أوباما بعد خطابه.. أنام ملء جفوني
16 جمادى الثانية 1430
أمير سعيد







كما المتنبي، يحق للرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يردد: "أنام ملء جفوني عن شواردها، ويسهر الخلق جراها ويختصمُ"، بما يمكن معه اعتبار خطابه في جامعة القاهرة بمثابة قنبلة انشطارية أصابت شظاياها كل وسائل الإعلام العربية والغربية، ومراكز البحوث ودوائر صنع القرار في المنطقة العربية والحوض الإسلامي وأوروبا والولايات المتحدة ذاتها.

 

الخطاب إذن على درجة عالية من الأهمية، سواء أكان ذلك يرضينا أم لا، لا لكونه سيترجم آمالاً يعقدها بعض المسلمين عليه أم لا، وإنما لما رافقه من اهتمام كبير، وما استتبعه من آثار على الأصعدة المختلفة.

 

لقد خاض أوباما فيه معركة من نوع آخر غير تلك التي ابتدرها سلفه جورج بوش عندما اخترقت الطائرتان برجي التجارة العالمي، وهي معركة منتظرة على كل حال؛ فالأجواء التي ظللت المزاج الأمريكي في شقيه النخبوي والجماهيري هيأت المناخ لهذا الخطاب، والتداعيات الخطيرة التي خلفتها سياسة المحافظين قذفت بتلك الأوراق الهادئة بين يدي أوباما. بيد أنه ما قد شنف آذان البعض لدى سماعه كان متوقعاً لدى آخرين؛ فالمتتبع لتاريخ الحكم في واشنطن يدرك أن لكلا الحزبين الكبيرين دوره في السياسة الخارجية والداخلية تستدعي أحدهما للحظة مناسبة، وترجئ الآخر لما يستلزمها.

 

معلوم أن الدور الوظيفي للحزب الجمهوري ـ في غالب الأحيان ـ وعلى مر العقود الطويلة الماضية هو إضرام الحروب، ويحين موعد الديمقراطيين لترتيب الأوضاع لا إخماد الحروب لزاماً، وهذا الدور لا يبدو أنه قد تغير كثيراً في حالة أوباما. وما يجري الحديث عنه من فرادة الرجل صحيح لا مراء فيه، وهو يتحدث بلغة آسرة وعبارات خلابة، ويتمتع بكاريزما لا يمكن إقصاؤها من التحليل، لكن أليس هذا هو ما تستدعيه اللحظة حقيقة وفقاً لقاعدة رد الفعل؟!

 

إن العهد السابق كان ينفذ سياسات توسعية بطريقة خرقاء ولغة رعناء، فاقمت من صورة الولايات المتحدة السلبية في العالم الإسلامي، ولم يكن في ذلك ما يمثل قيمة تلتفت إليها الإدارة السابقة، لكن الأمر الآن مع اتساع رقعة التورط الأمريكي العسكري، والاستنزاف المادي الضخم في أكثر من ملف، وتحول العالم ـ بفضل السياسة الخارجية الأمريكية السابقة ـ إلى عالم متعدد الأقطاب والقوى بدلاً من القطب الواحد، والتشقق الاقتصادي في بنية النظام الرأسمالي الأمريكي، ما نزف منه جنرال موتورز قطرات إفلاسه، جعلتنا نسمع موعظة دينية من الرئيس الأمريكي زاخرة بالآيات القرآنية الشريفة، وهيأت الظروف لنرى هيلاري كلينتون مرتدية الحجاب!!

