أنت هنا

الإعلام بين محنة أهل السنة ومحنة العراق وبين المصداقية وأكذوبة العولمة
24 ذو القعدة 1427


عندما سقطت بغداد في أيدي الاحتلال الأمريكي- الصهيوني البغيض يوم 9 إبريل 2003 كان من المفترض أن يكون هذا اليوم علامة فارقة بين عهدين أو مرحلتين للأمة العربية والإسلامية فقد كان الحدث جللاً، بل كانت المصيبة الأعظم منذ احتلال فلسطين. ولكن رد الفعل الشعبي العربي والإسلامي لم يكن بحجم الحدث للوهلة الأولى، حتى برهنت المقاومة العراقية على قدرتها على وقف ليس تداعيات احتلال العراق فحسب بل وقف تداعيات امتداده لمناطق ودول أخرى من أمتنا كان قد تم الإعلان بصورة رسمية على أن الدور سيأتي عليها قريبًا لتحتل كالعراق.

والحقيقة فإنه يتعين رسم صورة مركزة ومكثفة للوضع السياسي في العراق، وتداعياته على أمتنا العربية والإسلامية، حتى يمكن أن نقيم دور الإعلام تجاه القضية العراقية، ما الإعلام إلا أدوات ووسائل تستخدمها أطراف مختلفة لخدمة سياساتها وأغراضها الخاصة، وما الحديث عن الإعلام المحايد إلا أكذوبة كبرى، وما الحديث عن الشفافية الإعلامية في زمن العولمة حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة لا يوجد فيها سر واحد، وكل ما يحدث فيها يتم كشفه فوراً على الهواء على الملأ، ما هذا إلا أكذوبة أكبر من حكاية الإعلام المحايد.
لا يمكن إذن تقييم دور الإعلام دون تقييم الأدوار والمواقف السياسية على مسرح الواقع السياسي. ومن هنا نبدأ.
*******************

كان احتلال العراق وسيظل علامة فارقة في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية بل كان وسيظل علامة فارقة في تاريخ البشرية. لأنه الساحة المرشحة لأن تنكسر على أرضها غطرسة القوة الأكبر في العالم. وعندما تنكسر القوة العظمى فإن وجه التاريخ يتغير. وقد توقع كاتب السطور هذه النتيجة السريعة للعدوان أما الآن فإن الأمر لم يعد محل خلاف بل إن الأمريكيين أنفسهم حكومة وشعب، جمهوريين وديمقراطيين، يؤكدون وصول أمريكا إلى طريق مسدود في العراق، والمسألة كيف تخرج أمريكا بكرامة من العراق ( كما صرحت كونداليزا رايس في القاهرة) أي بالحفاظ على ماء الوجه.

وعندما كتبنا قبل وبعد سقوط بغداد إن هذه الحرب ستكون حتف أمريكا، وكنا نسبح ضد التيار، فإن الآن كل التحليلات الموضوعية والجادة داخل وخارج الولايات المتحدة تقول بذلك، وكان أهم وآخر الدراسات لريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية ( ومعروف صلته بالخارجية الأمريكية) التي يتحدث فيها عن 5 عهود في الشرق الأوسط:
1. بداية من عام1774 الذي يشهد بداية تراجع الإمبراطورية العثمانية حتى انهيارها في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
2. انفراد بريطانيا وفرنسا بالشرق الأوسط.
3. نشوء التيار القومي وحرب 1956 وتبلور عهد الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.
4. زيادة نفوذ الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق والذي ظهر في حرب 1990 بالخليج.
5. سقوط العهد الرابع بغزو العراق!!
إذن فإن هاس يعتبر أن عهد الهيمنة الأمريكية سقط بقرار غزو العراق، لأنه أدى إلى:-
1. زيادة نفوذ إيران ونفوذ الشيعة في العراق.
2. ولأن العراق تحول إلى بؤرة إرهاب وفوضى وتنشرهما في المحيط ( هذا اسم المقاومة!!).
3. ولأن الكراهية ازدادت تجاه الولايات المتحدة بالمنطقة.
4. تعرقلت عملية السلام.
5. ازدياد نفوذ التيار الإسلامي وتعثر الأنظمة العربية التقليدية.

