لقطات من غزة
19 محرم 1430
أمير سعيد







لا يصلح القلم مكاناً للاختباء خلفه، ولا الدموع أن تسترد ما راح تحت الركام، وما بقي في النفس إلا رجاءً من ذي الطول بانتصار الأبطال، الذين تنبلج شموس النصر من وجوههم إذ أقبلوا على الثغور..
لا مجال اليوم لمقالات ودراسات، فالأعين إلى شريط الأخبار أقرب طمعاً في سماع ما يثلج النفوس، ويشفي صدور قوم مؤمنين.. ولحسن القدر فقد أرانا الأبطال ما نحب على مدى الأيام القليلة الماضية.. وإنما حسبنا أن نجول بخواطرنا حول لقطات تراها أعيننا لا نملك إلا طرحها لعل في قراءتها سلواناً لمن كتب وقرأ على السواء:

•    صواريخ العرب العبثية: لم يحدثنا أحد "النجباء" السياسيين أو الإعلاميين العرب الملتصقين بهم عن فائدة الصواريخ العربية العبثية التي جرى ابتياعها من الدول الكبرى بعشرات المليارات من الدولارات، ولا يبدو أن ثمة مجال لاستخدامها أبداً في أي صراع أو مجال، سوى في المناورات مع الولايات المتحدة الأمريكية لاختبارها مجانياً.. فما أقرب هذا التفسير لأقوال أجدادهم { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  } [التوبة: 79]
•    صواريخ حماس العبثية التي أضاءت سماء أسدود ليراها المسافرون على طريقها السريع على بعد كيلو مترات: لم يقدم "النجباء" هؤلاء توضيحاً بشأن استدعاء العدو لقواته الاحتياطية، وحشد ثلث جيشه على جبهة غزة، والتضحية بقوات النخبة ممثلة بلواء جولاني وغيره، من أجل هذه الصواريخ التي "تعبث" بأمن الكيان الصهيوني، ولم يجب أحدهم كذلك عن هذا الكيان كيف له يغامر بخسارة عسكرية ثقيلة تتبدى ملامحها الآن من أجل إيقاف "صواريخ عبثية" لا تؤثر في أمن "إسرائيل" شيئاً، ولا يفسرون أيضاً رغبة الكيان الصهيوني في تأمين "حدوده" فيما يحجمون ـ أحياناً ـ عن حماية حدودهم!!
•    على حماس أن تقبل بالاستسلام، وأن تنتظم في سلسلة المستسلمين وأن تقف في آخر طابور الخزي، وإلا أصبحت لا تريد السلام، وتغامر بأرواح الشهداء، ولابد أن نظهرها كذلك أمام العالم كله.. هذا ما يسعى إليه ساركوزي وغيره.
•    في ظل الدعوة لقمم في عدة عواصم، يبقى السؤال الجوهري هو: إذا عقدت القمم أو لم تعقد، ما الفارق؟ وما الفارق بين وحدة كل الأصفار أو حالة استقطاب صفرية؟ وما العائد على أطفال غزة من تكلفة العواصم بأموال المؤتمرات؟ صحيح أن مشكلة عقد القمة قد أصبحت الآن أهم من مشكلة ما ينتج عنها من قرارات قد تعفنت سابقاتها في أدراج الجامعة العربية، وأن هذه أضحت معضلة عجز القادة والزعماء على حلها، لكنها في الحقيقة ليست معضلة عند الشعوب المكلومة؛ فـ"اختلافهم رحمة"، أما اتفاقهم فمستبعد الآن إلا في حال قرر بوش أو أوباما حضور القمة!!
•    لست أدري حقيقة، هل لم تزل هناك معوقات تمنع وصول مزيد من الأطباء العرب إلى غزة للمساهمة في تطبيب المصابين أم أن الأطباء العرب والمسلمين قد اكتفوا بإرسال 66 طبيباً نيابة عنهم؟
•    لم نزل غير قادرين على كسر الطوق الإعلامي الذي يضربه العدو على قتلاه وجرحاه، وهي قضية سيلزم المقاومة الفلسطينية والإعلام المقاوم كله العمل على التغلب عليها، وإن كانت المقاومة لم تقصر في ذلك، لكن الإعلام المصاحب لم يزل دون المأمول منه، وأبسط ما يقال هنا أن خسائر الصهاينة ليست منطقية بالمرة مع فداحة العمليات العسكرية والشراك المحكمة التي نفذت خلال الحرب الجارية بمرحلتيها، ولفت الانتباه إلى أن العدو أعلن عن ضحايا قليلين من سكان المستوطنات، لكنه أحجم تماماً عن ذكر آثار القصف الفلسطيني على القواعد العسكرية الصهيونية المختلفة، وهو ما يثير الارتياب كثيراً ويؤهل لفتح هذا الملف بقوة والتنبيه إلى عدم الخضوع لبلاغات العدو العسكرية.
•    سيكون على المسلمين في العالم استغلال الأجواء المتعاطفة مع غزة وحقها العادل في التعريف بالإسلام وعدالة قضايا المسلمين، وسيتوجب على أولي النهى وضع البرامج لذلك وإدخالها حيز التنفيذ.
