غزة.. اتجاهات سير المعركة
4 محرم 1430
طلعت رميح




بدأت القوات الصهيونية "معركتها " ضد أهل غزة, بقصف موسع بالطيران لمواقع ومؤسسات الشرطة الفلسطينية "كاملة" في غزة, بهدف إحداث "صدمة" عميقة بين سكان غزة, و"ترويع " الآمنين على أوسع نطاق.

 كانت "القصفة" الأولى مباغتة لغزة على نحو ما, جراء ما جرى من تمهيد إعلامي وسياسي صهيوني في اتجاهات متعددة, لإخفاء النوايا وجعل الضربة مفاجئة.

وفى تطور العمليات العسكرية, وضح أن القوة العسكرية الصهيونية, قد خططت لحملة عدوانية طويلة على الصعيد العسكري (والسياسي بطبيعة الحال), إذ بعد تلك القصفة والعدوان "الكثيف الأهداف في الضربة الأولى", تحول الجيش الصهيونى نحو استهداف مبانى المؤسسات التى تمثل "رمزية" للسلطة الفلسطينية فى غزة (مجلس الوزراء – الوزارات – المباني الحكومية), ومن بعد استهدفت عمليات القصف منازل قادة الجناح العسكرى لحماس (كتائب القسام), بما يشير إلى "حركة اقتراب تدريجي" نحو منازل قادة السلطة وحماس, السياسيين من بعد.

ويلاحظ أن القوات الصهيونية, قد ركزت جهودها على إضعاف إرادة المجتمع الفلسطيني وقدرته على الصمود, فتحولت إلى ضرب الأنفاق الواصلة بين (رفحين: المصرية والفلسطينية) لتقليص الكميات المهربة من الغذاء والأدوية, ومن الأصل استهدفت استمرار عملية القصف والعدوان, لفترة طويلة يسمع فيها الموطنون أصوات القصف والدمار ويتابع فيها وقائع ومجريات القتل والمذابح – وهو دون غذاء أو دواء – ليلا ونهارا, وليلا بشكل خاص وفق رؤية نفسية ترتبط بحرمان المواطنين من مجرد النوم, والعمل بصفة مشددة على منع تواصل القطاع مع جسده العربي والإسلامي, ووضع المجتمع و القيادة الفلسطينية تحت شروط الاستسلام

كما يلاحظ, أن الكيان الصهيوني قد أبقى طائراته فى أجواء غزة, خاصة التجسسية, بهدف منع المقاومة الفلسطينية من إطلاق الصواريخ وضرب بطاريات الإطلاق لتحقيق نصر واضح ومحدد, يقدم للمواطن الصهيونى من جهة, ويكون عنوانا لتحقيق نصر وضرب "بطاريات الإطلاق".

وكل ذلك, بات مرتبطا بخطوة تطوير العمليات, من خلال الاجتياح البرى, الذى يجرى التمهيد له حتى كتابة هذا التحليل, من خلال عمليات الحشد والتعبئة العسكرية للجيش الصهيونى على حدود غزة, واستثمار ذلك فى بعد التاثير النفسى على أهل غزة, قبل بدء العمليات فعليا.

 

الخطة الفلسطينية المضادة

فى سير المعركة على جانب المقاومة الفلسطينية , يبدو أننا أمام قيادة وضعت مخططا ذا طبيعة استراتيجية واضحة, وضعت فى اعتبارها طبيعة الأهداف والسلوك العسكرى الصهيوني, وتدرك خلفية الأهداف السياسية المراد تحقيقها وعوامل الضعف والقوة لدى الطرفين فى هذا الصراع.

والبادى أن استراتيجية قيادة المقاومة فى غزة, قد اعتمدت نمط  النفس الطويل فى هذه المعركة, وفق رؤية تستهدف الصمود لفترة طويلة, باعتباره يفقد الجيش الصهيونى درجة السيطرة الحالية على القرار السياسى فى الكيان الصهيونى, حيث استمرار العمليات العسكرية الصهيونية يولد ضغطا سياسيا دوليا وعربيا وإسلاميا, جماهيريا – ورسميا بالتبعية – على القيادة الصهيونية, وهو ما سيحرك " القرار السياسى " فى الكيان الصهيوني, ليتقدم على القرار العسكرى.