ويؤكد هاس أن استخدام جانب كبير من القوة العسكرية الأمريكية أدى إلى تقليص نفوذ
واشنطن على المستوى العالمي واصفًا ذلك بأنه من " سخريات التاريخ".
وتؤكد الدراسة- التي أعتقد أنها تعبر عن رؤية تيار عريض داخل السلطة الأمريكية- أن نفوذ الولايات المتحدة خلال المرحلة الخامسة وهى مرحلة الفوضى والإرهاب والاضطراب سيتجه إلى المزيد من التقلص وإن ظلت أمريكا أكثر نفوذًا من غيرها من القوى العالمية، إلا أن هذه القوى ستصعد مزاحمتها للنفوذ الأمريكي، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا.
وترى الدراسة أن من ملامح هذا العهد الخامس بروز دولتين كبيرتين في المنطقة: إيران- إسرائيل. ويؤكد الكاتب أن إسرائيل اليوم أصبحت من المنظور الاستراتيجي في وضع أضعف مما كانت عليه قبل المواجهة الأخيرة لها ضد حزب الله في لبنان.
ولم يكتف الكاتب بذلك بل عاد ليؤكد أن وضعها سيزداد تدهورًا إذا ما تمكنت إيران من حيازة السلاح النووي.

وتؤكد الدراسة أن الإسلام سيملأ الفراغ السياسي والثقافي في العالم العربي على حساب فكرة القومية العربية. وأن النظم المعادية لأمريكا ستستمر.
وأخيراً هناك نصيحة إلى الإدارة الأمريكية بعدم الاعتماد المبالغ فيه على القوة العسكرية لأنها تؤدى إلى زيادة انتشار التيار الراديكالي في العالمين العربي والإسلامي.
هذه رؤية العدو التي نرى أنها أرضية صحيحة لتحليل الواقع مع الخلاف في الأسماء والمسميات، ومع الخلاف في الأغراض والنوايا والأهداف. هذه هي الخريطة التي يتفق فيها الأعداء والأصدقاء.
ونعود مرة أخرى على ضوء هذا التحليل إلى الساحة العراقية، لقد كان غزو العراق أغبى قرار استراتيجي يمكن أن تتخذه دولة عظمى. فقد كان النظام العراقي قد خرج من مرحلة التعاون مع الغرب ( خلال الحرب ضد إيران) إلى مرحلة العصيان. وكان يمثل مشكلة حقيقية لاستكمال الهيمنة الأمريكية. ومن هنا كان الشعار الأمريكي المديد( نظرية الاحتواء المزدوج للعراق وإيران) بعد سياسة ضرب إحدهما بالآخر طوال الحرب العراقية –الإيرانية (8 سنوات). وشعار الاحتواء المزدوج كان يشير بوضوح إلى الرفض الأمريكي للنظامين، والسعي لإضعافهما وإسقاطهما معاً. وفى تلك الفترة بدأت أشكال من التعاون بين البلدين ( العراق- إيران) استمرت حتى سقوط بغداد.
كانت الخطوة العراقية لاحتلال وضم الكويت أمرًا سهل وضع العراق على رأس جدول الأعمال، وبدا أن الخلاص أولاً يجب أن يكون من النظام العراقي. وكانت حرب 1990 –1991، ووقفت إيران على الحياد طوال 45 يومًا. وعندما رأت قوى المعارضة الشيعية والكردية انه يمكن استغلال انكسار الجيش العراقي في الكويت، وحالة الضعف التي انتابت النظام من جراء القصف الأمريكي المتواصل على مدار أكثر من شهر، وبعد وقف إطلاق النار، تم تنظيم انتفاضة في جنوب البلاد تواكبها أخرى في الشمال الكردي.

