الشهود الحضاري و"المستقبل الثقافي للمغرب الإسلامي"
24 ذو الحجه 1429
عبد الباقي خليفة

عنوان الكتاب: الشهود الحضاري و"المستقبل الثقافي للمغرب الإسلامي"
المؤلف: الدكتور عبدالمجيد النجار
عرض: عبدالباقي خليفة
إصدار: المركز المغاربي للبحوث

يقع هذا الكتاب في 293 صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من ثلاثة فصول، يحدد المؤلف عبرها موقع المغرب العربي الإسلامي ثقافياً من خلال موقعه الجغرافي، فهو "يقع في موقع جغرافي خطير من شأنه نظرياً أن يعرضه لكثير من التحديات والمواجهات" مستشهداً بأحداث التاريخ، ومؤكداً أن العنصر الثقافي كان أكثر استهدافاً للتحديات، معتبراً إياه العنصر المحوري لتحريك التاريخ في كل مجتمع. ولا يغفل الدكتور النجار التشديد على أن المغرب العربي الإسلامي جزء لا يتجزأ من العالم الإسلامي الكبير، وهو ما أثر وسيؤثر في مصيره ومستقبله "إنه باعتبار الانتماء الإسلامي يتجه دوماً نحو المركز: عقدياً بالتزام العقيدة الإسلامية الجامعة للأمة، والمحددة لمسار حياتها كلها ووجدانياً بالانتماء الروحي للضمير الديني الذي يشكل وحدة العالم الإسلامي متمثلة في مفهوم الأمة كما جاءت بها التعاليم الإسلامية، وكما تشكّلت في التاريخ المشترك لكافة المسلمين".

 

الشهود الحضاري: في الفصل الأول يجيب الدكتور النجار عن سؤالين أساسيين، أولهما: كيف كانت المسيرة التاريخية للانخراط المغربي في وحدة الثقافة الإسلامية، والثاني كيف سيكون شهوده الحضاري معقوداً في المستقبل بهذا الانخراط؟ وقد بدأ الإجابة بتمهيد يعرف فيه مصطلح الثقافة واشتقاقه اللغوي، مقرراً أن "الثقافة بالنسبة للمجتمع إنما هي الطريقة التي يحقق بها الإنسان أغراض حياته في السياق الاجتماعي العام"، و"الأثر الذي يصنعه الموقف العقدي للإنسان، فالمبادئ العقدية الأساسية التي يؤمن بها في تفسير الوجود والحياة الإنسانية مبدأ وغاية هي التي تشكل أسلوبه في تحقيق الحياة بالفكر والسلوك ولذلك كانت الثقافة ومازالت وستبقى معنى اجتماعياً..
وعن خواص الثقافة الإسلامية يقول الدكتور النجار: "ربما تكون العناصر الأساسية الكبرى للثقافة الإسلامية المشكلة لحقيقتها المتميزة هي المتمثلة في (التوحيد) فالمرجعية العليا للتفكير الإسلامي المؤسس للقيم، والمنظم للسلوك، هي مرجعية موحدة فاستمداد الحقائق المنظمة للحياة في كل مظاهرها يتجه إلى مصدر واحد هو الله تعالى".
الحقيقة الثانية التي يقررها الدكتور النجار هي الشمول "لقد كانت بيانات العقيدة الإسلامية بيانات شاملة لكل عناصر الحقيقة الوجودية، ولكل مناحي التصرف الإنساني، فهي تتناول بالبيان عالمي الغيب والشهادة".
أما الحقيقة الثالثة، فهي الواقعية، حيث "وجهت التعاليم الإسلامية أنظار الناس إلى الواقع، من مظاهر الكون وأحداث الحياة"، والحقيقة الرابعة هي النقدية "في التعاليم الإسلامية دعوة إلى المقابلة بين المختلفات ومقارنة بعضها ببعض في سبيل النفاذ إلى الحق النظري من بينها" ويضرب أمثلة على ذلك من الدنيا والآخرة، أو الجسم والروح، وهي حقيقة أغفلتها ثقافات وصفها الدكتور النجار بأنها "أحادية قاصرة ".

 

