معركة غزة.. تغيير استراتيجى في قدرة المقاومة
10 محرم 1430
طلعت رميح




يمكن القول باطمئنان عقلي وقلبي وعلمي، أننا أمام نقلة نوعية من الوزن الاستراتيجي في أداء المقاومة الفلسطينية ودورها في المواجهة والمعركة من أجل تحرير فلسطين ،وأننا أمام تغيير في التوازنات بين المقاومة ،بما يحقق بداية انطلاق مرحلة جديدة من مراحل الصراع مع وجود الكيان الصهيونى على الارض الفلسطينية .

أليس في ذلك مبالغة ؟ بالقطع لا. تلك هي خلاصات المعركة الجارية الآن في غزة ،وذلك هو ما يظهر لكل متابع ومحلل للدلالات الاستراتيجية الكلية لما هو حادث الآن ،بل هو أمر تحقق حتى لو سيطرت قوات الاحتلال الصهيونية على معظم اراضى غزة .

ولعل الأمر يمكن أن ينجلى ليظهر صحة ودقة هذا الاستخلاص ،اذا قارنا بين كل المعارك والمواجهات الفلسطينية (ما بعد عدم مشاركة الجيوش العربية في المعارك ضد الجيش الصهيونى منذ حرب اكتوبر 73 )..ومعركة غزة الجارية الآن .

في كل المعارك "الفلسطينية-الصهيونية" السابقة ،منذ العدوان على لبنان عام 82 ،كانت الخلاصة الكلية ،هى أن القوات الصهيونية قد تمكنت خلال معاركها من التوغل لمساحات واسعة خلال المعارك في وقت زمني قصير.وأنها حققت اهدافها السياسية من القتال والغزو والاحتلال على المستوى التكتيكى المباشر ،وعلى المستوى الاستراتيجى الكلى .هى كانت تحقق "انتصارا " في عملياتها العسكرية المباشرة ،باخلاء المقاومة من المواقع التى تسيطر عليها –كما حدث في لبنان مثلا-وبتغيير الأوضاع على الأرض ،بما يغير حالة الصراع بإنهاء دور "الخصم" في المنطقة محل المعركة ،وهو معنى تحقيق أهداف سياسية واستراتيجية .بعد اجتياح لبنان في عام 82 ،إذ خرجت قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان ،كما غادرت القيادة الفلسطينية ذات البلد ،لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ،لا يوجد فيها تماس بين المقاومة وقوات العدو ،ومن بعدها بدات مرحلة من التنازلات السياسية والاستراتيجية على الجانب الفلسطينى.والأهم هو ان القضية الفلسطينية كانت بعد هذه المعارك ، تشهد تراجعا على صعيد المواقف الشعبية والرسمية في المنطقة العربية ،التى كانت القضية على نحو ما ،هي المنطقة الأبرز في العالم الإسلامي التي تمارس الصراع ضد الوجود الصهيوني.

وإذا شئنا الخروج من تلك العموميات أو من المراحل السابقة ،والوصول الى استخلاص محدد يتعلق بحالة المقاومة ما بعد تنفيذ اتفاق اوسلوا ،فان التجربة الابرز للعمل المقاوم التى يمكن مقارنتها بالوضع الراهن ،هى تجربة المقاومة مع الاجتياح الصهيونى ما بعد فشل مفاوضت كامب ديفيد 2 التى جرت بين عرفات وباراك (كان رئيسا للوزراء الصهيونى وقتها) .إن مقارنة ما جرى في التجربتين للمقاومة مع ذات الجيش الصهيونى -الذى كان في حالة اجتياح واحتلال ايضا - هى ذاتها ما تجعل القول بالتطور النوعي في قدرات المقاومة هو الحادث الان ،واننا امام تغيير حقيقي في توازنات الصراع الجاري حول فلسطين ،وفق حالة الصراع بين المقاومة والجيش الصهيونى والفصائل الفلسطينية اجمالا والكيان الصهيونى .

