جيتس والدباغ... صراع أمريكا وإيران على مستقبل العراق
25 ذو الحجه 1429
طلعت رميح

بعد توقيع الاتفاقات الامنية والإستراتيجية بين حكومة احتلال العراق برئاسة نورى المالكى والولايات المتحدة برئاسة بوش, يدخل العراق مرحلة جديدة من العلاقات مع إيران , لا مع الولايات المتحدة فقط , او لنقل ان وصعية الاحتلال المزدوج للعراق , وفق معادلة تقاسم النفوذ و المصالح و التاثير فى السلطة العراقية من قبل كلا من إيران وأمريكا, باتت تخلى مكانها لمرحلة جديدة من الوجود الإيراني في العراق , لا الوجود الامريكى فقط , ليس فقط لان سلطة المالكى لم تقدم على توقيع الاتفاقية إلا بالتنسيق مع إيران , ورضاها وضمن خططها فى العراق – مع العلم و الموافقة الامريكية على ذلك - , ولكن ايضا , لان القرار الامريكى فى البقاء او الانسحاب من العراق بات قرارا مرتبكا , كما ان سحب اى قدر من القوة القتالية الامريكية من العراق ، دون انهاء ظاهرة الاحتلال – كما هو حال التوجه الاستراتيجى الامريكى - سيكون هو الوضع الأمثل لتدعيم الوجود والدور والنفوذ الإيراني في العراق . وكذلك لان العراق – وهذا هو الاهم – بات مطروحا تغيير وضعه المؤسس ودوره الوظيفى, ليتحول بصفة رسمية من حائط صد للإطماع الإيرانية .. الى جسر مرور ،او ليصبح قاعدة انطلاق امريكى نحو دول المحيط .لقد ادخل توقيع الاتفاق كلا الاحتلالين فى صراع حول مستقبل العراق ،او حوله المستقبلى فى خدمة كلا الدولتين!

جيتس – الدباغ
فيما يجرى الان , يبدو الامر اللافت , هو ان الولايات المتحدة باتت هى المطالب والساعى و الداعم لعلاقات عربية -عراقية , او لدور عربى فى داخل العراق , بل هى باتت تسعى الى ضم العراق الى منظمات عربية اقليمية . كلمات روبرت جيتس , وزير الدفاع الامريكى كانت الاكثر وضوحا فى طرح ضرورة انضمام العراق الى المنظومة الخليجية , بما مثل مفاجاة او لنقل بما اوضح الرؤية الأمريكية لمدى التغلغل الإيراني في العراق , ولعدم قدرة قوات الاحتلال الامريكية فى العراق وحدها على مواجهة هذا النفوذ . صحيح ان الولايات المتحدة كانت ومنذ فترة طويلة , هى من يطالب الدول العربية بالاعتراف بالحكم الذى شكلته تحت حراب الاحتلال , لكن الفارق الان ان الولايات المتحدة -فى الطرح الاخير لوزير الدفاع - تطلب صماما لامان عدم ذهاب العراق الى سيطرة بلا رجعة من إيران .
لكن الطرح الأمريكي الذي قدمه جيتس ,قوبل بطرح وتصور اخر مختلف قدمه المتحدث الرسمى باسم الحكومة العراقية - تحت الاحتلال – على الدباغ ,الذى صرح بان العراق سيصبح جزءا من نظام اقليمى ( لا جزء من المنظومة العربية ). الدباغ قال فى واسنطن , ان العراق سيصبح جزءا من نظام مع دول الاقليم على غرار الاتحاد الاوروبى , وفق دور اقليمى مخطط له .

و فى كلام الدباغ , اختيار للاتحاد الاوروبى .. لا الجامعة العربية , وحديث عن الدور الاقليمى لا العربى للعراق . و المعنى و الجوهر فى اختيار الاتحاد الاوروبى هو انه اختار اتحاد بين دول تتحدث " لغات مختلفة " و يضم " قوميات مختلفة " , بما يعنى ان المقصود هو ان العراق سيكون جزءا من نظام اقليمى يضم قوميات متعددة او دول مختلفة اللغات , وهو ما يتاكد من حديثه عن الدور الاقليمى للعراق لا الدور العربى.
ولذلك , يصبح المعنى الدقيق للقول و القصد , هو ان العراق سيكون جزءا من منظومة تضم إيران او تحت عيمنتها بالدرجة الاولى , على اعتبار ان إيران هى الدولة صاحبة النفوذ فى العراق , و بالنظر الى ان " اجتماع العراق مع تركيا " فى نظام اقليمى مشترك , هو امر دونه مشكلات كبيرة بسبب الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستانى و لطبيعة المشكلات القائمة بين تركيا واقليم كردستان العراق , وبالنظر الى ان الدول العربية فى محيط العراق او التى تحيط بالعراق , بعضها قد يرغب ظاهريا مع الدخول فى العراق فى علاقات سياسية وفق هذه الصيغة , لكنه فى ذات الوقت ومن حيث الموقف الفعلى - رغم قدر من التحالف مع إيران – لا يوافق على تلك الصيغة من العلاقات التى تقوى الطرف الإيرانى فى علاقات التحالف معه , كما ان البعض الاخر من الدول العربية, لا يوافق من الاصل على الدخول فى منظومة اقليمية تضم إيران .