•    أثبتت غزة أنها عفية رغم النزيف، وأثبتت شعوبنا رغم تحرك النزر القليل منها أنها دون المأساة بكثير، وأن الوهن قد أصاب معظم شعوبنا، ويضن بعضها على غزة حتى بدمعة عين..
•    ينبغي التذكير بصوت عالٍ أن غزة منذ سنوات حرة، فيما الضفة لم تزل تحت الاحتلال، وأن العدو بوسعه أن يدك البيوت والمساجد في غزة لكنه لم يتمكن من كسر إرادتها، فيما يمكن للعدو التجول بحرية مطلقة في الضفة.. نجح عباس في الضفة فيما فشل فيه الصهاينة بغزة..
•    في غزة 1800 مسجداً، هدم العدو منها 20 مسجداً، وبقيت المساجد حرة، يرفع فيها الأذان والصوت، لا تغلق بعد الصلوات، ولا يكتب عنها وفيها التقارير، ويعتكف بها من يعتكف، ويتحدث فيها الخطباء بما تمليه عليهم ضمائرهم الحية.. خطبهم ليست معولبة، وكلماتهم مستقلة، أوراقها مختومة بمسك لا بأختام الأجهزة.. إنه وجه للحقيقة لا يراه الانهزاميون.
•    أعادت المقاومة الفلسطينية الوجه الحقيقي للمقاومة والجهاد، ونظفت ما علق به من تشوهات، ووجهت بنادقها في الاتجاه الصحيح، وأعادت بنادق المسلمين إلى وجهتها الصحيحة، ورفعت راية ظاهرة بظهور هذا الدين في العالمين.
•    أثبت إردوجان أنه أكثر "راديكالية" إسلامية من أصحاب الخطاب التعبوي المفتقر إلى الفاعلية في نصرة غزة، وحيث تتفق حماس مع الفصائل الفلسطينية في أن توسيع نطاق الحرب واستهداف مصالح "إسرائيلية" في الخارج ليس في مصلحة القضية الفلسطينية؛ فإن السؤال المطروح الآن هو حول مدى اتفاق الراديكاليين عملياً مع ما كانوا ينتقدونه من قبل في سلوك حماس.
•    اتُّهم الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان في نهايات أربعينات القرن الماضي بتصدير أسلحة فاسدة إلى الفلسطينيين، واعتبرها العرب حينها خيانة ما بعدها خيانة، لكن حتى هذه الأسلحة الفاسدة ضن بها العرب اليوم على المقاومة الفلسطينية، ربما لظنهم أن أهل غزة قادرون على إصلاحها والإفادة بها!!
•    الدرس الذي وعته دوائر صنع القرار في الغرب أن الحرية هو أكبر سلاح يمكن للشعوب اتخاذه ضدها، ولن يفوتهم درس تركيا ومظاهرات اسطنبول؛ فليبشر العرب بمزيد من المساندة الغربية بخنق الصوت الغاضب في حناجر الأحرار العرب.
•    كانوا يحكمون طوقهم حول المظاهرة من جميع الجهات.. تأملتهم وهو يتمتمون بصوت خافض في خفية خلف الخطيب وهو يدعو على "إسرائيل"..
•    في هذا التوقيت بالضبط أي بعد 19 يوماً من الحرب، احتلت بغداد من قبل جيوش الاحتلال الغربية، وبعد 18 يوماً تم تنفيذ وقف إطلاق النار بين مصر و"إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، وفي كلاهما لم يتمكن الطرف الأضعف (العراق و"إسرائيل") من مواصلة الحرب، لكن حماس ومعها الفصائل الشريفة لم تزل قادرة على الصمود وإيقاف القوات الصهيونية عند حدود غزة.. الاستسلاميون يتعجبون لهذه البطولة الفائقة؛ لذا فهم يصرخون بحماس استسلموا!!
•    بذلت وسائل إعلام عربية رسمية كثيرة جهداً كبيرة، وحشدت طاقتها، واستنفرت طواقمها لإدانة حماس!! أنفقوا أموالاً طائلة.. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة.. 

وأحداث غزة ستظل فياضة بالمعاني، ولسوف يدرك من أشعلوها أنهم قد خسروا خسراناً مبيناً، إذ شكلت أكبر دعاية ليس للفلسطينيين وحدهم، وعدالة قضيتهم، وإنما للإسلام ذاته ومهدت الطريق للتعريف به وتجسيد معانيه حين يصنع إنساناً لا يقدر الغرب ولا الشرق بما أوتيا أن يصنعانه، من معاني الإخاء والمروءة والشجاعة والتضحية حتى الرمق الأخير، وستظل دماء الشهداء علامة حمراء تقطع الطريق على كل طامع محتل.. إن الشهداء أبدا لا يموتون بل يستشهدون.. يشهدهم الله على عباده، ويشهدون جنة عرضها الأرض والسماء.. لا ينقطع عطاؤهم ولا أثرهم.. سيظلون يشهدون بأن في الأمة بقية خير، تضيء للأمة ـ بل للبشرية ـ الطريق.. إنها لحظة فارقة في تاريخ هذه الأمة، ولسوف لن يكون عالم ما بعد غزة، كما قبلها، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 21]..