في الاجتياح الصهيوني للمدن والاراضى الفلسطينية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2 ،استخدمت القوات الصهيونية الطائرات ثابتة الجناح وطائرات الهليوكبتر والدبابات ،كما استخدمت الزوارق الحربية في قصف غزة –وقتها- حتى تمكنت من احتلال المدن الفلسطينية ،ووصلت الى مقر قيادة الرئيس الفلسطينى عرفات وحاصرته لشهور طويلة ،الى أن نفذت إليه لتغتاله بالسم .لقد جرى الهجوم في عدة أيام لم تطل ،ووقتها سطر المجاهدون الفلسطينيين ملاحم في المقاومة ،كما توقف القوات الصهيونية طويلا دون قدرة على احتلال مخيم جنين الذى شكل واحدة من أهم المعارك في هذا الصراع .لكن القيادة الصهيونية كانت تمكنت من أحداث تغيير في السلطة الفلسطينية وتوجهاتها بعد قتل عرفات ووصول محمود عباس الى قمة السلطة ،لنجد أنفسنا أمام رئيس للسلطةهو الذى يهاجم ويطارد المقاومة وكل المنتمين لفصائها –بما ذلك شهداء الأقصى-تحت ظلال عودة الجيش الصهيونى للسيطرة والاحتلال للمناطق التى كانت تسيطر عليها السلطة ،لتظل لا تبرح مكان منها الا بعد دخول شرطة فلسطينية مهمتها الجوهرية هى مطاردة المقاومين عسكريا وسياسيا وايداعهم السجون ،كما واصلت تلك السلطة لعبة المفاوضات التى سميت في تلك المرحلة مفاوضات انابوليس .

لكننا في معركة غزة أمام وضع جديد كليا . الجيش الصهيونى أصبح أشد خبرة وأكبر عدة وعتادا بعد تجربته في الاجتياح الأول للأراضي الفلسطينية وفي الحرب اللبنانية . كما هو  استخدم كل الادوات القتالية من طائرات مختلفة ودبابات ومدفعية -دخلت قيد الاستخدام مع بدء العمليات البرية –يعنى اننا أمام جيش أقوى مما كان في حالة الاجتياح السابق.

وفي المقابل ،فإننا نجد أن المقاومة الفلسطينية في غزة ،تقاتل في هذه المعركة ضمن حيز محدود ومحاصر هو قطاع غزة ،كما هى تقاتل،بمجتمع محاصر ومحصور على كل المستويات السياسية والاقتصادية والإغاثى والطبية ،كما أن المقاومة هي في وضع اضعف على مستوى المساهمة في فعالياتها ،بعد أن لم يعد يساهم فيها كل الفصائل التي كانت تقاتل في الاجتياح الصهيوني السابق ، حيث شهداء الأقصى لم تعلن مساهمتها في المعركة الجارية وهى التنظيم العسكرى الذى يمثل القوة الثانية ان لم يكن الاولى على مستوى عدد المقاتلين وتسليحهم (على الاقل خلال الاجتياح السابق ).

والخلاصة هنا ،أننا أمام وضع أفضل للجيش الصهيونى ،ووضع أضعف للمقاومة بالمقارنة بما كانت عليه الأوضاع خلال الصراع ما بعد كامب ديفيد 2 ،خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن غزة ما تزال وحدها من يقاتل دون الضفة الغربية.

لكن وقائع المعركة –رغم كل هذه المعطيات –تشير إلى تحقيق المقاومة نقلة استراتيجية .

في وقائع العدوان، فقد احتاجت القوات الصهيونية إلى أسبوع كامل من القصف بالطائرات والزوارق الحربية وكأننا نتابع وقائع العدوان على العراق لا على غزة ،حين واصلت القوات الامريكية قصفها لبغداد وبقية مناطق العراق حوالى الأسبوع قبل الدخول بقواتها البرية إلى قطاع غزة.وفي دخول القوات البرية فقد احتاجت القوات الصهيونية لاستخدام مدافع الميدان ،كما أن الدخول والاجتياح لأراض غزة ،قد جرى وفق نظرية احتلال الفراغ اولا ،اذ كل الطرق التى سلكتها القوات الصهيونية في توغلها داخل غزة ،كانت اراضى خالية من السكان ومن مواقع المقاومة التى لا تقيم قواعدها –وفق نظرية عمل المقاومة في كل أنحاء العالم –في مناطق الفراغ السكاني ،وإلا تعرضت للابادة تحت قصف الطائرات والدبابات والمدفعية.كما يلاحظ أن القوات الصهيونية قد احتاجت الى وقفة تعبوية بعد اليوم الأول لتوغلها في أراضي الفراغ لإعادة تجميع قوتها، وربما انتظارا لعمليات استدعاء الاف الجنود اذ جرى هذا الاستدعاء فعلا قبل بدء المرحلة الثانية من العمليات البرية .