تغيير دور العراق
فى واقع الامر يبدو اقتراح الدباغ و اطلاقه فى واشنطن تحديدا , هو بمثابة محاولة لتقديم اساس لمفاوضات أمريكية – إيرانية حول العراق , او هو وضع لاساس التفاوض بين الطرفين المحتلين للعراق ،يتلائم مع التغييرات التى جرت فى الولايات المتحدة مع مجئ اوباما وطرحه فكرة " الحوار و التفاوض " مع إيران . الاقتراح يقدم اطارا " مناسبا " للولايات المتحدة لصيغه العراق ما بعد توقيع الاتفاق الامنى ويسمح بسحب امن لمعظم القوات القتالية ,كما هو اشارة تأكيد على ان إيران لا ترغب فى السيطرة على العراق ما بعد ضعف الوجود القتالى الامريكى ،بدليل ما يطرحه الاقتراح من اقامة نظام اقليمى يشارك فيها حلفاء سياسيين للولايات المتحدة بعضهم من منظومة حلف الاطلنطى, او لنقل ان الاقتراح هو محاولة لطرق العقل الامريكى وتقديم اقتراحات يقبلها, باعتبارها تساعده فى الخروج من مازق الاحتلال المباشر للعراق .

لكن جوهر الاقتراح وبعده الاستراتيجى هو ان صياغه جديدة للعراق يجرى اعدادها من خلال هذا الاقتراح , ليتحول العراق من دوره الوظيفى تاريخيا , كحائط صد فى موجهة الاطماع و التهديدات الفارسية باعتباره و البوابه الشرقية للعالم العربى , الى معبر وجسر إيرانى لتدفق الدور و النفوذ الى مناطق اخرى فى العالم العربى , اضافة الى السيطرة عليه هو ذاته بطبيعة الحال .
فالحاصل الان , ان الدور و النفوذ الإيراني فى العراق , بات يتمتع بوضع نموذجى للهيمنة و السيطرة , بما يجعل الحصيلة الحقيقة لهذا الاقتراح او التصور الاستراتيجى هو تشكيل اطار غطاء لإنفاذ الاستراتيجية الإيرانية فى العراق . تتمتع إيران فى العراق , بنفوذ وسط كتلة سكانية تقودها مجموعات وقوى سياسية مسلحة وذات خبرة طويلة فى العمل المسلح . كما إيران قد حققت نفوذا واسعا داخل مؤسسات الدولة التى جرى تشكيلها بعد الاحتلال الامريكى للعراق , وكذا فان القوى المضادة للوجود الإيرانى , قد تعرضت الى حالة انهاك " مجتمعى وسكانى " وعلى صعيد قوتها المقاتلة , اذ ركزت قوات الاحتلال الامريكى جهودها العسكرية على ذات المنطقة التى تشكل محورا لرفض الوجود و الدور و النفوذ الإيرانى , كما تلك القوى ذاتها , لا تخطى بعلاقات مع محيطها الطبيعى تسمح بمساندتها على ذات النحو الذى تقوم به إيران مع القوى المرتبطة و المتحالفة معها .

الالنسحاب .. وما بعده

وفى التفكير و الرؤية المستقبلية – الاستراتيجية – يمكن القول , باننا امام " تاسيس " لاوضاع العراق ما بعد توقيع الاتفاق الامنى و الاستراتيجى , من وجهة النظر و المصالح الإيرانية . وهذا هو جوهر اقتراح الدباغ , الذى قابله وزير الدفاع الامريكى باطلاق " مبادرة او اقتراح " ضم العراق الى مجلس التعاون الخليجى .

اقتراح الدباغ ياخذ العراق الى تحالفات , تكون فيها إيران هى الاقوى , بحكم دورها ومكانتها و نفوذها الاقليمى (فضلا عن نفوذها داخل العراق) . واقتراح جيتس يسعى لجذب العراق الى منظومة دول الخليج , لتشكيل مظلة عربية لموجهة النفوذ الإيرانى , بالاتساق مع حالة الضعف الامريكى , ولجعل العراق نقطة اشتعال وصراع فى العلاقات بين الخليج وإيران .

