عندما ندرك معنى السكن ندرك معنى للحياة
9 ربيع الثاني 1429
صفية الودغيري

سؤال لطالما خالجني .. بينما اتدبر المسئولية الأسرية .. من المسئول ابتداء عن بث روح الحب يسري في أركان الأسرة ؟ من هو القلب النابض الذي يحرك روح الحياة فيها ؟
ومن رؤيتي الخاصة – ومع كل تقدير لمسئولية الرجل – أراني أقول إنها مسئولية المرأة , إن الركيزة والدعامة الأساسية التي يقوم عليها بناء الأسرة ، بل المجتمع ككل هي المرأة .
وإذا كان قديما جرى على الألسُن أن وراء كل رجل عظيم امرأة ، فإننا سنقدم اليوم مقولة أكثر مناسبة وانسجاما مع دور ومكانة المرأة : (إن وراء أي مجتمع متقدم أو شعب متحضر ، أو بلد مزدهر أو أسرة سعيدة امرأة )
وأنا حين أطلق هذه المقالة لا أقصد المبالغة في المدح ولا الثناء للمرأة ، بل أقصد الحق في إنزال المرأة منزل صدق ، يرتقي بوظيفتها لمقام يسم بها .
إن المرأة الناجحة في كل وضع تؤسس وتبني أركان كل بيت ، وتقيم دعائم كل أسرة ، وتنشئ مجتمعا وأمة , وهي في كل هذا تعِد أجيالا ، إنها الكُتّاب والمدرسة والجامعة التي تخرج لنا رجالا ونساء ، يحملون شهادات امتياز وتقدير، تؤهلهم لمناصب القيادة والريادة ، ولتحقيق التنمية الشاملة لكل بلد مسلم ، والارتقاء بكل شعب مسلم في مختلف الميادين والأصعدة .

لقد كانت المرأة ومازالت الدعامة الأساسية في البناء ، لذلك كانت ومازالت محط اهتمام الجميع خاصة أعداء الإسلام ،الذين كانوا دائما يسعون لاستهدافها وتسخيرها لتحقيق أطماعهم ، ولغايات أخرى تصرفها عن دينها ، من خلال إجراء عمليات تفريغها من عقيدتها، وسلخها عن هويتها، وتغيير عاداتها حتى تصير معول هدم لا بناء للأسرة والمجتمع ، وتصير بغير مرجعية إسلامية ، مقتلعة من أصولها وفروعها ..

ولو أخذنا في الحديث عن دور المرأة في المجتمع لاستنفذ هذا منا وقتا طويلا لكنني اليوم اخترت جولة من بين الجولات مع المرأة داخل بيتها ، باعتبار أن البيت هو نواتها ومكانها الذي تنطلق منه ابتداء وهو في ذات الوقت هو القلب النابض الذي يحيا به المجتمع ، فلو صلُحت هذه النواة ، وصفا المنبع ، وانتظم نبض هذا القلب صلح المجتمع ونما ، ولو فسدت هذه النواة وتكدر هذا المنبع واختل نبض هذا القلب فسد المجتمع وتخلف عن ركب الأوائل ..

والمرأة هنا يجب عليها أن تقدم نموذجا عمليا لأحد مهامها العظيمة داخل مجتمعها ، حين تسعى لتبث روح الحياة الجميلة والسعيدة ، و تساهم في عطاء مستمر لتحقيق معاني : السكن والمودة والرحمة .. داخل البيت .

إنها معان وقيم مستوحاة من ديننا الحنيف ، ولا تملك أن تطبقها إلا المرأة المسلمة الصالحة التي تدرك أن الإسلام رفع من شأنها ، وسما بمكانتها ، وحررها من قيود الأغلال التي كانت تقيدها وتسجنها ، وتحرمها من حق الحياة الطيبة الكريمة العفيفة .. المرأة المسلمة التي تعي أنها مسئولة عن نفسها وعمن تقوده داخل بيتها وخارجه ، وأنها تقدم في شكلها وظاهرها كما في باطنها وجوهر معدنها نموذجا عمليا للقدوة الصالحة ، التي يحتذى بها في كل شيء ، وتستحق بذلك شرف أن تكون مربية أجيال ، وصانعة حضارة ..