وهنا كان القرار الأمريكي المزدوج:
1. رفض تقدم الجيش الأمريكي إلى بغداد لإسقاط النظام.
2. غض الطرف عن استخدام النظام العراقي لقواه العسكرية خاصة الجوية لإخماد الانتفاضة الشيعية.
هنا كان الموقف الأمريكي صحيحًا من وجهة نظر المصالح الأمريكية، فهو من ناحية راعى ماء وجه الحلفاء العرب والدوليين الذين تجمعوا تحت شعار " تحرير الكويت" لا " احتلال العراق" وحرصت إدارة بوش على الاحتفاظ بهذا التحالف الدولي الشامل. أما الأهم من ذلك فقد كان قرار جورج بوش الأب وإدارته صائبًا من وجهة نظر المصالح الأمريكية، لان أي عاقل يدرك أن إسقاط النظام العراقي سيكون في المحل الأول لصالح إيران وحلفائها الشيعة في العراق، أما الوجود الأمريكي في العراق فهو في كل الأحوال لن يكون إلا مؤقتًا ولا يستند إلى قاعدة سياسية أو اجتماعية وسيرحل في النهاية وستسقط الغنيمة في فم إيران خصوصًا والشيعة عموماً، ليس بالضرورة عن طريق الهيمنة الكاملة على العراق ( فهذا غير ممكن واقعيًا حتى وان رغبت إيران في ذلك) ولكن من خلال إقامة نظام حليف وصديق في بغداد لأول مرة منذ فترة طويلة. وأي دولة في العالم تسعى-إذا كانت الظروف مواتية- إلى هذا الهدف وتعتبره أمرا مشروعًا من صميم الأمن القومي، خاصة إذا كانت هذا البلد المجاور مصدراً لاضطرابات وقلاقل وحروب عبر التاريخ الحديث والقديم!

لكل هذه الاعتبارات، وليس على سبيل السهو أو الخطأ أو التكاسل أو التقاعس أو الاستجابة لطلب رئيس عربى، ليس لكل ذلك لم تتقدم القوات الامريكية- او على الاقل لم تحاول- الى بغداد. بل هى أصلاً لم تدخل أراضى العراق.
وظل الموقف الأمريكي على حاله اثنى عشر عامًا، ولم يكن الموقف مريحًا، ولم يكن استمرار النظام العراقى من المصلحة الامريكية، مع استمرار نظام ايران، وغيرها من مواقع الممانعة العربية والاسلامية، ولكن كان العزوف الأمريكي عن غزو العراق اجباريًا للحفاظ على كل المعادلات الاقليمية، مع تحقيق تقدم ملحوظ فى فصل الشمال الكردى عن العراق، وجعله فى احضان امريكية- غربية- صهيونية. هذا الصمت الأمريكي كان تحت شعار ( مكره اخاك لا بطل). وأخيرًا جاءت الادارة الممسوسة من الشياطين، من يطلق عليهم المحافظون الجدد. فهؤلاء دفعوا امريكا الى حتفها على اكثر من صعيد. ولكن ظلت منطقة الشرق الاوسط فى المقدمة كبؤرة للعالم، ماديًا ( البترول) وروحياً ( الاماكن المقدسة) واستراتيجياً ( الكيان الصهيونى) وايديولوجياً ( الحرب على الاسلام ).

تصور رامسفيلد انه اخترع نظريات عسكرية جديدة حين روج انه انتصر فى افغانستان وانتهى الامر بأصغر جيش احتلال ممكن (8-10 آلاف جندى) اعتمادًا على القوة الجوية. والنتيجة بعد 5 سنوات نسمعها على لسان قادة جيش بريطانيا وآخرهم المارشال بيتر اينج القائد السابق للجيش البريطانى الذى أكد ان بلاده ستتعرض للهزيمة فى افغانستان. بينما طالب قائد الجيش البريطانى الحالى السير ريتشارد دانات بسحب القوات البريطانية من العراق!!
فى العراق كان جنون قرار الغزو، الذى وان افتتح ملفًا مأساويًا للعراق الشقيق، إلا انه ان شاء الله سينهى ملف هيمنة امريكا على منطقتنا والعالم.
ويجب ألا يغيب عنا كمسلمين- وكأهل سنة داخل وخارج العراق- ان هذا هو الحدث التاريخى الجوهرى، ولابد من اعادة ترتيب وتطويع كل المتغيرات الاخرى لخدمة هذا الهدف العظيم.