وكلا من الاقتراحين يرتبط بمرحلة ما بعد توقيع الاتفاق الامنى و الاستراتيجى اذ تحاول إيران , تطوير نفوذها الداخلى فى العراق باتجاه التطور نحو حالة اقليمية تؤسس لابتعاده عن العالم العربى ومنظوماته , وتدخله فى منظومات جديدة , بينما الولايات المتحدة تسعى الى جذب العراق نحو قوى ودول تمثل سندا لها فى مواجهة الصراع على العراق , وفى المواجهة مع تصاعد الدور والنفوذ الإيرانى فى المنطقة ،حيث لا خشية من الارتباط بالنظام الرسمى العربى الواقع تحت العيمنة الامريكية.

لكن الفيصل فى كل هذا الصراع , و العامل الذى سيتحدد على اساسه مستقبله , هو طبيعة الوجود العسكرى الامريكى فى العراق وما اذا كانت القوات الامريكية ستنسحب من العراق , على اعتبار ان وجود تلك القوات وان مثل ضمانة لانفاذ الاسترتيجية الامريكية فى العراق وفى المنطقة فهو فى حد ذاته يمثل احد العوامل الرئيسة فى نجاح الخطة الإيرانية فى السيطرة التدريجية على العراق ،باعتباره موجه بالدرجة الاولى للقوى الرافضة للدور والهيمنة والنفوذ الإيرانى على العراق: المقاومة.

لقد كان دخول القوات الامريكية الى العراق و احتلاله , هو السبب المباشر للوجود والنفوذ الإيرانى فى العراق ،لزوال قدرات الدولة العراقية المواجهة لإيران , كما كان استمرار تلك القوات وتركيزها على قوى المقاومة فى مناطق وسط العراق , هو ما مكن القوى المرتبطة بإيران من تحقيق اهدافها وتطوير اوضاعها الى ان وصلت الى ما وصلت اليه فى الحالة الراهنة , واذا استمر وجود قوات الاحتلال لحماية النظام الراهن فى العراق و لمواجهة المقاومة -التى هى المقاوم للنفوذ والدور و الجماعات المرتبطة بإيران -فان الخطة الإيرانية ستشهد استمرار فى تحقيق المكاسب تلو المكاسب .

وتلك هى طبيعة المازق الذى تواجهه الولايات المتحدة فى العراق . اذا هى انسحبت من العراق فان نفوذها ودورها سيتهاوى وهى فى ذلك تتصور ان المحصلة العامة لما فعلته لن تخرج عن انهاك اقتصادها وجيشها لصالح إيران ،او لصالح المقاومة العراقية التى هى اشد جذرية فى مواجهة الولايات المتحدة . هى غير قادرة على التفاوض مع المقاومة العراقية على اساس تحالف لمواجهة إيران بحكم رفض المقاومة , و لطبيعة التناقض الاشد فكريا و حضاريا بين الولايات المتحدة و المقاومة . ولذلك هى تبحث عن صيغة لوجود و دور عربى فى العراق , بجذب العراق نحو المنظومة الخليجية لوضع صلة وصل مع المقاومة العراقية بدرجة او باخرى , وهو ما تقابله إيران بطرح يبعد العراق عن عمقه العربى , ويدفع به ليكون جسرا ومعبرا لإيران الى باقى دول المنطقة ،وهو ما يشترط عدم الخروج المبكر للقوات الامريكية من العراق.

وفى ذلك ياتى السؤال : اليست إيران فى تحالف مع سوريا , بما يمكنها من الاقتراب من العالم العربى , واليس لها حزب الله فى لبنان , بما يمكنها من الدخول على خطوط كثيرة , واليست قريبة لبعض قوى المقاومة الفلسطينية .. الخ .لم اصرارها على العراق؟

والاجابة هى ان السيطرة على مقدرات بلد مثل العراق , هو امر مختلف فى تاثيراته على كل اوضاع إيران الاقليمية بل والدولية ،من كل تلك العلاقات الحالية مع دول ومنظمات اخرى. فالسيطرة على العراق وجعله جسر الى العالم العربى , يعنى الاستناد الى قوة مجتمعية , والى كتلة سكانية والى مقدرات اقتصادية , ومن خلال امتداد جغرافى مباشر مباشر لها, كما السيطرة على العراق يعنى التحول الى قوة مسيطرة على القطاع الام من بترول الشرق الاوسط ،وتسخير دولة قوية فى خدمة مخططاتها ودورها الاقليمى وهو ما يفوق فى تاثيراته كل الصلات التى اقامتها إيران فى المنطقة من قبل .

نحن اذن امام صراع حول مستقبل العراق ،الاشكالية الجوهرية فيه ،هى ان الدول العربية وحدها هى من لا يملك استراتيجية مستقلة تساهم من خلالها فى الصراع على مستقبل العراق ،رغم ان لديها قوة على الارض العراقية مجتمعية وقتالية .