 

لا نريد أن نستدعي إلى الأذهان صورة نابليون وهو يرتدي العمامة العثمانية والجُبة ويخطب في الناس بالقاهرة قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله الا الله، وحده، لا شريك له (..) يا سكان مصر قد يقول لكم الوشاة إنني جئت لأحطم دينكم ولكن هذا القول يكذب أهله.. قولوا لهم أني أحب الله أكثر من المماليك، وإنني احترم نبيه محمدا والقرآن العظيم (..) يا شيوخ، ويا قضاة وأئمة وزعماء هذا البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنسيين هم أيضا مسلمون حقيقيون مثلكم"، ولا نريد ألا نطفئ على المتفائلين فرحتهم، ولكن نود أن نكون أكثر تعقلاً في قراءة خطاب الرئيس الأمريكي ذي الجذور الإسلامية، ونتلمس جوانب يمكن البناء عليها من خلاله، لا من حيث الثقة في عباراته، وإنما في دلالات هذه العبارات وما دفعته إلى ترديدها على هذا النحو، وأيضاً ما سينسحب تلقائياً على سياسات عربية ترى أنها قد تمكنت بالفعل من التحرر من ضغوط وغطرسة سلفه.

 

وسيكون لطيفاً أن نجد زعماءنا العرب من بعد يستشهدون بالآيات والأحاديث في خطبهم من دون أن يخشوا من اتهامهم بالتطرف أو يشعر بعضهم بالخجل!! وأيضاً ربما ستلتفت بعض دولنا العربية إلى الكنوز الأثرية الإسلامية التي تتعرض كثيراً للإهمال، إذ قد يزورها رئيس أمريكي يوماً ما!! وقد لا يجد بعض وزراء إعلامنا غضاضة في ارتداء مذيعاتهن الحجاب طالما أن الرئيس أوباما لا يرى غضاضة في ارتداء كلينتون الحجاب!!

 

لكن بعيداً عن المفارقات والمضحكات في الزيارة، ثمة ما يمكن ملاحظته بجلاء فيها وفيما يرافقها؛ فالنظرة الأمريكية لم تتغير حقيقة في حماس، وهو أنه يجب ألا تكون موجودة الآن في الساحة الفلسطينية؛ لكن مقتضيات البراجماتية الأوباماوية تحكم بأن ينظر لها كحركة "تتمتع بدعم شعبي" لكنها بحاجة إلى تغيير أيديولوجيتها لتعترف بـ"إسرائيل" كي تحقق قدراً من التفاهم والتنازل الذي يمكنها من ممارسة السياسة وفقاً للشروط الأمريكية/"الإسرائيلية"، وهو لاشك تطور في منطوق السياسة الأمريكية دون خباياها التي لم تعارض أبداً قبول حماس بعد نجاحها في الانتخابات أولاً، ثم في سيطرتها على القطاع ثانياً إذا ما قبلت التخلي عن معتقداتها ومبادئها.

 

الجديد كان إذن في البوح بذلك على الملأ، وليس في الكواليس وهو ترسيخ لمبدأ احترام القوة الحاكمة الذي حاول أوباما إنكاره فأكده، والجديد كذلك كان في الحديث عن الصورة السلبية النمطية للإسلام في الغرب وضرورة تغييرها، وهنا لا يبدو الأمر بالغ الأهمية من حيث توقع عمل الإدارة الأمريكية على هذا التغيير، بل في كون الخطاب نفسه ربما فتح شهية غربيين لدراسة هذا الدين وقد يثير موجة جديدة من التعريف بالإسلام في الغرب، أو للاعتزاز به عند من فاجأهم الخطاب في شرقنا العربي من بعض متطرفي العلمانية العرب بأن في حضارتهم الإسلامية ما هو محل فخر البشرية وما يستوجب أن يحني لها الرئيس الأمريكي قبعته، بل فاجأهم بأن لا مأثرة ساقها أوباما في خطابه لهم سواها!

 

لم يكشف الخطاب عن تغيير كبير في السياسة الأمريكية، لكنه أبدى رغبة في لملمة بعض الملفات الشائكة والخروج من بعض الأزمات التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية، وهو في مجمله لا يجافي الثوابت الأساسية في الاستراتيجية الأمريكية، لكنه حمل تكتيكاً جديداً يصلح لتقليل فاتورة السياسة السابقة اقتصادياً وسياسياً وجماهيرياً، من دون أن يعيد السلعة المغتصبة إلى أصحابها؛ فلا العراق سيصبح تهديداً لـ"إسرائيل" إذا ما انسحب منه جنود أوباما بعدما تم تأمين وضعها بالنظام الجديد الموالي لدولة إقليمية، والاتفاقية الأمنية التي ترمق أمن "إسرائيل" وضرورته تكمن في كل سطر من بنودها، ولا حل الدولتين إلا ترديداً لسياسة يقبل عليها حكماء "إسرائيل" حقيقة للخروج من غائلة الضغط الفلسطيني الديموجرافي، كما أن معاناة الفلسطينيين في بلادهم ومعاناة اليهود في ألمانيا سواء!

