القاعدة الثامنة: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
1 رجب 1439
أ. د . ناصر بن سليمان العمر

قال الله سبحانه : ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾

هذه جملةٌ قصيرةٌ، من آيةٍ عظيمةٍ، وردت في سورة البقرة، لو أنَّ الزَّوجين تدبَّراها وفقِها معانيها ودلالاتها؛ لحلَّ الاستقرارُ والسَّكنُ في رحاب الأسرة؛ ولاجتهد كلٌّ منهما في معاملة زوجه، معاملةً تحقِّق لهما معًا الأنس والراحة.

 

 

 كم في هذه الكمات القصيرة من معانٍ عظيمة! ولكي ندرك عظمتها، دعونا نتأمَّل في دلالات مفهوم اللباس ووظائفه، وإنَّها لدلالاتٌ كبيرة، أليس يستر عوراتنا؟ ألسنا نختار من اللباس ما نراه جميلًا، ومناسبًا في مظهره ومخبره؟ ألسنا نراه يتناسب مع اختلاف الفصول، فنختار في الشتاء الملابس الثقيلة، لتقينا قرص البرد، ونختار في الصيف الملابس الخفيفة، ذات الألوان الهادئة، لتخفف من لفح الحرِّ؟

 

 

إنَّ اللِّباس تعبيرٌ إنسانيٌّ جميل، فمظهر الإنسان مع ثيابه، سواءٌ من حيث نظافتها أو من حيث جمالها، يعبِّر عنه، وعن إحساسه وشعوره، وقد قال رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً) ، وفي روايةٍ أخرى: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلًا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ) .

 

 

وبناءً على دِلالات ومعاني اللِّباس، لنتخيَّل كيف تكون العلاقةُ بين الزوجين، إذا تعامل كلٌّ منهما مع الآخر باعتباره لباسًا له! لا ريبَ أنَّها ستكون حياةً محفوفةً بالأنس والمودَّة والرَّحمة، ومصداقًا لهذا المعنى، أذكر أنَّ أحدَ طلابِ العلم من القارَّة الهنديَّة، كان يُترجم كتاب ”ليدَّبَّروا آياته“ الذي يُصدره مركز تَدبُّر بالرياض، وفي يوم من الأيام، أثناء قيامه بترجمة هذا الكتاب، طرأ خلاف بينه وبين زوجته وهي في بلدها، وهو في الرياض، فتشاجرا واختلفا وربما اقتربا من حافَّة الطَّلاق، وقال لها إنّه سيتَّصل بوالدها، ثمَّ عاد إلى عمله في ترجمة الكتاب، فكان من التوفيق أنَّ مرَّ عليه قول الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾  فوقف عند معانيه التدبرية التي ذكرها المؤلف، وفيها شيء ممَّا أشرتُ إليه آنفًا، ونظر في المعاني المكنونة في لفظ ”اللِّباس“، فما هو إلا أن نهض واتَّصل بزوجته، وأخبرها بأنّه قد صرف النَّظر عما قاله، فتعجَّبتِ المرأة من سرعة تغيُّره من حالٍ إلى حال؛ فبيَّن لها أنَّه الآن يقوم بترجمة معاني قول الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ ، وقد وجد فيها من الدّلالات العميقة ما لم يكن يخطر على باله، من حقيقة العلاقة بين الزوجين، فقال لها: أنتِ لباسٌ لي، وأنا لباسٌ لك، لا يليق أن يمزَّق اللباس ولا أن يخلع هكذا ارتجالًا! بل لابد من أسباب ووسائل واحتياطات، هي الطرق الشرعيَّة المعتبرة.

 

 

ولو أنَّ إنسانًا اشترى ثوبًا جميلًا ثمينًا، ثم أصاب الثَّوبَ خرقٌ يسيرٌ، فإنّ العقل لا يقضي بإتلافه ورميه! بل يجدد ويصلح ويخاط ويرقع؛ ما لم يتشوه أو يهترئ ويتلف، وإذا كان إتلاف اللباس الصالح لعارض يسير من السفه وتضييع المال، فكيف بلباس الزوجية!

 

 

ما أعجب هذه الآيةَ التي وقفنا عندها! ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ ، ما أعظم دلالتها! وما أروع أثرها في تحقيق سعادتنا واستقرارنا، إذا تدبرناها، وذلك برغم قصر موضع الشاهد منها، فلنتدبَّر كلام الله سبحانه كلَّه.

 

* للاطلاع على القاعدة السابعة..
قدم في الاختيار الزَّوج الصَّالح

* للاطلاع على القاعدة التاسعة..
تعظيم ميثاق الزوجية من تعظيم حرمات الله