اللآليء المضيئة
5 رجب 1440
د. عامر الهوشان

المكان الذي تطمئن فيه القلوب وتهدأ فيه الأعصاب وترتاح فيه النفوس , المكان الذي تجتمع فيه الأرواح قبل الأبدان , ويتآلف في ظله الخصماء والفرقاء , فتصفو النفوس بعد كدر, وتتلاقى بعد افتراق , قال تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ) النور / 36
قال قتادة : هي المساجد أمر الله ببنائها ورفعها وأمر بعمارتها وتطهيرها . ( تفسير ابن كثير 6 / 62 )

 

إنه المسجد الذي ترتفع فيه كلمات الحق كل يوم خمس مرات , تصدح بالنداء الخالد الذي تهتز له النفوس والقلوب , فتصطف فيه الأبدان والأرواح لمناجاة الله تعالى والتخفيف من الأعباء التي تتكدس كل ساعة على هذا القلب من أثر الحياة المادية التي يعيشها , ولتطهير النفوس والأرواح مما قد يعلق بها كل يوم من غبار المعاصي وأوساخ الذنوب .
 

المسجد هو المكان الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين الصادقين وتتعلق به , فتنال بذلك نعمة ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله , تصديقا للحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : ...ورجل قلبه معلق في المساجد ) رواه البخاري

 

صحيح أن غاية وجود وبناء المساجد ليست الحجارة والجدران , وإنما تخريج العظماء والأبطال , ولكن ذلك لا ينفي أهمية الحجارة والجدران من حيث نظافة المسجد وأناقته وترتيبه , بشكل يجعل الداخل إليه يزداد راحة على راحة وسكينة على سكينة.

 

ومن عادة الإنسان وطبعة أن يحافظ على نظافة بيته ومكتبه ومتجره , يزيل عنه الغبار والأوساخ , ويرفع عنه ما وقع به من أذى , فهل يفعل مثل ذلك في المساجد التي تعتبر بيوت الله تعالى في الأرض ؟؟!!
 

لقد تشرفت بالدخول إلى كثير من المساجد في بعض البلدان الإسلامية الكبرى , ولاحظت التقصير والإهمال في نظافة المسجد وترتيبه وأناقته بشكل عام , وفي أكثر من مرة قمت بما أستطيع من التنظيف والترتيب رجاء أن أرى بيوت الله تعالى في أحسن حال , نظافة ورائحة وترتيبا , ولكن العمل الفردي العابر في مثل هذا المجال لا يكفي , ولا بد من حل عملي سريع وفعال , يجعل من بيوت الله تعالى لآلئ في الأرض مضيئة .

 

لقد أمرنا الإسلام بالطهارة والنظافة , قال تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) البقرة /222 وقال تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) الأعراف /31 وقال تعالى ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين ) التوبة /108

 

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( الطهور شطر الإيمان ) وإذا لم تكن العبارة المشهورة المتداولة عالميا : النظافة من الإيمان حديثا نبويا , فإن المعنى الذي تتضمنه العبارة صحيح بلا شك , وهو مقتبس من نصوص صحيحة .
 

وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على العناية بنظافة المسجد وتطييبه وترتيبه فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور – أي الاحياء – وأن تنظف وتطيب ) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 6 / 496

 

وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ) رواه ابن خزيمة وأبو داود والترمذي
 

قال الشوكاني : القذاة : الواحدة من التبن والتراب , فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم , وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب أولى . ( نيل الأوطار 2 / 159

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة سوداء كانت تقم – أي تنظف – المسجد ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا : ماتت فقال : أفلا كنتم آذنتموني ( كأنهم صغروا أمرها فلم يخبروه ) فقال : دلوني على قبرها , فدلوه فصلى عليها ثم قال : إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم ) رواه البخاري ومسلم
 

قال الحافظ ابن حجر : في الحديث فضل تنظيف المسجد والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب . ( فتح الباري 2 / 197

ومن المؤسف أن نرى اليوم عكس هذا التوجيه الإلهي والهدي النبوي في مساجدنا , فترى بعض الأوساخ على سجاد المساجد , أما الرائحة الكريهة فحدث ولا حرج , وخاصة في حمامات المساجد التي تترفع نفوس كثير من الناس عن استخدامها لكثرة وساختها ورائحتها الكريهة , وربما يؤدي استخدامها إلى انتشار الأمراض وخاصة تلك التي حذر الأطبار من انتقالها من الحمامات الوسخة كالتهاب الكبد والسل , إضافة إلى الأمراض الأخرى الكثيرة بفعل انتشار الجراثيم والميكروبات الناقلة للأمراض المعدية .

 

إن تنظيف المسجد والعناية به مسؤولية جميع المسلمين , وليست مسؤولية الخادم والإمام والمؤذن فحسب , وإن كانت مسؤولية هؤلاء أكبر وأعظم , فلا بد أن تتكاتف جهود الجميع للارتقاء بنظافة المسجد إلى المستوى المطلوب , فلا بأس أن يخصص يوم الخميس مثلا من كل أسبوع , لاجتماع عدد من أبناء الحي ومعهم خادم المسجد بالطبع , للقيام بتنظيف وترتيب وتطييب المسجد وتهيئته لاستقبال المصلين لصلاة الجمعة وهو في أحسن حلة وأطيب رائحة , ولا بأس أن يغسل سجاد المسجد كل سنة مرة على الأقل كما يفعل المرء في سجاد بيته , وأن تغسل جدرانه وتنظف أو تطلى بالدهان كل سنة أو سنتين , فقد ورد في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في جدار القبلة مخاطا أو بزاقا أو نخامة فحكه ) رواه البخاري ومسلم

 

ولا شك أن الحمامات في المساجد من أكثر الاماكن عرضة للأوساخ والقاذورات , فلا بد أن تبذل عناية خاصة بها , وهذا كله يتطلب مساعدة الجميع , ويحتاج إلى دعم من أهالي الحي لخادم المسجد والإمام والمؤذن ماديا ومعنويا لإتمام هذه المهمة.

 

إن سيرة السلف الصالح تؤكد على نظافة المسجد وتطييبه , فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطيب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كل جمعة قبل الصلاة , وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول : لأن أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدي ذهبا وفضة .
فهل سنقتدي بالقرآن والسنة وسيرة السلف الصالح , ونغير الواقع الأليم الذي تشهده بيوت الله تعالى في الأرض ؟؟