تصور جهابذة الادارة الامريكية ان التاريخ يمكن اعادة رسمه وفقًا لرغباتهم ومزجوا بين التصورات الايديولوجية ( وهى بالمناسبة ليست جديدة وليست بعيدة عن كل الادارات السابقة وكل حكام امريكا) مع مزيد من الجمود العقائدى مزجوها برؤى استراتيجية تسعى لتأكيد هيمنة امريكا على العالم وقطع الطريق على صعود أى قوة منافسة جديدة خلال القرن 21 سواء من الشرق أو الغرب. وهو امر لا يمكن حدوثه بدون السيطرة على الخزان البترولى العالمى، وعلى هذه البقعة المحورية من العالم. وضرب المنافس الحضارى الأوحد ( المد الاسلامى).

وكان من ضمن الحسابات الخاطئة- من وجهة نظر المصالح الامريكية- هو تجاهل الرؤية الأصلية لدى مختلف الادارات السابقة ( بوش الاب- كلينتون) حول عدم الاخلال فى التوازن بين العراق وايران. وحل بعض الملفقين هذه المشكلة بتصور اقامة علاقة استراتيجية مع شيعة العراق ومن ثم ربما من خلالهم مع ايران، وتطويع ايران- كمرحلة تالية- بالترغيب والترهيب. عندما تم غزو العراق كان خاتمى فى سدة الرئاسة، وبعد ذلك جاء انتخاب احمدى نجاد الذى أعلن مرحلة جديدة بكل المقاييس فى السياسات الايرانية الخارجية والداخلية. ولم تكن تصريحات أحمدى نجاد حول ازالة اسرائيل من الخريطة، والتشكيك فى مبالغات وأساطير المحرقة على خطورتها الا مجرد بداية، أشبه بنوبة صحيان، وإعادة بناء وتلاحم المجتمع السياسى والشعبى الايرانى، حول مرحلة جديدة تجدد دم الثورة الايرانية وتعيدها سيرتها الاولى. وكان تمسك ايران ببرنامجها النووى جزءًا جديدًا ظهر من جبل الجليد الغاطس تحت الماء، ثم جاءت الاعلانات المتكررة عن الأسلحة الجديدة. ولعلها من ارادة الله أن تورط الحمقى الامريكان- الصهاينة فى حرب لبنان ليذوقوا طرفًا من التسليح الايرانى وليدركوا جدية الأمر، فبينما كان عدوان اسرائيل على لبنان تحت شعار الردع، تحولت الحرب الى ردع لاسرائيل وسيدتها امريكا، حتى لا يفكروا مرة اخرى فى ضرب لبنان، ومن باب أولى ايران!!

سقوط النظام العراقى بعد 3 أسابيع من الغزو، رأت فيه ايران ومعها شيعة العراق هدية جاءتهم على طبق من فضة. وكان الخط التكتيكى الذى تبناه قطاع عريض من القوى السياسية الشيعية هو عدم التصادم عسكريًا مع الاحتلال. والاستفادة من فسحة من الوقت لاعادة بناء قواها الذاتية من أعلى ( أى من خلال السلطة) ومن اسفل من خلال المنظمات والهيئات الاهلية.. بينما اعلنت القوى الاسلامية السنية وعدد من تكوينات وهيئات النظام السابق ( حزب البعث- تشكيلات الجيش- الاجهزة الامنية) الجهاد المسلح ضد الاحتلال وكان هذا الاعلان مبررًا لأن هذه القوى تملك القوى المادية والبشرية لشن مقاومة فورية واسعة ومؤثرة ضد الاحتلال والواقع- على عكس ما يتصور البعض- ان الحرب لم تتوقف بسقوط بغداد، فقد تحولت الحرب النظامية الى حرب عصابات ( مقاومة شعبية ) فورًا وبدون أى فاصل زمنى، ولم يعرف العراق فى أى لحظة وقفًا شاملاً لاطلاق النار، حتى عندما كان بوش يحتفل بالنصر المزعوم على متن احدى حاملات الطائرات الامريكية.