ووفقا لتلك الرؤية لإستراتيجية النفس الطويل, يبدو أن قيادة المقاومة فى غزة, قد اعتمدت استرتيجية "الاقتصاد في استخدام قوة المقاومة", للوصول إلى استمرار قدرتها لفترة طويلة زمنية على الرد العسكري, وهو ما يظهر من إطلاق اسم كودى على العملية : بقعة الزيت, الذى يشير إلى "تطور وتصاعد وتنامى" رد المقاومة بالصواريخ, وتوسيع دائرة الاستهداف داخل الأراضي المحتلة 48 , وهو ما لاحظناه من توجيه الصواريخ فى البداية إلى المناطق الآهلة بالسكان الصهاينة قرب الحدود مع غزة, وتطوير وتوسيع مساحة الرقعة السكانية والجغرافية المستهدفة, إلى أن وصلت تلك الصوريخ إلى مدينة عسقلان واشدود, وهو ما يعنى على الصعيد الاستراتيجي, أن تطوير الخطة العسكرية الصهيونية قابله تطوير فى خطة استهداف المقاومة للاحتلال.

وإلى ذلك, يمكن القول, بأن المقاومة – وفق تلك الاستراتيجية – ما تزال تحتفظ ببعض الاتجاهات فى تطوير عملياتها فى قلب الكيان الصهيوني, إذ يلاحظ أنها لم تبدأ حتى الآن القيام بعمليات استشهادية داخل الأرض المحتلة عام 48 , كما الاوضاع لم تتطور بعد فى الضفة على النحو الذى يعتقد أن المقاومة تملك القدرة على القيام به.

العدوان البرى

البادى أن القوات الصهيونية قد خططت منذ البداية إلى بدء اجتياح عسكرى برى, بعد تحقيق القصف بالطيران والصواريخ لأهدافه , في إنهاك وإرباك المجتمع والمقاومة, لإضعاف القدرة الفلسطينية على التصدي, ولتجنب وقوع خسائر حادة فى أرواح الجنود الصهاينة, الذى هو أخطر ما يوجه تلك الحملة العدوانية الصهيونية على صعيد الوضع الداخلى فى هذا الكيان, وعلى صعيد قدرة المجتمع الغزاوى على الصمود, الذى سيعتبر قتل جنود صهاينة عنوانا لتحقيق أهداف مباشرة, بما يثبت أقدام المقاومة ويفشل أهداف العدوان.

وحين نقول "اجتياحا عسكري بريا" فنحن نقصد التعبير, إذ نحن لسنا أمام "معركة برية" , على اعتبار أن المقاومة لا تملك أدوات قتالية يمكنها من أن تخوض معركة برية, وبالنظر لطبيعة مسرح منطقة العمليات التى ستجرى وسط المساكن والعمارات والشوارع. هى أقرب إلى نمط "حرب المدن".

وفى هذا الاجتياح البري, فنحن أمام دبابات ومدافع – تحت حماية طائرات الهيلوكبتر , ومستنفرة الطائرات ثابتة الجناح للتدخل – فى مواجهة سلاح مقاوم يعتمد فكرة المباغتة فى الأماكن التي يمكن اصطياد الدبابات فيها, سواء من خلال الألغام الأرضية أو من خلال سلاح الار بى جى.

هنا وعلى الأغلب, ستعتمد القوات الصهيونية "سياسة الأرض المحروقة", قبل بدء عملياتها البرية – إذا بدأت وبعض المؤشرات تدلل على تردد صهيونى فى بدئها – وفق ذات النمط الذي اعتمدته القوات الصهيونية خلال اجتياحها "مخيم جنين" فى الضفة الغربية.

والقصد, أن القوات الصهيونية ستهدم مناطق سكانية كاملة لفتح الطرق – أو لنقل أيضا لتأمين إمكانية الحركة للدبابات – وهو ما يستدعى اتباع المقاومة تكتيكات سابقة "لعمليات الهدم والتدمير الصهيونى للمبانى القائمة فى منطقة العمليات البرية, وكذا التقليب الدقيق في أولويات ما تملكه من إمكانيات مبسطة على المستوي العسكري, واعتبار الفعل الاستشهادى هو النمط الأكثر قدرة على المواجهة. وفى الأغلب ستعتمد المقاومة على فكرة "المجموعات الضيقة الأفراد" الذين يتصدون "بأجسادهم تقريبا" لوحوش تكنولوجية.

المعركة السياسية

وواقع الحال, أن كل سير المعارك هذا ليس الأمر الوحيد وربما فى بعض الأحيان ليس الأمر الحاسم فى تحقيق النصر فى مثل تلك المعركة الجارية, إذ تحقيق المقاومة نصرها, سيكون بالدرجة الأولى على المستوى السياسي, أكثر منه على المستوى العسكري, إذ مثل تلك المعركة لا يقاس النصر فيها وفقا للمفاهيم التقليدية (إيقاع أعداد القتلى – تدير الوسائل القتالية لدى الخصم).

