لماذا ضعفت مظاهرات إيران؟
23 ربيع الثاني 1439
أمير سعيد

إذا كان السؤال هو هل كان متوقعاً أن تصل مظاهرات إيران إلى حد الانتفاضة العارمة التي تسقط حكم الملالي؟

فالإجابة ببساطة: لا، لم تكن مؤهلة للقيام بهذا الدور، ولهذا كتبت في هذا المكان في بدايتها: "مظاهرات إيران، حتى كتابة هذه السطور، ليست ضخمة ولا تمثل تهديداً حقيقياً، وتعامل الأمن معها يظل لافتاً للنظر؛ فعدد ضحايا المظاهرات قليل جداً نسبياً قياساً إلى المعروف عن نظام طهران القمعي، وهذا يعني أن بعض الأجهزة الأمنية الإيرانية تدرك أن ما يحصل: إما أنه لا يشكل خطراً داهماً، بالنظر إلى غياب الوقود الشعبي والحزبي والأيديولوجي المحرك الكافي لإشعال انتفاضة ناجحة، أو أنها غير منزعجة لأنها تنسج خيوطاً للتفاهم مع محركي هذه التظاهرات، وتستطيع ضبط إيقاع تلك التظاهرات صعوداً وهبوطاً". فإذا كان من ملامة من المتأملين بنجاح هذه المظاهرات في تغيير نظام حكم الملالي الإيراني؛ فإن هذه الملامة تقع على هؤلاء الذين أفرطوا في آمالهم بشأن نجاحها في تحقيق ما يطمحون إليه، ولا تقع على المتظاهرين أنفسهم؛ فإذا كان لنا أن نقيس مدى نجاح هذه المظاهرات من عدمها؛ فإن معيارنا لابد أن يختلف استناداً إلى هدف أدنى مما كان يطمحه المفرطون بتفاؤلهم، ليكون مثلاً إحداث هوة أو شرخ في هيبة نظام الملالي ونظرية الفقيه؛ فإذا كان هذا هو الهدف، فإن المتظاهرين قد حققوه بقدر ملاحظ ومشهود.

 

أول الغيث قطرة كما يقال، ولئن كان المتظاهرون أخفقوا في إنزال الملالي عن عروشهم؛ فإنهم قد فعلوا الخطوة الأولى بنجاح في هذا السبيل؛ إذ إنها المرة الأولى التي توجه فيها سهام النقد والاعتراض مباشرة إلى الفكرة التي قام عليها النظام الإيراني وليس أدواته.

 

هذا النظام قد حرص مراراً على مدى ثلاثين عاماً في حرف وجهة النقد عن رأسه باتجاه أطرافه؛ فظلت سهام النقد توجه على الدوام لـ"إداريين" في هذا النظام الثيوقراطي العتيد، كالحكومة أو حتى الرئيس، وظلت مكانة المرشد الأعلى مصانة عن أي نقد أن تجريح.

 

وكان من أبرز أسباب ذلك هي الهالة الدينية المضفاة على رأس النظام، والتي تقوم على فكرة معصومية المرشد الأعلى ونيابته عن المهدي المنتظر الذي تضعه عقيدة ولاية الفقيه في مقام أرفع من الأنبياء عليهم السلام! هذه الهالة لم تزل قطعاً لكنها تعرضت للاهتزاز بقوة من خلال تلك المظاهرات وشعاراتها وهتافاتها وفعالياتها المنددة بسياسة المرشد الأعلى، والتي وصفها بعضها بـ"الديكتاتور"، للحد الذي جعل أحد الوزراء السابقين يقول عبر برنامج تليغرام – وفقاً لصحيفة فيلت الألمانية – : "يجب علينا أن نقر بأن النظام الإسلامي الإيراني تجاوزته الأحداث. وعلى هذا الأساس، حان الوقت لفصل الدين عن السياسة". وفيما رجح البعض أن تكون الاحتجاجات قد بدأت مبرمجة من بعض قادة التيار الأكثر تشدداً في إيران ضد خطة الرئيس روحاني التقشفية ثم خرجت عن السيطرة؛ فإن جهاز اطلاعات (الاستخبارات الإيرانية) قد نجح – بغض النظر عن مصدرها – في توجيهها بذكاء إلى رئيس الجمهورية حسن روحاني بدلاً من المرشد الأعلى علي خامنئي، والذي قطعت صوره وأهينت وتعالت الأصوات ضده للمرة الأولى على هذا النحو اللافت.

 

بحسب الناشط الأحوازي محمد مجيد، فإن المخرج الإيراني والمقرب من السلطة حسن دهباشي قد قال: "في حال لم نعترف بالحريق الذي تم إشعاله في السجاد ولو كان صغيرا، ونخبئ الحريق تحت السجاد (إيران)، سوف يحترق السجاد بأكمله"، فالسجاد إن احترق لن يوفر معصومية ولا ولاية فقيه، هكذا إذن بدأ القلق يساور النخبة الموالية لنظام خامنئي، وهذا يعكس بدوره مدى الانزعاج الذي خلفته هذه المظاهرات الناجحة في هدفها المرحلي الأول، الذي يربط بين شظف العيش والفقر والفساد برأس النظام نفسه، ووجود أفراد فوق مستوى المساءلة المشروعة في إيران.