لأن أساس التربية المستقيمة هي القدوة الصالحة ، وأن الأصل الذي يتفرع عنه تحقيق هذا المعنى ، يعود إلى أصول إعداد المرأة أفراد بيتها إعدادا تربويا يقوم على منهج تعبدي رباني .
كما أن عليها مسئولية ثقيلة في تخريج جيل مسلم مستقيم ، وتنشئة رجال ونساء تفخر بهم الأمة ، وبالتالي تكوين وحدة متكاملة ، وإقامة بيت على قاعدة صلبة وعلى أساس من البذل والعطاء ، ولا تكتف بهذا بل تجاهد حتى تلغي من قاموس حياتها كلمة "الأنا " ، وتدفع صوت الأنانية الصارخ عن النفس ، ذلك الصوت الذي طالما أذعن له الكثير من الأزواج ، حتى ما عادت آذانهم تنصت لسواه ، أو تستمتع وهي تلقي سمعها تترقب أصواتا أخرى شجية ، تبث في النفس معنى حياة .

فحين لايرى كل فرد من هذه الوحدة إلا نفسه ، ولا يسمع إلا صوته ماذا يحصل ؟ إنه يلغي من وجوده كل وجود آخر معه ، لغاية ما تتحول عنده "الأنا" تدق ناقوس الخطر، تفرض سلطان صوتها القوي تدريجيا على مواقع هامة من روح وجسم الأسرة بأسرها ، فتشمل أجمل علاقة بينهما علاقة الارتباط العاطفي الوجداني الذي يربط بين زوج وزوجة ..

فتتحول لعلاقة جافة كأرض موات لا تنبت تربتها ، ولو مرت عليها ريح مرسلة بغيث مطر، ويفقد كلاهما الشعور بوجود الآخر أو بأهميته في حياته ، وتبدأ هنا لحظات الغربة ، لحظات تصير فيها العواطف عطشى لمن يرويها ، غير مشبعة , باردة ومتجمدة كالصقيع ، تتطلع لدفء يسري في أوصالها فيحييها ، هنا تخرس الألسُن عن الكلام ، ولا يفضُل إلا بقايا تستنطق لغة الغضب ، فتذوب معها كل الكلمات ، وتضيع كل المعاني ، وينتشر الصمت القاتل ، فيفصل روحا عن روح ، ولا يتبقى إلا أجساد تتحرك ، يفصل بينهما الزمان والمكان والتاريخ .. ويموت الحلم والحب غيلة ..

وتمسي الالتزامات الأسرية بينهما (كزوج أو زوجة) قاصرة على التزامات شكلية لا تتعداها ، ومع أنهما يظلان مرتبطين بوشائج ذاك الرباط المقدس ، رباط الزوجية ، لكنه لا معنى له سوى معنى لا يتعدى أن يكون رباطا اجتماعيا صوريا فقط ، رباط قد يتخذ له اسما أومظهرا شكلياً بدون وقوع طلاق أو انفصال بينهما ، إلا أنه لا حقيقة له ، بل الحقيقة الوحيدة له أنه طلاق ، إلا أنه معنوي وليس حقيقي ، لأنه لم يستوف أركانه الشرعية والقانونية ليشمله هذا الإطلاق .