 

الجديد في الحقيقة هو في الحديث عن الإسلام، ومخاطبة الشعوب بشكل مباشر وواضح يتجاوز النظم العربية والإسلامية، ويحاول أن يوجد قواسم ولو افتراضية يمكن من خلالها تجسير العلاقات مع العالم الإسلامي، على أرضية جديدة. هذه الأرضية لا تعني التفريط في ثوابت السياسة الأمريكية ولا مصالحها، وإنما تنفيذها بأدوات جديدة، ووفقاً لتكتيك مختلف.

 

والسؤال الآن: هل يمكن الإفادة من سياسة كهذه على صعيد بناء استراتيجية عربية وإسلامية مقابلة؟ في نظر البعض يبدو الأمر متاحاً بعض الشيء مع الابتعاد عن أوجه الصدام والإفادة من فترة تخلو نسبياً من الحروب ـ أو هكذا يُظن ـ في إقامة شراكة قوية في الداخلين العربي والإسلامي، ليس استناداً إلى "رحابة صدر أوباما"، وإنما للأجواء التي سيقت إليها الولايات المتحدة الأمريكية وأكدها خطاب أوباما ولغته التصالحية نوعاً ما والتي استفزت ما اصطلح على تسميته بـ"القوة الناعمة" والتي يمتلك العرب والمسلمون منها أضعاف ما يملكونه عسكرياً.

 

ومهما يكن من أمر؛ فالحاجة تبدو ملحة إلى تحليل خطاب أوباما بشيء من الواقعية السياسية وبناء الاستراتيجية التي تنفذ من ثغرات ـ أو لنقل للمتفائلين "القواسم المشتركة" ـ السياسة الأمريكية الجديدة تجاه العالم الإسلامي، وهي بالطبع تختلف نوعاً ما عن غيرها إبان حكم بوش الابن.

 

وأخيراً؛ فإن الأجواء التي حفت الزيارة وخطاب أوباما وجولاته السياحية التي نقلتها 30 قناة تليفزيونية تجعلني أقول: كالعادة وجدت في جماهير القراء وعياً في تناول الخطاب والزيارة أضعاف ما وجدته لدى "النخبة" التي اندفعت مرحبة أو ناقدة وفقاً لحسابات بعضها يتعلق بالخلفية الأيديولوجية المجافية لكثير في عالمنا الإسلامي، وبعضها يتعلق بمكان الخطاب ذاته لا فحواه، والذي حمل البعض على إدانته كله لا لأسباب فكرية نحترمها ونقدرها، وإنما على أساس اختيار القاهرة بدلاً من واشنطن لإلقاء الخطاب!!

 

لقد كان أوباما موفقاً إذ تحدث إلى الشعوب، وخاطبها بلغتها، وتجاوز كثيراً من المصفقين الذين تم اختيارهم بعناية إلى الجماهير ذاتها في محاولة دؤوبة لمحو "آثار العدوان" المستمر في الحقيقة حتى كتابة تلك السطور، وكان ذلك الأظهر في الزيارة بغض النظر عن توزيع أوقاتها [جولته بمصر حوت 75 دقيقة لقاءات سياسية و50 دقيقة مخاطبات للعالم الإسلامي و330 دقيقة سياحة (16,5% للسياسة ـ 10% للشعوب ـ 72,5 % للسياحة)]، وسيظل الجميع في عالمنا الإسلامي يخطئ حينما يدير ظهره للشعوب، ويقرأ المقال بدلاً من التعليقات..

 

[email protected]