وبمعنى آخر, فإننا أمام حرب تحسم بما يلحق إرادة الطرف الآخر المعتدي من ضعف وعدم قدرة على مواصلة العدوان.

انتصار غزة , يكون كما هو مفهوم, بصمودها, إذ الصمود هنا وعدم انكسار الإرادة يحقق نصرا حقيقيا, على اعتبار عدم تكافؤ القوة بأية درجة من الدرجات بين المقاومة والجيش الصهيونى, وبين مجتمع محاصر كما هو حال غزة, ومجتمع متخم بالوفرة الاقتصادية وتتوفر له الحماية العسكرية والسياسية دوليا.

كما انتصار غزة, يكون بوقف الأعمال العدوانية قبل إجهاض قدرة المقاومة على إطلاق الصواريخ, لكن الأهم والأكبر هو أن انتصار غزة وعامل تحقق أهدافها فى المواجهة مع الغزوة الصهيونية, يكون بتحقيق خمسة عوامل سياسية:

1- تطوير الأوضاع في الضفة الغربية, باتجاه الاشتباك مع الاحتلال, وهو ما يعنى تثبيت الوحدة الشعبية الفلسطينية بين الضفة وغزة على أساس "فكرة المقاومة".

2- تقويض شرعية سلطة عباس, حيث إن صمود غزة وخروجها من الأزمة والعدوان والحرب الراهنة, دون سقوط النظام السياسى المقاوم الذى يحكمها, يعنى سقوط شرعية النهج الآخر الذي يحكم الضفة, وهو ما يتأتى بتعزيز عمليات الصراع والاشتباك الجماهيرى المقاوم مع قوات الاحتلال فى الضفة وبصمود الضفة.

3-  وكذا فإن انتصار غزة, هو بترميم صورة المقاومة الفلسطينية, بعدما لحقها قدر من التشويه بفعل مجريات الصراع العسكرى الداخلى حول غزة, وذلك من خلال إعادة الوجه الأصلي للمقاومة فى مواجهة الكيان الصهيوني, وهو ما يجرى حاليا فى غزة, بما يضع الطرف المساوم في مأزق.

4- وهنا يأتي الانتصار السياسي الأوسع والأعمق, بإعادة القضية الفلسطينينة إلى جدول أعمال الحركة الجماهيرية والسياسية فى العالم, وباتجاه دعم المقاومة.. لا باتجاه تحركات العلاقات العامة التى يمارسها محمود عباس ومن معه.

5- والأخطر هو أن صمود غزة, فى تطوير الحركة الجماهيرية والسياسية في العالم العربي والأمة الإسلامية ككل, يأتي ضغطا على النظم الرسمية أيضا, وهو ما قد ينتج عنه تقليل تنازلاتها التى قدمتها في المرحلة الماضية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة على صعيد القضية الفلسطينية, سواء على صعيد التنازلات الكلية ممثلة فى العلاقات السياسية والديبلوماسية والاستعداد للتطبيع الشامل – المبادرة العربية -, أو على صعيد التنازلات الجزئية ممثلة فى العلاقات المستترة مع الكيان الصهيوني, وتراجع مواقف دعم الشعب الفلسطينى بالمقابل.

وقف العدوان

وإذا كانت الأعمال العدوانية متواصلة, وكذا المحاولات الصهيونية مستمرة لتشتيت الضغوط الواقعة عليها لوقف العدوان – ولو مؤقتا ليوم واحد لإدخال مواد إغاثة لغزة – يبدو الصهاينة "يناورون الآن" عبر أطراف أوروبية لتحويل فكرة وقف العدوان إلى فكرة "الوقف الدائم لإطلاق النار". والفارق كبير بين الأمرين, إذ فكرة وقف العدوان لا تشمل الوصول إلى إجراءات دولية تشمل فرضا لشروط تتعلق باستمرار المقاومة, بينما فكرة الوقف الدائم لإطلاق النار, لا تقوم فقط على المساواة بين المعتدى والمعتدى عليه, وإنما هى تنفيذ لأحد الأهداف الصهيونية من تلك العملية, إلا وهو هدف وقف مساهمة غزة فى الجهاد والمقاومة لتحرير فلسطين, وتوقيع اتفاق "دائم" حول غزة, بما يكرس الانفصال بين غزة والضفة.