذا الصيام.. إنه في الحقيقة خلل في الإرادة وخلل في التحرك الذاتي الهادف إلى تحقيق مراد التشريع لا الاقتصار على أداء مناسكه بحركاتها وسكناتها فحسب.
إن رمضان اليوم لم يخالف أمسه غير أن وجه الاختلاف في كيفية تعاطينا معه، فليس رمضان هو من فقد روحه لكن كثيرين منا قد فقدوا روح الصيام والقيام في ذواتهم، وأحالوها أفعالاً ميكانيكية صماء لا ترفع كثيراً من حرارة الإيمان في القلوب، ولا تغير كثيراً من ظاهر المرء وباطنه..والعلاج إذن في هذه القلوب التي ابتعدت عن الرحمن أن ترجوه أن يفتح لها أبواب عتقه وغفرانه وتسعى لأن تحيا رمضان كما كان الأولون يحيونه من قبل، فترى الإيمان يخالط بشاشته قلوبها وتتنسم أريج التدبر والخشوع وتلزم التقوى وكلمتها.. فمن يطرق الباب يوشك أن يفتح له.