وفي وقائع المواجهة ،فإن المجتمع الفلسطيني في غزة ،قد أثبت صبرا وقدرة على تحمل هذا العدوان الإجرامى بكل الأسلحة الصهيونية ،رغم الحصار والشهداء والجرحى -وكذا رغم الضعف المريع للموقف الرسمى العربى والدولى -كما المقاومة في غزة قد تمكنت منذ بداية العدوان وحتى الان ،من المحافظة على نفس معدل اطلاقها للصواريخ على المستعمرات والمدن الصهيونية ،بما يشير إلى تمتعها بالإرادة والتصميم وبالقدرة على مواصلة المقاومة ،وكذا أن المقاومة تتمتع بالقدرة الاستراتيجية على إدارة المعركة ،كما هو واضح من إدارة المواجهة مع التقدم البرى، إذ أوقعت المقاومة خسائر ليست قليلة بالقوات المتقدمة رغم عدم انجرار المقاومة الى مواجهة مباشرة مع القوات المتوغلة حتى تفقد ميزاتها في القتال.

هنا يبدوا الوضع في حسابات نتائج المعركة ،أن المقاومة نجحت في خوض حرب مباشرة واسعة مع الجيش الصهيوني ،وفي ذلك هى تحقق تقدما نوعيا في طبيعة خوض المعركة إذ هى من قبل لم تكن تخوض مثل هذه الحرب الواسعة والمباشرة من قبل ،كما أن المقاومة تمكنت من جر القوات الصهيونية إلى مواجهة معها هى على الأرض التى تسيطر عليها المقاومة سيطرة كاملة-بفعل أن السلطة والمقاومة هى أمر واحد دون مواربة او مناورة  -وهو أمر مختلف عن المعارك السابقة في الضفة وغزة خلال الاجتياح السابق ،بسبب الوجود العسكرى الصهيونى داخل إطار الأرض التى تجرى عليها المعركة مباشرة وبحكم طبيعة وظرف السلطة خلال العمليات والمعركة السابقة .وكذا فإن المقاومة نجحت في إطالة أمد المعركة وفق استراتيجية خططت لها هى وهو تحول هام في قدرة المقاومة على خوض حرب مباشرة وطويلة وهو الأشد إنهاكا لقدرة الجيش الصهيوني .

وفي ذلك يمكن القول بأن نجاح القوات الصهيونية في احتلال مناطق في غزة هو في حد ذاته أحد تجليات قدرة المقاومة على جر تلك القوات الى مواجهة تمكنها من مواجهتها على نحو افضل مما كانت تجرى عليه العمليات من قبل .

وفي حسابات التوازن الاستراتيجى أيضا ،فإن المقاومة قد حققت حالة من التوازن ،ولو نسبيا تذكر بما حدث خلال الصراع مع لبنان فيما يسمة اتفاق مايو –ايار،تتبادل فيه القصف في العمق مع العدو.

 