 

أما لماذا ضعفت أو لم تفلح تلك المظاهرات في الإطاحة بهذا النظام؛ فالإجابة يسيرة، ولا تتعلق بمظاهرات إيران وحدها وإنما بأي احتجاجات مشابهة في العالم، إذ إن لم تقف بعض أجنحة السلطة خلفها وتدعمها بقوة فلن تفلح أي مظاهرات بالإطاحة بهذا النظام. وعليه؛ فالذين أفرطوا في تفاؤلهم بذهاب نظام ولاية الفقيه بين عشية وضحاها كانوا حالمين بما يكفي للتوهم بأن الحرس الثوري والباسيج وإطلاعات والجيش الإيراني سيقف مكتوفاً أمام غضب آلاف أو عشرات الآلاف انتشروا في مدن إيران الكثيرة والمتباعدة.

 

والذين ظنوا أنه من الممكن أن يطاح بهذا النظام البغيض، والعاصمة تكاد تخلو من الاحتجاجات الغاضبة أيضاً يجافون السنن والواقع وأبجديات السياسة، والذين تجاهلوا أن في مقابل المعارضة الغاضبة هناك قطاعات شعبية كبيرة لم تزل تعيش أوهام ولاية الفقيه وتضفي قداسة شبه إلهية على أركان هذا النظام، وتتوهم أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! أيضاً مفرطون في طموحاتهم؛ إذ لا يمكن أن يغيب هذا النظام إلا حينما تتولد قناعة شعبية جارفة بأن ما سوقته الدعاية الخمينية منذ عشرات السنين لا يمثل ديناً ولا عقيدة صحيحة، وأن حكم الملالي هو حكم ثيوقراطي بغيض لا يقبله الإسلام من جهة ولا تقبله عقول الناس في هذا العصر كله من جهة أخرى.

 

نعم، إن ما حصل كان شرخاً في جدار ظنه أصحابه سميكاً عصياً على الانهيار، وهو بهذا الهدف المرحلي يعد ناجحاً، إلا أن دون هذا نضال طويل يخوضه من يدرك من هذا الشعب الإيراني حقائق الأمور.

 

ضعفت تظاهرات إيران لأنها أولاً لم تحظ بدعم من بعض أجنحة السلطة القوية، وثانياً لأنها واجهت تواطؤاً خارجياً لافتاً إن من جهة الأوروبيين الذين التزموا حيالها الصمت أو بعض التصريحات الخجولة، أو من جهة الولايات المتحدة التي دعمت القمع السلطوي الإيراني عبر الدعم الضار من الإدارة الأمريكية التي تزعم أنها تناهض النظام الإيراني، ثم لا تقدم إلى المتظاهرين إلا بضع تغريدات ترامبية جوفاء.

 

ضعفت تظاهرات إيران لأنها لم تمس قلب إيران الحيوي، العاصمة والكتلة الفارسية الأساسية، واكتفت بانتفاضات مبعثرة في الأطراف وبين الأقليات الدينية كالبلوش والكرد، أو العرقية كالأحواز، أو الطبقية الفقيرة كاللور وما سبق.

 

وهذه الأقليات انتفضت بسبب مظالم موضوعية خاصة علاوة على ما يعانيه مجمل الشعب الإيراني من سياسة داخلية سيئة أفرزت حالات غير مسبوقة من الفساد والتمايز الطبقي عبرت عنها مقاطع انتشرت بالتزامن مع المظاهرات تصور حياة الترف التي يعيشها أبناء الملالي في الخارج، والثروات التي يمتلكها هؤلاء في دول أوروبا وغيرها، وزادت من معاناة الشعب الإيراني، وسياسة خارجية عمدت إلى تمويل ميليشيات وعصابات في دول المنطقة على حساب المواطن الإيراني وحقوقه المشروعة. وإذ خفتت جذوة هذه المظاهرات إلا أنها تؤشر لبداية مرحلة جديدة لم تعد انتفاضات الأقليات تحدث فيها بشكل انفرادي يسهل حصاره، ولم تعد مطالبها تتلخص في مطالب محلية وجهوية حيث أصبح الهم واحداً في طول إيران وعرضها.

 

هناك تغير إذن، ربما ليس راديكالياً، لكنه يسير ببطء وهدوء نحو انكشاف الغمامة الطائفية الضيقة الأفق عن أعين الإيرانيين، وشروعهم في البحث عن حياة أكثر تحرراً من ربقة حكم ولاية الفقيه المقيتة. يمكن القول إن مظاهرات إيران بالفعل قد ضعفت كثيراً، لكن هذا قد حصل بعدما نجح الغاضبون في تحريك المياه الراكدة ووضع قاعدة جديدة للعلاقة القادمة بين الشعب الإيراني وحكامه.