فعندما يتحول الوضع الأسري ، لوضع آلي ميكانيكي فقط ، خال من روح العاطفة والمودة والألفة ، ماذا يعني هذا ؟ عندما يكون هم الزوج الوحيد منصب على عمله ، ونجاح مشاريعه ، وأن وظيفته الوحيدة كزوج هي أن يمول أسرته باحتياجاتها ، والزوجة كذلك تتحول مهمتها لمجرد القيام بوظيفة الخادمة فقط ، ( مع أن هذا ليس عيبا بل تشريف لمهامها داخل بيتها ) ، لكن دور الزوجة لا يتوقف عند القيام بشؤون المنزل والمطبخ والرضاعة ..
إن تلك الحالة تجعل كلا منهما متربصا بالآخرويلتقط زلاته وهفواته وأخطائه ، حتى يصير كلاهما جلادا يحاسب الآخر ويعاقبه على تقصيره في مسؤولياته الأسرية ، ويغفل عن مسؤولياته الروحية والوجدانية حينها ماذا يعني هذا ؟ إنها مجرد صورة فقدت معالم الحياة الحقيقية ، واحتفظن فقط بمعالم للون واحد للحياة... ليس إلا لونا وواحدا فقط ... لون البؤس .. والمعاناة ..والشتات ..
هنا سيغرق كلاهما في خلق عالم منفرد به ، وسيشرع كلاهما يكتب في معزل عن الآخر ما يكبته من ثورة آلام وأحزان ، ( وإن كان سيكتشف لاحقا أن ما سجله لا يتعدى عبارات وكلمات وحروف عاجزة ، تائهة ، تحبو ثم تتساقط )
إننا لسنا بحاجة لكلمات نكتبها في خفاء ، نكتبها لنطالعها نحن فقط ، ولا يعلم بوجودها أحد ، كلمات تظل مسودة في أوراق ، قد تبلى مع توالي الأيام ، حتى ينتهي بها المطاف يوما ، تلقى في سلة النسيان ، حيث تتراكم كل الأوراق ، أوراق ذكريات الماضي و أحداث الحاضر , بل نحتاج لوقفة جريئة ، من خلالها يساهم كل من الرجل والمرأة ليعيد الدفء لبيته ، ويبعث روح الشعور بالسكن في أرجائه ، ويواجه ما يتعرض له من مشاكل ، يتحداها بحكمة عقله ونبض حب قلبه ، ويسعى ليحقق هذا الحلم الذي طالما توهم كلاهما أنه ليس المسئول عن تحقيقه .

لا يمكن بالطبع أن نطلب من المرأة أو من الرجل بمفرده أن يحقق هذا الحلم ، بل الذي أراه أنه معنى مشترك ، ينسج خيوطه كلاهما معا ، لأنهما لم يرتبطا لمجرد إقامة علاقة شرعية يوافق عليها القانون والشرع أبدا ، وإنما هو شعور بوجود حياة يتولد بينهما معا ، شعور بجنين يتحرك في رحم الحياة ، ينمو ويمر بمراحل مختلفة ، يبدأ صغيرا ثم يكبر ، ثم يثور ليخرج من هذا الرحم الضيق لحياة ذات مساحة أرحب ، تشمله بحب أكبر وأعظم ، إنه مولود لم تنجبه رحم المرأة وحدها بل هي والرجل معا ، الفرق الوحيد أنها كانت الحضن الدافئ ، الذي احتوى هذا المولود مدة كافية لينمو فيه ، يتنفس ويتغذى ويعيش .. لغاية مرحلة يكون فيها مستعدا لتحمل مسؤولية وجوده منفردا ، وهذا المولود الجديد سيشمله كلاهما برعايته ومتابعته .. ،إنه شعور بمسرى حب يتدفق ، ويتجدد ولا ينضب بينهما .

عندما أطالع آية عظيمة جليلة القدر وهي قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: 56 ، أعلم يقينا على أنني كمرأة لم أخلق في هذه الدنيا عبثا ، وإنما لغاية أعظم من مجرد وجودي في حياة ، وإنما وجودي لغاية ولأداء رسالة وتبليغ فحواها ، إنه توجيه إلهي يربيني ، يصحح مفاهيمي ، يرشد عقلي وينير دربي ، ويهدي قلبي ، ويوجه جوارحي توجيها صحيحا لتتحرك بهدف ، كما يربي ويوجه كلا من المرأة والرجل في ارتباطهما معا ، وفي تحقيقهما لمعنى السكن ، فكيف يمكن أن يحققا هذا المعنى ، وهما لم يدركا أصلا معنى لوجود حياتهما معا ؟! ، إن هذا التوجيه الإلهي يقدم لنا قاعدة أساس ، في تطبيقها إقامة لدعائم الأسرة المسلمة ، قاعدة تمارسها في كل حركة من حركات جوارحها شعورا ووجدانا ، وتتمثلها أخلاقا وقيما وسلوكا ومعاملات .