وكان هذا التصادم فى الخطط، وفى التعامل مع الاحتلال أول بوادر الشقاق الشيعى- السنى، رغم وجود معسكر وسط، قطاع شيعى يرفض التعاون مع الاحتلال، حتى وصل الامر الى حد المشاركة فى الكفاح المسلح (جيش المهدى) ومساندة معنوية ومادية للمقاومة فى معاقل السنة. وفى المقابل ظهر قطاع سنى يتبنى تكتيك التعامل السلمى مع الامر الواقع الاستعمارى والمشاركة فى الحكومة، والعملية السياسية، وبدا واضحًا ان الخلاف سياسى وليس مذهبيًا. ومع ذلك فقد تعمق الوضع مذهبيًا بعودة التيار الصدرى الى العملية السياسية، وبهذا أصبح التيار الغالب فى أوساط الشيعة (مع العملية السياسية وضد اعلان الكفاح المسلح) وأصبح التيار الغالب فى السنة هو مواصلة المقاومة المسلحة بلا هوادة، فتعمق الفالق بين الطرفين. وكان يمكن للطرفين ان يقسما الادوار بينهما، وقد حدث فى فترة ما ما يشبه التقسيم الفعلى والعملى للادوار، ولكن منطق مجريات الصراع لم يسمح بتبلور ذلك، فلم تكن هناك قيادة موحدة محكمة لأى طرف من الاطراف وتباعدت المواقف لتضارب المصالح والمواقع،وحدثت خلافات سنية- سنية الى حد العنف وحدثت خلافات شيعية- شيعية الى حد استخدام العنف. ولم يكن الطرف المحتل بريئاً أو متفرجًا.

حتى معارك الفلوجة الأولى والثانية لم تكن الفتنة الطائفية قد تبلورت، وكانت بعض القوات الحكومية ( الحرس الوطنى ) يسند الهجمات الامريكية فى معاقل المقاومة، وكانت نسبة مشاركة الباشمركة ( الاكراد) غير قليلة، وهناك من لا يقدر حجم دور الخطير للقيادة الكردية الطائفية (طالبانى- برزانى) فى إحداث الوقيعة بين السنة والشيعة، لانها الوسيلة الاساسية لمشروع الانفصال الذى كاد أن يكتمل فصولاً على الأرض. المهم كانت مشاركة الحرس الوطنى وغيره فى اطار الصراع السياسى المميت، ولم تتبلور مذهبيًا لأن ذات القوات العراقية النظامية اشتبكت بعد ذلك بالتعاون مع قوات الاحتلال ضد جيش المهدى.

ويبرر التيار الشيعى ( الاسلامى السياسى) الذى يشارك فى العملية السياسية موقفه استنادًا الى التاريخ القديم والحديث، وما تعرض له من مظلومية، واستبعاد من العملية السياسية بعد ثورة العشرين وحتى نهاية القرن. وكان خزان المواجهات الدموية مع نظام صدام حسين مما يصعب عملية لملمة الجراح أو تجنب المخاوف. وكان من المأمول أن تصل المراجع الشيعية الى اعلان الكفاح المسلح ضد الاحتلال فى لحظة ما من الصراع وهو الامر الذى كان كفيلاً بردم أى هوة طائفية وتوحيد الشعب العراقى فى وحدة وطنية لا مثيل لها. وحدثت خطوات على هذا الطريق بالصدام الكبير بين جيش المهدى والقوات الامريكية فى النجف وحولها حيث قدمت المقاومة السنية مساندة عسكرية لجيش المهدى.

وتحدث بوتائر متفاوتة عمليات فى الجنوب والوسط تتبنى مسئوليتها منظمات شيعية مجهولة ضد قوات امريكية وبريطانية وغيرها.
بعد حوالى عامين من الاحتلال أدرك الامريكيون حجم ورطتهم، وأدركوا أن الصراع الطائفى هو الحل. أدرك الامريكيون انهم مهزومون لا محالة، وخارجون من العراق، حتى دون أن ينجزوا تأسيس نظام موال لهم، فقد أدركوا ان القوى السياسية الشيعية التى تعاونت معهم ( فيما عدا بعض الاختراقات ) تخدعهم، وأنها اقرب الى ايران منها اليهم، واذا انسحبوا فإن النظام العراقى سيصبح نظامًا مواليًا لايران. وهكذا تكون امريكا بذلت كل هذه الجهود المادية والعسكرية وبذلت عشرات الالاف من القتلى والجرحى، والاهم من ذلك دمرت سمعتها ومكانتها الدولية، على مذبح ايران، أى لتصبح ايران هى القوة الاقليمية العظمى بلا منازع فى الشرق الاوسط وهذه هى الحماقة الاستراتيجية العظمى لأمريكا.