احتلال المدن

والملاحظ في التصريحات الصادرة عن القيادات الصهيونية ،أن ثمة حالة من الغموض والضبابية على نحو ما ،كما التصريحات تجرى تنازليا فيما يصدر منها حول اهداف العدوان.في حالة التراجع في اهداف الصهاينة من شن العدوان ،ففي البداية جرى الحديث عن القضاء على حماس ،ثم جرى التراجع في الاهداف ليكون الحديث عن مجرد اضعاف حماس ،كما كان الحديث جرى في بداية العملية عن وقف إطلاق الصواريخ ثم جرى التراجع ليكون الهدف هو تقليل عدد الصواريخ وهو ما فسره المراقبون والمتابعون بانه ناتج عن ضعف الإنجاز الصهيونى على ارض المعركة.وهنا يبدو من الضرورى لفت الانتباه الى الفارق بين الغموض والحالة التنازلية في التصريحات ،إذ التصريحات المتراجعة انما هى تضبط حسب خطط سير والمعركة وحسب الاوضاع الداخلية على كلا الجبهتين الفلسطينية والصهيونية .كما يمكن القول أيضا إن الصهاينة قد يقصدون من التراجع عدم تحديد أهداف محددة للعمليات العسكرية لكى تأتي الأهداف وفق ما يتحقق على الارض في ضوء سير العمليات فعليا ،ولكن حالة الغموض إنما يقصد منها تضليل الراى العام وربما المقاومة عن خططها القتالية ،والنموذج الأول هنا ،هو تلك التصريحات التى صدرت بشان تبرير أسباب الاستدعاء الجديدة لالاف الجنود الصهاينة خلال الساعات الماضية ،إذ جرى تبريرها بأنها حالة تحسبية لاحتمالات اندلاع أعمال قتالية على الجبهة الشمالية أو في الضفة الغربية وهو ما يشير لاحتمالات التوغل في المدن الفلسطينية ،والنموذج الثانى هو تلك التصريحات الصادرة حول عدم نية القوات الصهيونية احتلال غزة ،التي أدلى بها رئيس الكيان الصهيونى مجرم قانا شيمون بيريز .إذ واقع الحال أن احتلال احد المدن هو احتمال قائم ،وإن مؤشرات على هذه الخطوة تظهر وتختفي بين الحين والآخر ،كما هى يمكن أن توصف بأنها المرحلة الثالثة من خطة العدوان التى يجرى الإعداد للانتقال إليها الان.

هذه الخطوة الصهيونية ،لن تجرى كما يتوقع البعض من خلال هجوم مباغت كبير ومفاجئ ،وانما هى ستاتى عبر مرحلة من التحضير الذى قد يطول بعض من الوقت ،كما هى لن تجرى وفق الحالة المتصورة من هجوم وحرب مدن تقليدية .التحضير للهجوم على المدن ،سيجرى عبر حالة انهاك للمدن من خلال الحصار الذى تحقق عبر تقسيم القطاع ومنع التواصل بين مدنه ،وعبر هجمات محدودة ثم التراجع ،وعبر اعمال مفاجئة باستخدام طائرات الهيلوكبتر في بعض المناطق والأحياء الطرفية في المدن ...الخ .

وفي ذلك ،فنحن أمام تطور لفعل المقاومة وقدراتها واستراتيجيتها أيضا ،بما هو مخنلف عن ما جرى في تجربة الاجتياح السابقة ،اذ المقاومة هنا قدرتها على الدفاع عن المدن الفلسطينية ،وعلى إطالة المعركة وفق نظرية إنهاك الجيش المهاجم وإرباكه من خلال التعرض الهجومى لا الدفاعى –وفق نظرية إنهاك الثعبان المختفي –إذ المقاومة تهاجم ولا تدافع ابدا .

وهنا يطرح السؤال :وهل يظل القول صحيحا حتى لو نجحت القوات الصهيونية في احتلال أطراف بعض المدن خاصة مدينة غزة ؟

 

نعم :الأمر يبقى صحيحا تماما ،بل ان احتلال اطراف المدن يؤكد قدرة المقاومة ولس العكس .فالمقاومة ليست جيشا يدافع عن مناطق ومواقع ثابتة ،بل ان نجاحها يتلخص في جر الجيش النظاكى المهاجم للدخول في معركة تجيد هى طرقها وأساليبها وتتناسب مع طبيعة تسليحها بما ينهك هذا الجيش عبر خسائر لا يحتملها ،اذ هو كلما توغل ضعف وانهك .

والمعنى هنا ،هو أن استمرار المعركة وتواصلها ،دون قدرة الجيش الصهيونى على حسمها ،واستدراجه الى داخل المدن –مع توفر القدرة على استمرار الهجمات ضد-هو اكثر ما يؤكد وصزل المقاومة على قدرة وتحقيقها نقلة نوعية واستراتيجية في الصراع .