وحين يدرك هذه الغاية كل من الزوج والزوجة ، ويتعاملان على أساس هذه القاعدة الإلهية ، سيتحرر كلاهما تلقائيا من استعباد غاياته المادية وينفك عن أغلال ارتباطاته الدنيوية ، عملية تخلية من المكدرات التي تسجن روحه وجسده ، تعقبها تحلية ترتقي بهذه النفس في اتصال مباشر مع كل ما هو رباني ، يصلها بالله حبا وطمعا ، ورهبة وخوفا ، كما يصلها به رغبة ورجاء وأملا وطمعا ..

لهذا أرى أننا ينبغي أن نجدد علاقتنا بالله ، حتى نملك نبث الحياة داخل بيوتنا ونذيب جليد الصقيع الذي يصرف دفء المودة والرحمة والمحبة في أركانها .
لن أقول كيف نصل لنجدد علاقتنا بالله ، لأنني أدرك يقينا أنه ما من مسلم ولا مسلمة يجهل طريق الحق فيسلكه ، ولا منهج الحق فيتبعه ، لكن يحتاج كل فرد منا في توثيق علاقته بالآخر ، أن ينطلق بداية من توثيق علاقته بالله مستعينا في ذلك بمعالم على الطريق تهديه سبل السلام ، وخارطة توجهه التوجيه الصحيح نحو مرفأ الأمان ، والغاية المنشودة .

عندما يعرف كلاهما طريقه ومنهجه الحق فلا يحْدُ عنه ، سيدرك معنى للزواج ، غير المعنى التقليدي المتعارف عليه ، سيدرك أن الزواج يحمل معنى السكن بكل ما تحمله من معاني الراحة والسكينة والهدوء والاطمئنان والاستقرار والحماية ...معاني تثلج الصدر وتسعد الروح والجسد .

إلا أننا ونحن نبحث عن سكن ، سواء سكن الروح أو سكن الجسد ، ينبغي أن ندرك أن تحقيق هذا الحلم الجميل يحتاج منا أن نحسن الاختيار ، فهذا الحلم الجميل يستحق أن نعيشه مع من تتوفر فيه شروط تحقيق السكن والمودة والرحمة ..

لابد لإقامة سكن من اختيار موفق لأرض تقيم عليها قواعد ثابتة لا تنهار مع أول ريح تهب أو عاصفة تتحرك ، لا بد من تفكير حكيم ورأي سديد وعزم أكيد مصحوب دائما بالتوكل على الله ، والاستعانة به حتى يتوجه ويستقيم اختيارك فلا ترسو سفينتك إلا على مرفأ أمن وأمان ، وتستقر على أرض تهب عليك بنسائم الفرح والبهجة ، فتأبى أن ترحل عنها لأنك وجدت فيها مبتغاك وكل مناك ، لو فكر كل واحد منا واستشار واستخار قبل أن يستعجل جني الثمار قبل الأوان ، ما أصبنا فيما أصابنا من محن انفصام عُرى الصلات الزوجية ، وانقطاع أواصر المحبة والرحمة والمودة بين الأزواج ، لما رزئنا بانهيار بيوت وتشرد أطفال ، لتفادينا خسائر نفسية وجسدية .
ختاما ما أجمل أن تقيم حياة زوجية على أسس ثابتة وشروط إسلامية متينة ما أجمل أن تجد في الآخر شروط السكن الذي يحمل كل المعاني الجميلة والصادقة .