وهنا نجد الانقلاب فى الوجه المعلن للسياسة الامريكية وفى أدوات هذه السياسة، أما الوجه المعلن فهو اظهار التعاطف مع السنة، فبعد أن كان أهل السنة هم أوكار الشياطين والارهاب أصبحوا المستضعفين المظلومين، وتوجه الهجوم نحو الشيعة والممارسات الطائفية للحكومة، وأعلنت امريكا استعدادها للتفاوض مع قوى المقاومة بل لقد بدأت بالفعل التفاوض مع العديد منها. وضغطت من اجل المزيد من تمثيل السنة فى الحكومة والبرلمان، وكشفت عن انتهاك حقوق الانسان فى بعض السجون العراقية!! وهى تصطدم الآن بين حين وآخر مع جيش المهدى بحجة أنه يحتوى فى داخله بعض ما يسمى فرق الموت. باختصار شديد قررت الولايات المتحدة أن تلعب دور الحكم بين الطرفين بعد أن أوقعت وأفسدت بينهما. على اساس أن يشتكى لها السنة من مغالاة الشيعة، والعكس بالعكس. والحقيقة ان هذه السياسة لم تكن جديدة فاحداث درجة من الشقاق كانت واردة منذ اليوم الاول، ولكنها استفحلت وأصبحت هى الاداة الاولى والرئيسية للاحتلال، فإحداث الفتن وتطويرها يصبح هو الاساس بعد أن يفشل الاحتلال فى المواجهة مع المقاومة السلمية والمسلحة. وهناك كم لا بأس به من المعلومات الموثوقة التى تؤكد دور الاصابع الامريكية والصهيونية فى اشعال نار الفتنة، والقيام بشكل مباشر بعمليات ضد حسينية وضد مسجد وبقتل على الهوية، والمنفذون لا شك انهم فى الاغلب عملاء عراقيون، ولكن فى بعض الاحيان ضبط بريطانيون وأمريكيون فى حالة تلبس. ( لاحظ هنا دور الاعلام فى اخفاء هذا الجانب الاساسى) اذن هذه العمليات المتعمدة من الاحتلال، فى اطار الخلاف السياسى الأصلى المشار اليه، يمكن ان يشعل نار الفتنة الحقيقية. وتتحرك مجموعات شيعية وسنية للقتل على الهوية بشكل منظم أو عشوائى وهكذا تدور الدائرة. فالذى يشعل حريقًا يكفيه اذكاء النار فى بعض الحطب، ثم يترك آلية انتشار النيران فى بقية الحطام والهشيم وكل المواد القابلة للاشتعال، فتبدو الحريق طبيعية.

وفى هذا المناخ يكون الصوت الاعلى، والكلمة العليا للتيار الاكثر تشددًا أو تعصبًا على كل جانب، فهناك من يكفر الآخر من الجانبين، وهذا يعطى مادة اضافية للمزيد من الاشتعال، بل والمزيد من التأصيل للفتنة الطائفية على حساب المعركة الرئيسية مع الاحتلال. ونحن لا نتكلم عن حملات اعلامية أو صحفية، بل دماء تسيل، وفى هذا المناخ ترتفع رايات الثأر، ويتراجع صوت العقل والمنطق ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما) ولا شك ان الطرف الشيعى يتحمل المسئولية الاكبر لانه الطرف الاقوى فى هذه اللحظة وان كانت التقديرات تختلف حول الطرف الذى أصاب الآخر بصورة أكبر بالذات فى مجال القتل العشوائى للمدنيين، كذلك لا يمكن تقدير نسبة العمليات المدبرة من الاحتلال، كضرب المساجد بالهاونات، والسيارات المفخخة المجهولة، والجثث التى توجد بالعشرات كل يوم ملقاة فى الطرقات، ان معظم عمليات القتل تجرى فى الخفاء ولا يمكن الجزم بمن قام بها.

