أنت هنا

عمر البشير.. الراكض خارج المضمار
14 رجب 1429

جملة من الأحداث والمتغيرات التي حلت بالعالم وإفريقيا جعلت عمر حسن البشير رئيساً استثنائياً للسودان، أو لنقل أنه جاء في لحظة استثنائية عن سياق تاريخي مر بالسودان.

السودان المسلم هو ليس جمهورية من جمهوريات الموز، بل أكبر بلد إفريقي، وشعلة ينبعث منها التأثير إلى أصحاب البشرة السوداء في إفريقيا، وفي سالف الأزمان كانت الخريطة الإفريقية تحمل اسم السودان لتحديد مساحة شاسعة من القارة تمتد من البحر الأحمر شرقاً إلى الأطلسي غرباً.. في هذه البلاد ذات الطابع الإشعاعي الإفريقي تتغير الأحوال بسرعة، لكنها خلال سني حكم الرئيس البشير شهدت أكثر مما هو متوقع من تداعيات.

فالرئيس الذي جاء إلى الحكم عبر انقلاب قبل أقل قليلاً من عشرين عاماً، والذي يبلغ من العمر 64 عاماً، لا تزعجه قلاقل الداخل على شيوعها وضراوتها بقدر ما تقلقه تدخلات الخارج والتي تحرك ببراعة خيوط الداخل.

قبل أيام طالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو بإصدار مذكرة اعتقال في حق الرئيس السوداني عمر البشير بزعم تورطه في جرائم حرب تتعلق بدارفور، وبدا الأمر كعنوان جديد لمرحلة تنتظر السودان الذي تعافى اقتصادياً إلى درجة ما من آثار الحروب الداخلية، وشرع في الإفادة من عوائد النفط المكتشف هناك، والتي نظر إليها الغرب الشره إلى الحقول النفطية باعتبارها غنيمة سقطت من يده عندما قررت حكومة الثورة الإنقاذية السودانية بزعامة البشير تشجيع الاستثمارات النفطية من جانب الصينيين وبعض دول آسيا بدلاً من الشركات الغربية.

ومثلما كانت هذه جريمة بحد ذاتها في أفغانستان طالبان، كانت تلك مثلها أو أكبر منها في سودان الإنقاذ، يبتز بسببها الرئيس السوداني عمر البشير الآن، ويدفع ثمنها الشعب السوداني الذي كاد يستعد لقدر من الرفاه مع بدء وصول جماعات المستثمرين العرب في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية، التي لاشك ستعاود الآن حساباتها، وتضن بالمال الاستثماري الجبان ـ بطبعه ـ بعد أحداث أم درمان ثم هذه المذكرة الإجرامية التي توشك أن تصدر بحق الرئيس السوداني.

لكن هذه الأزمة التي جند لها البشير نائبه ليرأس لجنة تسعى للحؤول دون صدور قرار من المحكمة الجنائية الدولية كهذا، مع ما يحمله ذلك من تقوية شديدة للجناح الجنوبي في حكومته، والذي يسعى للاستقلال عن السودان، قد لا تقضي على سلطة البشير التي تحاول وسط الضغوط أن تجد لها فسحة تفيد من ظرف دولي مواتٍ لإعادة المياه إلى مجرى الوحدة السودانية العزيز.

لقد نفخ الغرب كثيراً في القضية الجنوبية، لكن البشير نجح ابتداءً في تقليص التدخلات الإقليمية من الدول المتاخمة لحدوده، من دون أن يفلح كثيراً في إيقاف قطار التقسيم، ثم سعى لتجميد المواقف كثيراً وتحريك ملف المسيرية في الجنوب لصالح الوحدة قليلاً أملاً في حرق الوقت لصالح الوحدة، غير أن الغرب واقف له بالمرصاد، ويسعى لإشعال قضية دارفور بشكل متعسف، لتحميل الحكومة السودانية كل المسؤولية عن لأوضاع فيها، نازعاً اليد الأمريكية والفرنسية الخبيثتين من تبعة تأجيج صراعاتها، والمرشح الجمهوري بدا متوعداً السودان المسلم عامداً في حملته الانتخابية كتوطئة للتدخل السافر فيه.

و"كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله"، وبمزيد من المشكلات المفتعلة يظل الضابط العسكري الذي حارب إلى جانب المصريين في حرب 73، ثم حقق انتصاراً آخر في الجنوب قبل توليه الحكم، والإسلامي الذي يتعاطف معه السودانيون المحافظون لاستقلاله وغيرته الدينية لاسيما في معارك الجنوب وفي مسألة التدخل الأجنبي والتنصير وموضوع الدنمارك، ممسكاً بعصاه ملوحاً بها في الفضاء متحدياً كل قوى الغرب المتعجرف، آملاً في وقوف الشعب السوداني معه مجدداً للحصول على الاستقلال في زمن العولمة، وإن ركضوا معه خارج مضمار التدجين..

إن للبشير ـ بلا شك ـ أخطاءه، وهو يتحمل جزء من مسؤولية هذه الضغوط على حكومته، وقد يكون جانب الصواب في قضية هنا أو هناك، لكنه يظل رئيساً سعى بجد لأن يكون خارج المضمار، وله كرامته الإسلامية والوطنية، ومشروعاته التنموية الداخلية، الضغوط القائمة اليوم لملاحقته ليست مدفوعة من وازع أخلاقي أو إنساني، وإنما خلفها رغبة في تركيع السودان.. كل السودان.