الأيوبيون بعد صلاح الدين.. ومشروعية القراءة الوظيفية للتاريخ
7 جمادى الثانية 1430
هشام منور

يدور جدل كبير حول الكتب التي تتناول مرحلة تاريخية معينة بالتوثيق والتحليل والقراءة ومدى مشروعية تجاوز المؤلف أو الباحث دوره التوثيقي الأكاديمي في رصد أبعاد وسمات مرحلة ما إلى محاولة قراءة تلك الأحداث وإسقاطها تالياً على الواقع الراهن الذي قد يتشابه مع تلك المرحلة في بعض الملامح والأحداث والوسائل المتبعة في حل الأزمات.

 

والدكتور (علي محمد الصلابي) في كتابه السابق (صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس) أو في كتابه الجديد (الأيوبيون بعد صلاح الدين: الحملات الصليبية الرابعة الخامسة السادسة والسابعة، نشر دار المعرفة، دمشق، طبعة أولى، 2009م) يحاول قراءة التاريخ، انطلاقاً من مفهومين، هما: قراءة التاريخ، ومن ثم الوعي بهذا التاريخ ومحاولة إسقاط فهمه وتوظيفه لقراءة الحاضر بغية تغييره  مع القيام بمحاولة استشراف المستقبل.

 

ويشكل الكتابان صورة واحدة تكمل جهود المؤلف واهتمامه بالحروب الصليبية توثيقاً وعرضاً وتحليلاً، وتالياً توظيفاً وإسقاطاً، وفيما طرح (الصلابي) في كتابه الأول عن صلاح الدين رؤيته عن صراع المشاريع في ذلك العصر بين المشروع الصليبي، والمشروع السني (الذي تمثله الدولة الأيوبية)، والمشروع الشيعي (الذي تمثله الدولة العبيدية أوالفاطمية)، فإن كتابه الجديد (الأيوبيون بعد صلاح الدين) يعد رصداً لاستمرار هذا الصراع الذي أضحى بعد وفاة صلاح الدين رباعياً مع بداية ظهور المشروع المغولي.

 

تتناول الفصول الأولى من الكتاب صراعات البيت الأيوبي بعد وفاة صلاح الدين، بين أبناء صلاح الدين وإخوته، وبالذات صراع الملك العادل شقيق صلاح الدين مع أبناء إخوته وأثر ذلك على مصر وبلاد الشام والعراق وتركيا، وعلاقة الدولة الأيوبية ببعض الدويلات الواقعة على تخومها كالزنكيين والسلجوقيين والخوارزميين وإمارة حلب وغيرها، فضلاً عن علاقتها بالخليفة العباسي في بغداد. وما تلا ذلك من حسم الملك العادل للصراع وتوريثه الحكم لابنه الملك الكامل، ومن ثم تمكن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل من توحيد البيت الأيوبي، الذي ما لبث أن تشرذم ليحل المماليك محله في كل من الشام ومصر، شارحاً أسباب سقوط دولتهم وزوالها.

 

ثم يعرض الكتاب لتفاصيل الحملات الصليبية الأربع التي عرفتها فترة ما بعد صلاح الدين، مبيناً جذور الصراع بين الإمبراطورية البيزنطية والفاتيكان، ووقوف (البابا أنوسنت) الثالث وراء الحملة الرابعة التي كان هدفها السيطرة على بلاد الشام. أما الحملة الصليبية الخامسة التي تزامنت مع وفاة الملك العادل، فقد كانت حملة ضخمة جهزها ملوك أوروبا معاً وانتهت بهزيمة نكراء برغم سيطرة جيوش الحملة  على دمياط المصرية.

 

أما الحملة السادسة، فكان قائدها الإمبراطور الروماني وملك صقلية (فردريك الثاني) الذي استطاع انتزاع بيت المقدس من الأيوبيين في صلح يافا مع الملك الكامل. فيما عرفت الحملة الصليبية السابعة في عهد الملك الصالح بن الملك الكامل نصراً مدوياً للدولة الأيوبية تكلل بسقوط الإمبراطور الفرنسي لويس التاسع أسيراً. والمؤلف يعيد أسباب هزيمة هذه الحملة إلى قوة تنظيم الجيش الأيوبي ووحدة الصف الإسلامي، ومشاركة العلماء (القاضي الفاضل، وابن قدامة، والعز بن عبد السلام، والقرافي، والقرطبي) في شحذ الهمم وحثّ الناس على الجهاد، فضلاً عن جهل الصليبيين للواقع الجغرافي للبلاد الإسلامية، واستبسال المماليك بمصر في الدفاع عن ديار الإسلام.

 

ثم يتناول الكتاب الآثار المعرفية والثقافية للحروب الصليبية في العصر الأيوبي، فقد شهدت تلك المرحلة قطيعة على المستوى العسكري، وتواصلاً على المستوى المعرفي والثقافي. فعرفت جدالاً على مستوى العقائد (اختلاف الأناجيل، وإبطال التثليث، ونفي الألوهية عن عيسى عليه السلام، ودعوى خصوصية الإسلام بالعرب، ودعوى تعظيم الإسلام للنصارى والنصرانية، ودعوى انتشار الإسلام بالسيف،...). وتم تطوير أساليب نقاش المسلمين مع النصارى (السبروالتقسيم، وقياس الأَوْلى، والمحاكمات العقلية، والاستدلال، وأسلوب الترهيب،...). وكان من نتائج ذلك دخول كثير من المسيحيين في الإسلام، وتحسن نظرتهم إلى الإسلام، وإعجاب بعض ملوك أوروبا بالعقيدة الإسلامية.

 

والحال أن كتب الباحث (الصلابي) إذ نجحت في تسليط الضوء على حقبة تاريخية مهمة من التاريخ الإسلامي، فإن المنهج الذي اتبعه المؤلف في كتابه لا يزال محل نظر وجدل حول مشروعيته لجهة مدى قدرة كاتب التاريخ وموثقه على القيام بقراءة التاريخ والتزام الموضوعية والعلمية في عمله في الآن ذاته، وهو الأمر الذي لم يتم حسمه بعد.