فعندما أدرك الاحتلال أن حلمه باحكام السيطرة على العراق الموحد قد تبدد فقد راهن بصورة اكبر على التقسيم الفعلى مع الاحتفاظ بمركزية واهية وضعيفة وشكلية، وتكون امريكا هى الحكم بين الاطراف الثلاثة فى اطار الفيدرالية الواهية ( سنة- شيعة- أكراد). وفى اطار هذا المخطط العدوانى الذى يضرب السنة بالشيعة والشيعة بالسنة فان الحل لا يكون الا بالتوحد فى مواجهة الاحتلال. وإن حركتنا يجب ان يكون شعارها كما كان فى الاصل: مقاومة العدوان، وعلينا ان نساند أهلنا من السنة فى مقاومتهم للاحتلال، ونعلن فى ذات الوقت مساندتنا لأى طرف عراقى يقاوم الاحتلال، سنى أو شيعى، علمانى أو اسلامى، كردى أم عربى أم تركمانى أم اشورى أم مسيحى..إلخ.
كذلك فإننا ندعم المقاومة فى مواجهة الاحتلال وكل القوى التى تساند الاحتلال. ولابد ان نفعل مقررات مؤتمر مكة- من جانبنا- لانه فى مصلحة السنة ومصلحة الاسلام ومصلحة العراق. وقد نصت على حرمة دماء وأموال وأعراض المسلمين.

وبالتأكيد وصلتنا تقارير لا يمكن التهوين منها عما تعرض له أهلنا من السنة فى الجنوب خاصة فى البصرة، وأيضًا وصلتنا بصورة مؤكدة بيانات رسمية مقرونة بالافعال ومعترف بها من تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين تجاه اخوتنا من الشيعة المدنيين وكل طرف يعتبر ان الطرف الاخر هو الذى بدأ وهو صاحب السجلات الاسوأ، واذا كنا حقًا نريد ان ندرأ الفتنة ونزيف الدم فليس من المهم الآن التأكد من هذه الاتهامات المتبادلة، ذلك أن واجب الوقت هو وقف النزيف بصورة فورية وعلى أى صورة من الصور. وهذا هو معنى الآية الكريمة " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" هذا الشطر الاول من الآية يشير الى وقف اطلاق النار بصورة فورية " فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت" ثم تنتهى بعد ذلك بالعدل والقسط " فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) ( 9-10 الحجرات)

يقول اخوتنا السنة فى العراق وخارجها وهم يسردون العديد من الوقائع ان الاخوة الشيعة استقوا بايران المجاورة وبسلبية قوات الاحتلال فى مناطق الجنوب والوسط، ليمارسوا نفوذهم كما بدا لهم، ويطغوا على الوجود السنى. ونحن يجب الا ننكر على بعضنا اعتزاز كل منا بمذهبه، فهو اجتهاده فى ممارسة العقيدة وهو أمر محورى فى حياته.ولكن فى هذا المجال كما فى شتى مجالات الدعوة فإن الاساس هو الحكمة والموعظة الحسنة، ومساندة الدعوة بكل السبل المادية والروحية ولكن ليس بأى شكل من أشكال الإكراه، فالاكراه مرفوض ومدان حتى مع أصحاب العقائد الأخرى.

فاذا كان شيعة العراق يستظلون بالمرجعيات الدينية فى قم وبالنفوذ الايرانى، ففى اطار التنافس فى الخير أين هى الدولة السنية التى ترعى الاسلام والحركات الاسلامية فى العراق. إن أكبر الدول السنية ( مصر- السعودية- الاردن) المحيطة بالعراق تتآمر على الحركات الاسلامية السنية قبل الشيعية فى العراق وفى بلادها وفى فلسطين. وبالتالى بدون كثير بحث وتدقيق فى الانباء التى يوردها الاخوة السنة بالعراق، فنحن نرى بشكل عام أن وضعهم النسبى فى تراجع مستمر ليس بسبب القلة العددية المثيرة للجدل، ولكن بسبب غياب الظهير السنى من أى بلد مجاور أو حتى غير مجاور. وبالتالى فان اعادة الحالة العراقية إلى نقطة التوازن الصحية التى تفتح الباب لاعادة أجواء التسامح والعيش المشترك وفق المشتركات العقدية، هو وجود مساندة سنية خارجية للحركات الاسلامية والمقاومة السنية ليس ضد الشيعة ولكن ضد الاحتلال، ومن أجل ايجاد صيغة متوازنة للوحدة الوطنية.

