أنت هنا

د.عبد الوهاب المسيري.. طاعن الصهيونية بسن القلم
1 رجب 1429

تفرد وحده بعبء يتحمله فريق من المفكرين والباحثين، سار بطريق صعب لا ينجذب إليه الباحثون؛ فما أصعب أن يبدأ المرء في مشوار لا ينتهي من الدراسات والأبحاث في مضمار تبغضه قلوب الشعوب العربية بمثقفيها وبسطائها، ولا أبعد من أن يدرس الباحث حياة وأفكار ومجتمعات "المغضوب عليهم".

كان إلى هذه الثغرة أسبق؛ فلقد كان لابد وأن يتصدى فريق لهذه المهمة، وهي دراسة العدو، وقد كان د.عبد الوهاب المسيري هو هذا الفريق الذي أنتج "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد" الواقع في ثمانية مجلدات، وهي أهم وأبرز ما كتب في هذا المجال، وجموع الباحثين في هذا الصعيد عيال على هذه الموسوعة التي قل أن تخلو منها قائمة مراجع لكتاب عن اليهود أو عن "إسرائيل".

ولد المفكر عبد الوهاب المسيري في العام 1938 بمدينة دمنهور بشمال مصر، والتي قال في حديث مع "المسلم" عن نشأته فيها إن "هذه النشأة أثرت ومازالت تحكم رؤيتي للأشياء، فجعلتني مثلاً قادراً على التحرك في عالم الحداثة، وفي نفس الوقت أنظر إليه بنظرة نقدية رافضة، وهذه هي الإشكالية التي تحكم حياتنا حتى الآن، أي كيف نعبر عالم الحداثة دون أن نفقد قيم وتقاليد المجتمع الذي نعيش فيه"، ومن ثم درس بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وعُين معيدًا فيها عند تخرجه، وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963، حيث حصل على درجة الماجستير عام 1964، ثم على درجة الدكتوراه عام 1969 من جامعة رَتْجَرز.

 

وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية، من أهمها جامعة الملك سعود كما عمل أستاذا زائرًا في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا الإسلامية، وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، ومستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك.

وخلال مسيرته التي أنهاها بقيادة حركة كفاية المعارضة أسهم في الحركة الثقافية المصرية بعدد من الكتب التي تركها لها في شتى مجالات المعرفة.

تمتع الفقيد بعلاقات متميزة مع مجمل القوى الإسلامية والوطنية والقومية في العالم العربي، ونعته حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، واعتبرتا فقدانه خسارة للقضية الفلسطينية، وحضر الشيخ يوسف القرضاوي خصيصاً من قطر، يتقدم لفيفاً من المفكرين وقادة الفكر والرأي والأحزاب والقوى الإسلامية والوطنية، وقال في تأثر بالغ عن الراحل :" نودع اليوم رجلاً من رجالات الأمة والرجال قليل ، وإذا كان الرجال قليل فالعلماء أقل ، والمفكرون أقل وأقل، ويكفي المسيري أنه ترك لنا هذه الموسوعة العظيمة عن اليهود ، وأنه عاش سنينا طويلة في محراب العلم راهبا بعيدا عن الأضواء "، مضيفاً أن المسيري كان يناقش الأفكار الغربية التي سيطرت على الكثرين مثل العلمانية سواء الشاملة أو الجزئية ، وكان صاحب مدرسة متميزة في الحقيقة ، أما تلامذته فهم أساتذة اليوم ، وشهدت سنواته الأخيرة إنتاجا غزيراً في مختلف المجالات التي تحتاج الأمة إليها. وزاد أن المسيري لم يكتف بعطائه العلمي فحسب، بل شارك في العمل السياسي العام رغم مرضه الشديد الذي يقعد الكثيرين، فقاد حركة "كفاية" ونزل بنفسه للشارع وتبنى مطالب الجماهير ، وقال: إنه "كان رجلاً متميزاً عرفته عن طريق المعهد العالمي للفكر الإسلامي ثم زادت صلتنا بقوة ولن أستطيع أن أوفيه حقه ، ولكن أقول إنه من أولي العزم واستطاع أن يكون مؤسسة بمفرده ".

ومن جانبه رأى الدكتور مازن النجار (المفكر الفلسطيني) أن رسالة المسيري قد تحققت بالفعل منذ عشر سنوات على الأقل ، بعد أن طرح مشروعا فكريا متكاملا ، ومثل في حياته اختراقا هاما للعقل العربي الإسلامي في كيفية مواجهة الغرب ، وكيفية تجاوز الأسس المهيمنة على النظام العالمي ، وعالج كل ذلك بصورة فكرية حضارية ، كما أظهر المسيري كيف أن العدو الصهيوني والنموذج الحضاري المهيمن على العالم "تافه وهش ".

وبعد، فقد وافته المنية في مستشفى فلسطين بالقاهرة فكان كما قيل في جنازته "احتضن فلسطين حياً احتضنته ميتاً".

رحم الله المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، وتجاوز عن سيئاته، وأسكنه فسيح الجنان.