وحدة الثقافة الاسلامية: تحدث الدكتور عبدالمجيد النجار عن الالتزام المغربي بوحدة الثقافة الإسلامية "ليس المغرب العربي الإسلامي إلا جزءاً من الأمة الإسلامية الكبرى وقد ظل ملتزماً التزاماً شديداً بهذا الانتماء منذ استقرت به الدعوة الإسلامية أواسط القرن الأول إلى زمننا هذا"، ويؤكد على أن "المسار الثقافي المغربي ظل طيلة تاريخه ملتزماً بالوحدة الثقافية الإسلامية"، وذلك لخفة الإرث الثقافي القديم، وتلاشيه بمجرد أن سطع نور الإسلام في تلك الربوع، ويذكر أن النصرانية ذهبت مع تلاشي السيطرة الرومانية على المنطقة، أما المذاهب الفلسفية فلم تشكل تياراً عاماً، ورغم أن المنطقة مثَّلت مركزاً حضارياً في العهد القرطاجني، فإن تلك المركزية لم تواكبها مركزية دينية أو فلسفية، وهو بذلك يرد على الادعاء البورقيبي الذي يروّج أن المنطقة توالت عليها ثقافات شتى ولا يمكن أن تخلص لواحدة منها، يعنون الإسلامية.
وقد أسهب الدكتور النجار في تفنيد هذه المزاعم دون ذكرها أو حتى التلميح بأشعها وإنما يمضي في التأكيد على أن المنطقة قاومت الاستعمار من هذا المنطلق الذي ركب موجته من تنكروا له فيما بعد "فلما أمعن الاستعمار في الغزو الثقافي ازداد إمعان أهل المغرب في الاعتصام بوحدة الثقافة الإسلامية"، وتحدث عن مركزية مكة والمدينة في الترابط بين المسلمين، ويبيِّن أن ثمة عاملاً ثالثاً من عوامل وحدة الثقافة المغربية هو شدة الارتباط المغربي بالمركز الإسلامي المتمثل روحياً في مكة والمدينة، وثقافياً في مركز العلم في المشرق وسياسياً في مركز الخلافة الإسلامية، "لقد ظلت هذه المراكز على مر التاريخ مفزعاً لأهل المغرب"، وساق الدكتور النجار أمثلة عدة على التزام المغرب بالوحدة المرجعية في تاريخه وجهاد علمائه ومنهم الإمام سحنون الذي أخرج أهل الأهواء والبدع من جامع عقبة بن نافع، وما قام به المهدي بن تومرت من نضال أدى إلى قيام دولة الموحدين، وما قدَّمه الإمام الشاطبي من علم جم صحح به وأثرى مفاهيم الفقه الإسلامي وأصوله.
ولم تكن جهود الإسلاميين منصبّة على هذه الأسس الثقافية فحسب، بل تعدتها إلى مجالات الحياة المختلفة تعبيراً عن شمولية الثقافة الإسلامية، وضرب الدكتور النجار أمثلة عدة على ذلك، فقد برع "أبو الحسن القابسي في علم التربية، وابن رشيق القيرواني في نقد الشعر، وأبو إسحاق الشاطبي في مقاصد الشريعة، وابن خلدون في علم الاجتماع، ومحمد بن محمد الإدريسي في علم الجغرافيا"، وتوسع في الحديث عن دور الفقه المالكي في تثبيت وتطوير الفقه الإسلامي انطلاقاً من الأصول، لم تخلُ من فكر نقدي تأثر بحركة أسد بن الفرات وموسوعته الفقهية المعروفة بالأسدية، والتي أدت إلى إثراء فقهي لم يؤثر على الوحدة المذهبية.
وعلى طول الكتاب وعرضه يصول الدكتور النجار ويجول في الميدان الثقافي، واضعاً التاريخ في يساره والحاضر في يمينه والمستقبل بين عينيه "لقد أراد عقبة بن نافع أن يشد أرض المغرب إلى العالم الإسلامي شداً متيناً لا تزعزعه الأيام فقال قولته الشهيرة عند تأسيس القيروان: "أولى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر" وكان الأمر كذلك إذ أجابه من وراء القرون عبدالحميد بن باديس:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن اصله أو قال مات فقد كذب
وذكر رواداً من المنطقة أسهموا في إثراء شتى العلوم.

 

المستقبل الثقافي: في الفصل الثالث والأخير من الكتاب، تحدث الدكتور عبدالمجيد النجار عن "المصير المغربي في نطاق المستقبل"، تحدث فيه عن العلمنة الثقافية التي تعني استبعاد الدين من الحياة، مبيناً أن العلمانية بهذا المفهوم مناقضة للإسلام، فهو إنما جاء لمعالجة حياة الإنسان في أدق تفاصيلها، وتطرق لنشوء العلمانية في أوروبا، وواقع العلمنة الثقافية بالمغرب التي ترسخت في ظل الاستعمار، وما تلاه من استقلال مغشوش، أمعن في تغييب الإسلام عن الحياة وميادين التأثير فيها سياسياً وتربوياً واجتماعياً واقتصادياً، ضارباً لذلك أمثلة عدة أدت إلى نوع من "الانخلاع من ربقة الوحدة الثقافية الإسلامية". وأدت تلك السياسة إلى "جحافل من الشباب التائه وجودياً، العاطل عملياً، المنحرف أخلاقياً". ويخلص إلى القول: "بأن التأصيل الثقافي أصبح قدراً للمغرب العربي الإسلامي منذ استقر في ربوعه الدين القيم، حيث اندرج في الوحدة الحضارية الإسلامية ماضياً، وبه يحفظ وجوده ضمن وحدة الأمة مستقبلاً... أما تحويل مجرى الثقافة إلى ما هو غريب، فلا يؤول إلا إلى إهدار الجهود والطاقات، ثم يكون بوار المصير، وشهادة الواقع قائمة في الحالين في القديم وفي الحديث ".