ولكن هذه النظم التى تتحدث باسم السنة هى فى الحقيقة ضالعة فى تحالف استراتيجى مع أعداء الله (امريكا- الصهيونية- الغرب). وهى سبب الخراب الذى يعانى منه العراق الآن، لأنها هى التى كانت الجسور التى عبرت من فوقها قوات الاحتلال فى الحربين الآخيرين 1990، 2003، بالمعنى الحرفى للكلمة، فقد مرت القوات الاجنبية من أراضيها وأجوائها ومياهها الاقليمية كما قدمت هذه النظم المحسوبة على " السنة" كل المبررات الشرعية " الدينية" والسياسية لضرب وتدمير واحتلال العراق، وهو الامر الذى لم تفعله ايران الشيعية، ولا تركيا المنطوية تحت لواء حلف الناتو!!

وهى نفسها ذات الانظمة التى دفعت العراق ومولته فى حربه العبثية ضد إيران على مدار 8 سنوات تحت شعارات " معاديه للشيعة " وهذه النظم تأتى الأن مره أخرى بعد تحطيم نظام صدام حسين , وبعد 15 عاماً من كيل المديح لإيران (1990 ـ 2005 ) وفقاً للتوجيهات الأمريكية . وتعود مرة أخرى ـ وفقاً لتوجيهات واشنطن الجديدة ـ إلى الحملة على إيران والشيعة وعلى الحركة الشعبية خاصة الإسلامية السنية ألا تنساق وراء هذا المخطط رغم كل تحفظاتها أو إنتقادتها على ممارسات قطاع واسع من القوى السياسية الشيعية في العراق , أو حتى رغم وجود أي ملاحظات أو تحفظات أو خلافات مع السياسة الإيرانية, فإن البوصلة يجب ألا تختل في أي وقت تجاه العدو الرئيسى للأمة : الحلف الصهيوني الأمريكي .

إن الساحة العراقية مفتوحة ومن يرد أن يدعم أهلنا السنة فليتفضل ويقويهم ما الذي يمنعه ؟!
الحقيقة أن الدعم الرئيسى للسنة إن أردتم هو دعم المقاومة المسلحة ضد الأحتلال , هذا هو أهم إنجاز تاريخى وعالمى قام به السنة رغم ثقتنا بأن المقاومة تضم شرائح شيعية وكردية بنسب متفاوتة , ولكن بلا شك فإن الخسائر الكبرى للاحتلال الأمريكي كانت معظمها في معاقل السنة , أي المناطق الشمالية والغربية التي يغلب عليها التكوين السنى.
ولابد للقوى السنية المجاهدة في العراق وخارج العراق ان تجرى حواراً مع إيران، قبل ان تعلن استعدادها للحوار مع أمريكا، بل لقد بدأ البعض بالفعل هذا الحوار مع أمريكا. ولابد من ايجاد صيغة مشتركة مع إيران لحل الأزمة العراقية. وان توازن القوى حتى بين الأصدقاء هو الذي يحدد نتائج هذا التفاعل. وعلينا ان نرفض هذه النغمة الممجوجة: كل طرف يرى الحوار والتعاون مع أمريكا أفضل من الحوار والتعاون مع أخيه المسلم. واعتقد أن الموقف الايرانى قابل للتطور والتفاعل الايجابى في ظل التهديدات الأمريكية المتصاعدة ضد البرنامج النووي الايرانى. كما يجب ان نلحظ ان الموقف الايرانى ليس متطابقًامع كل التصرفات التي يقوم بها شيعة العراق. والموقف الايرانى نفسه يحمل درجة من التعددية في اطار مؤسسات الجمهورية الاسلامية. وأيضًا الموقف الشيعى العراقي ليس موحدًا. وهكذا.

إذن مساندة أهلنا من السنة في اطار مساندتنا للعراق تتوقف على:
1. دعم سياسى ومالى ومادى ومعنوى للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
2. تقديم كافة أشكال الدعم لهيئات العمل الاسلامى الخيرية والدعوية السنية.
3. تشجيع تنمية هيئات اسلامية مشتركة تجمع السنة والشيعة وكانت في العراق مبادرات في هذا الاتجاه.
4. تكتيل كل الجهود لانجاح اعلان مكة وتفعيله على أرض الواقع لوأد الفتنة.
5. تكثيف اتصالات القوى الاسلامية والعلماء السنة مع مختلف الاطراف العراقية لتوحيد الموقف العملى ضد الاحتلال الأجنبى.